عمار علي حسن يكتب: المستشار زكريا عبد العزيز وأيام لا تنسى

ذات مصر

في شقته البسيطة بحي "الشروق" جلس الرجل الذي كان يشغل الدنيا ذات يوم يستعرض "فيديوهات" قديمة، كان يطل فيها شامخا، ناظرا إلى البعيد، غير عابئ بأن يرى الناس هندامه الأنيق، ولا ملامحه الجادة، إنما إلى الكلمات التي تسكن فوق شفتيه، ولا تخرج إلا في اللقاءات المهيبة.

في هذا الزمن كان على رأس نادي القضاة، يقوده في مواجهة ضد السلطة دفاعا عن العدالة، ويصنع تاريخا مشهودا، لا يسقط بالتقادم، ويفتح مسربا، راح يتسع، حتى جاءت ثورة يناير المجيدة 2011,. إنه الرجل الذي هو مع العدل في استقامة كجسده الممشوق، بل أصلب عودا. 

هكذا أرى دوما سعادة المستشار زكريا عبد العزيز، رئيس نادي القضاة، ورئيس محكمة الاستئناف الأسبق، وقبل كل هذا ومعه، هو القاضي الجليل، الذي يؤمن دوما بأنه مريد متوكل في ساحة العدل الأكبر، وهو إيمان لا يتقول فيه ولا يزايد ولا يشاحن أو يزاحم، إنما يفعله ببساطة شديدة، وتلقائية وعفوية ظاهرة، وهذا لأن العدل كقيمة كبرى، والعدالة كمسار أساسي وأصيل للقضاء، ذائبة في نفسه، مختمرة في عقله، نابضة في عروقه.

أتابع حاله الآن، بمزيد من التدبر والاعتبار، وأقول لنفسي: يبقى في النهاية واقرا مستقرا في ذاكرة الناس والوطن من أخلص له، ومن آمن أن الاستجابة لما حلم به الشعب من حق، ليس سوى الحد الأول للكفاية، الذي لا يجب أن يتنازل عنه أحد، خاصة من سراة الناس أو نخبتهم، فكيف لأمرئ ذي سوية أن يتنازل عن العدل والحرية.

نعم، زكريا عبد العزيز، واحد من الذين لا يمكن لتاريخ بلادنا الحقيقي أن ينساهم، أو يتجاهلهم، مهما اشتدت الظروف التي تعمل على ترك جانبهم، وإهمال شأنهم، وإبعادهم عن دائرة الضوء التي يجب أن تكون دوما  مفعمة بعزائم الرجال القادرين على الفعل والإقدام والاستجابة. فما لمسته في قلب هذا الرجل من محبة لمصر، وإيمان بقيمها وقامتها، يكفي ليجعله واحدا من كبار المناضلين من أجل التقدم، الذين تُستدعي أسماؤهم، بلا تكلف ولا افتئات، حين يُكتب ليس فقط تاريخ القضاة المصري، إنما أيضا التاريخ السياسي لبلادنا، على وجه العموم.

رأيت هذا الرجل الكبير في حد ذاته،  للمرة الأولى، أيام انتفاضة القضاة ضد الرئيس الراحل حسني مبارك، إذ كنت أحضر لقاءاتهم المتتابعة، وقتها كان زكريا عبد العزيز رئيسا لناديهم. رأيته واقفا في شموخ، كأنه نخلة نابتة في طين مصر، الذي يعرفه هو جيدا. كان يعطي الكلمات إلى غيره، من القضاة، غير مستأثر بشيء، ولا راغبا في انفراد، وكان الأهم من كل هذا أنه بدا مؤمنا بأن استقلال القضاء ضرورة لا غنى عنها لأي دولة عصرية، تسعى إلى إقامة البنيان والنهوض، فالعدل أساس الملك، دائما وأبدا.

