ناهد إمام وحكاية صندوقها الأسود

ذات مصر

كتابة السيرة الذاتية ليست مجرد نظم حكايات شخصية ومواقف حياتية بهدف التنفيس أو الرفاهية الأدبية؛ بل هي مكاشفة لا تستر وحقائق لا تكذب وصراحة لا تتجمّل، كمن يقف أمام نفسه متهما يحاسبها بحس القاضي العادل، ويسترجع ماضيه بكل ما فيه من فرح وترح، ليقدم نفسه لنفسه من جديد وللقارئ من بعد.

يقول الكاتب اللبناني الراحل "ميخائيل نعيمة" في افتتاح سيرته الذاتية "سبعون": “هناك مبرر ما أظنّه يخطر للقارئ في بال، وهو اللذة التي يلاقيها الإنسان إذا هو تعرّى أمام إخوانه الناس من جميع أسراره وأوزاره، فبات وكأنه البيت من زجاج، كل ما فيه مكشوف للعيان". 

وما أقرب هذه العبارة من تفاصيل كتاب “صندوقي الأسود” للكاتبة الصحفية ناهد إمام. كتاب يحمل بين دفتيه شهادة جريئة لفترات زمنية مختلفة عاشتها الكاتبة، مزجت بين الشخصي والعام، وأماطت اللثام عن حقائق صادمة تتماس مع أفكار الجماعات الإسلامية، سواء كانت السلفية أو الإخوان، أو التبليغ والدعوة، وهذا ما اتضح في العبارة التي افتتحت بها الكتاب، فكتبت تقول: “لوجه الله وللحقيقة يَحسن البوح والاعتراف".

يبدأ الكتاب بكشف مراحل التغيير التي طرأت على المجتمع المصري منذ اتساع نشاط تلك الجماعات، واستقطابها الشباب والفتيات عبر المدخل العاطفي الذي يدغدغ المشاعر ويقفز على حاسة النقد والتفكير في ماهية ما تدعو إليه تلك الجماعات. وكانت الكاتبة إحدى الضحايا اللائي دفعن ثمن الانجرار وراء العاطفة والحماس الفوار بلا عقل أو بصيرة، حبا في الدين ورغبة في الهداية، ما أثّر على حياتها بشكل كبير ومن حولها، فأسرتها تحمل ملامح الأصالة المصرية، والقيم الهادية التي لم تكتسبها عن الدين فحسب، بل من الأعراف والقيم المجتمعية المحافظة بالسليقة، لكن ناهد كان لها رأي أخر بسبب تأثير أفكار تلك الجماعات على شخصيتها ومسلماتها العقائدية، فحوّلت حياة الوسطية المقبولة إلى تزمّت وتشدد في غير موضعه، فارتدت النقاب ومنعت الأغاني، وحطمت عود والدها، وحوّلت حياة أسرتها إلى كابوس، بناءً على ما تلقته من تعاليم سلفية متشددة قبل أن تنضم إلى الإخوان فيما بعد، تعاليم وأفكار أضرتها من حيث كانت تظن أنها سوف تنفعها، فتقول في الكتاب:
"عشت معهم حياة فقيرة في التصورات، عنيفة على النفس والناس، ولم تتضح لي هذه القتامة إلا بعد انتهاء تجربتي معهم وانضمامي إلى الإخوان، ثم انكشاف كامل لما أحدثوه جميعا، السلفيون، والإخوان، والتبليغيون، من تشوّه في شخصيتي بعد انتهاء التجربة كاملة مع كل جماعات الإسلام السياسي".

ثم تقول: "أذكر أنني في تلك الفترة كنت وكأنني أنخلع تماما من شخصية، واستبدل بها شخصية أخرى،  كنت أحب الموسيقى والرقص والغناء والرسم وأمارس بعضا من ذلك كهوايات، وحدي أو مع أصحابي وأخوتي، ثم أصبحت أصارع نفسي –وهو ما يسمونه جهاد النفس- لكي أكره، وأمتنع، وأتوب".

عاشت ناهد حياة ليست كالحياة في مضمونها وأفكارها السوية، إلى أن جاءت حلقة جديدة في سلسلة السواد، وهى زواجها ممن ينتسبون لتلك التيارات، لتعيش البؤس والشقاء مرتين، رأت حالات الانفصام السلوكي بين ما يدعون إليه أمام الناس وما يفعلونه في حياتهم الخاصة، من تهميش للمرأة وكبح جماح أحلامها لتبقى تحت وطأة الاحتياج والسيطرة. رأت كيف يستهلكون النساء في ساقية الحياة بقسوة، فتظل تدور وتدور كالدابة العمياء بلا تقدير أو احترام، بل تزداد عليها القيود كلما حاولت أن تنفك عنهم لتُثبت نفسها في أى ميدان إبداعي، وإذا تكرموا وسمحوا لها التعبير عن مواهبها استغلوها لصالحهم كنافذة استثمار تدر عليهم الأموال، وقطفوا لأنفسهم كل ثمرة نجاح أثمرها اجتهادها، فتقول:

"وكان يضع شروطا للموافقة على عملي ، كأن أضع كل راتبي أو المكافأة المالية في نفقات البيت، أو الاكتفاء بالعمل بالقطعة، وعدم الالتحاق بمؤسسة لها كيان مرموق".

ثم تقول: "لا أدري كم عدد الصدمات التي تلقيتها خلال سنواتي الثلاث هذه من هذا الزوج، (راسبوتين التبليغ والدعوة) بسبب علاقاته النسائية، وعطالته، وعدم تحمله مسؤولية القوامة، ومع هذه الجماعة، لقد سقطت في مستنقع خذلان، وغدر، وهجر، وإساءات نفسية وبدنية مفزعة".

اعتمدت الكاتبة على لغة أقرب إلى السرد الصحفي منه إلى الأدبي البحت، فلم تُعلى في عبارتها من البلاغة والبيان، بقدر ما ركزت على المباشرة والوضوح واللغة السهلة المفهومة، وتلك سمة مميزة لهذا النوع من الأدب، إضافة إلى الاستعانة باقتباسات لأدباء وكتّاب لدعم أفكارها ومواقفها.

تجربة ناهد إمام ثرية ومهمة جدا، كونها تتقاطع مع واقع بائس يعيشه المصريون منذ فترة كبيرة، فجاء الكتاب كثمرة تجربة عمليّة مؤلمة، وبالطبع لا تسع المقالة كل ما جاء في الكتاب، لكنها مدخل وإشارة إلى أن هناك كتاب يعتبر شهادة هامة لا يستهان بها ولا ينبغي تجاهلها، لمعرفة كيف تفكر تلك الجماعات اجتماعيا ودينيا وفلسفة استقطابها للشباب، والعواقب الوخيمة التي تتجسد فيما بعد في مشاكل نفسية وفكرية واجتماعية يبقى أثرها يلاحق الشخصية فترة من الزمن لحين تتعافى كما قالت الكاتبة.

كتاب "صندوقي الأسود" هو درة من درر السير الذاتية الحيّة والصادقة، ويعد من أفضل ما كُتب في السنوات الأخيرة في هذا المضمار، كتاب صراحته مدهشة وتفاصيله ثرية وتجربته فريدة من نوعها، تلك التجربة تذكرني بما قاله الشاعر الإنجليزي بيرسي شيلي: “علمتنا الأحزان نظم القصيد، فقدمنا للناس في أبيات الشعر ما تلقيناه من ضربات الألم والشقا". وقد برعت الكاتبة في تجسيد معاناتها وحفظها في صندوقها الأسود بأسلوب بارع وترتيب مسهب غير متكلف ولا ممل.