حول الحرب الدائرة في السودان

ذات مصر

(1 )

ما جرى بالسودان كان متوقعا، فلا يمكن لجيش أن يكون فيه قائدان، حتى لو بدا بينهما توافق في البداية إلا وسيتصارعان. ولا يمكن لجيش أن يرمي نفسه في أعماق السياسة وتفاصيلها إلا وسيغرق في النهاية، ولا يمكن لجيش أن يسمح بوجود قوات أخرى برفقته أوامرها لا تصدر عن وزير الدفاع إلا وتقاتله.

ستنتهي الحرب الدائرة في السودان بنتيجة مهمة جدا، وهي اقتناع الشعب بأن غرق الجيش في أوحال السياسة أمر كارثي، وأن الحكم المدني ليس سبيل لحرية الشعوب وترقية عيشها فقط بل هو قضية "أمن قومي" أيضا. سيذهب عسكريو السودان إلى مهمتهم الأساسية، ويتركون الحكم لأهله، يخطئون ويصححون خطأهم، ويتقدمون في صبر وسلام.

( 2) 

الذين هللوا وكبروا حين قال لهم من خطب فيهم ذات يوم إن الأسطول السادس الأمريكي يتحرك لضرب الجيش المصري، هم الذين يتاجرون بصور جنود مصريين بمطار سوداني. جنودنا هناك باتفاق رسمي وليسوا طرفا في القتال، وتوظيفهم في الدعاية عمل رخيص، سواء في مصر أو السودان. الخلاف السياسي لا يبرر هذا أبدا.

إن مصر لا علاقة لها بصراع بين حميدتي والبرهان، وأي وجود مصري هناك تم بالاتفاق مع السلطات الرسمية، أي البرهان وحميدتي معا. مصر تتمنى، بل تعمل دوما، من أجل سودان مستقر، لأن هذا في صالحها. مفضوح إقحام اسم مصر في الصراع، جذبا لمشاعر متعصبين، ليؤيدوا حميدتي في مقتلة بدأها في رمضان.

للأسف تدفع الشعوب العربية دوما ثمن صراع الحمقى على السلطة. الشعب السوداني الآن صار مثالا صارخا على هذا. وللأسف أيضا، لا يقال "الله أكبر" عند جيوش العرب، منذ عقود، إلا في قتل بعضها بعضا، أو قتالها ضد شعوب مولتها من جيوبها.

( 3) 

إذا طال أمد الحرب، وعمت الفوضى، لا قدر الله، ستمتد عيون طامعين إلى أجزاء معينة في هذا البلد العزيز، خصوصا في الشرق حيث الموانئ المطلة على البحر الأحمر، والوسط حيث المناطق الخصبة، وفي الغرب حيث مناجم الذهب، وحلم الذين يريدون الانفصال. سيعزز الطامعون النزعات الانفصالية بمرور الوقت. وسيصبح مستقبل السودان في مهب الريح.

( 4) 

مع دوران عجلة الحرب في السودان نسي الإعلام، كعادته مع كل حرب، أن يحلل خصائص المجتمع السوداني وتركيبه، وطبيعته النفسية، وقيمه الثقافية. الجميع يتصور أن هذه مسائل هامشية، وليس لها محل من الإعراب الآن، أو أنها عنصر خامل لا علاقة له بالاشتعال، مع أن لها دورا في المجريات والنتائج.

( 5)

بينما المدافع تهدر والبنادق تقذف يتحدث الطرفان المتحاربان في السودان الشقيق، ويا للأسف، عن "حماية الديمقراطية" و"التحول الديمقراطي" و"مصالح الشعب العليا" و"الأمن القومي". هذه التعبيرات والتركيبات تم انتهاكها، بل اغتصابها، في الحياة السياسية العربية عامة، ومنذ زمن بعيد جدا.

(6)

نرى صور جنود من الجيش السوداني، ومن ميليشيا "الدعم السريع" كلما استولى أيهما على موقع أطلق أعيرة نارية كثيفة في الهواء ابتهاجا. كل رصاصة بثمن علبة لبن لطفل سوداني، أو أرغفة خبز تكفي أسرة ليوم. يشترون سلاحا يمال الشعب ليحكموه عنوة، ويتقاتلون على جثث الناس، وإن اعترضوا قتلوهم أيضا.

(7)

مبادرتان أخريان في الساحة: مصرية سعودية، ومصرية جنوب سودانية تدعوان لوقف فوري للقتال، وعودة إلي الحوار السياسي. أعتقد أن الطرفين المتحاربين لن يستجيبا لأي دعوة في هذا الإتجاه للأسف، فكل منهما يبدو عازما على حسم الأمور لصالحه، وبالتالي يتحكم منفردا في المسار السياسي فيما بعد.