وتسألني أنت أيها القارئ: هل أصدرت حكما من رؤية الرجل عن بعد؟ وأجيبك: نعم رأيته هكذا في أيام اعتراض القضاة على ما جرح استقلالهم، في أواخر عهد مبارك، وكان أداؤه وقتها كافيا للحكم الظاهر على سماته وقسماته، ثم تابعته وهو يمضي قائلا وفاعلا في غمار ثورة يناير 2011 غير عابئ بالزحام والسخام والظلام، ووقتها تقاربنا بحكم التجربة السياسية الفائرة، وفي أيام الشدائد يعرف الرجال. شاركته، كابن ورفيق له، وتناقشنا طويلا حول أحوال الوطن، وكم وجدته من القلة القليلة التي تمتلك فضيلة إنكار الذات، تلك الفريضة الغائبة في حياتنا السياسية، إلا من استثناءات قليلة.

كان لهذا القاضي الجليل دور ملموس في حض الشباب على الالتزام بسلمية الثورة، هكذا رأيته يحدثهم في قلب ميدان التحرير وعلى أطرافه، وهو كرجل قانون رأى دوما أن العنف يفسد عدالة القضية، وأي جرائم ترتكب باسم انتزاع الحقوق، لن تفيد أبدا. وسمعته كثيرا يطلب من الثوار ألا يتصرفوا خارج القانون، وكان ينأى بنفسه عمن لا يلتزم بهذا، رغم النصائح، بل كان يشكك في ولائه للثورة، ويراه من المندسين أو المغرضين.

أيامها كان البعض يسألونه عن اشتغال القاضي بالسياسة، فكان يجيب إن مصر في لحظة استثنائية من تاريخها، يجب أن يشارك الجميع فيها، كل بما يعرف أو يفهم أو يقدر أو يجود، وأن القاضي يصدر أحكامه باسم الشعب، فإن أراد الشعب شيئا، عليه أن يكون معه، لا يخونه، ولا يخذله. وكان يرى أيضا أن الشعب هو الذي يقف في موضع من يصدر الحكم، والقاضي الحقيقي يجب أن ينصت إلي صوته، بل لا يكتفي بهذا إنما يساعده على أن يكون هذا الحكم منصفا ونافذا.

أيامها لم يكن الرجل ينظر إلى الناس من عل، بل كان منخرطا بكل كيانه في صفوفهم، يصغي ويتحدث، وينصح ويربت الأكتاف ويشحذ الهمم. عاد وقتها شابا جسورا هصورا، يرتدي أحيانا حذاء خفيفا، ليكون من السهل عليه أن يجوب الشوارع، مؤازرا للثورة. أذكر أنه هاتفني ذات مرة وهو قلق من عنف اندلع في منطقة شبرا، كان صوته متقطعا من فرط لهاثه، وحين سألته: أين أنت؟ أجاب: أنا في طريقي إلى هناك، لأعرف ما يجري، ويقدرني الله على أن أساهم في وأد الفتنة، فهذا ما يرضي ضميري.

ولضميره هذا، ألجأ إليه أحيانا لأسأله في أشياء قانونية، واثقا هنا في قلبه وضميره، أو حسه بالعدالة، إذ أن كثيرين يحفظون القوانين عن ظهر قلب، ويصلون إلى ثغراتها من أقرب طريق، وفي مهارة فائقة، ويمتلكون قدرة هائلة على التأويل والتعديل والتذليل، لكن قلة القلة ممن تستشيرهم في القانون، تنطق ألسنتهم بما تنبض به قلوبهم من عدل، وهذا هو الأهم لمن يريد أن تمضي الحياة في خير وسلام.

جرت في النهر مياه كثيرة، وتقدمت السن بالمستشار زكريا عبد العزيز، وجلس في بيته بعد إحالته إلى المعاش، لكن الأمل والعدل بقيا شابين في نفسه. هكذا أشعر كلما تهاتفنا أو التقينا على غير انتظام أو بموعد ضربناه سويا. فرغم أن بعض حديثه يذهب إلى الأمراض التي زحفت إلى جسده، وإلى ظروف العيش التي تصعب عليه كسائر الناس الذين ينتمي إليهم، إلا أنه لا يزال مشغولا ومهموما بمصر، وذهنه وقلبه منصرفان إلى حال القضاء، يتابعه ويراقبه عن كثب عارفا بأهله، راضيا بما قال وفعل وقدم لهذا الوطن من سنوات زاخرة بالعطاء في رحاب العدالة الوسيع.