علي الصاوي يكتب: وقفة مع ملحد

ذات مصر

ما بين أزليّة المادة الكونية ومركزية العامل النفسي، نشأت حالة من الجدال حول دوافع الإلحاد الحقيقة وهل هي ناجمة عن دوافع علمية أم نفسية؟ لكن مع سرعة التحولات التي يشهدها العالم من مشاكل سياسية وأزمات اقتصادية طاحنة هوت بآمال الشباب نحو اليأس والجمود والانسلاخ من الدين كرد فعل انتقامي في بعض الأحيان، وجدلي في أحيان أخرى، ومع غياب المناظرات الفكرية في هذا الصدد والبحث والتنقيب بدوافع علمية وإيمانية متجردة حول كيف بدأ الكون ولماذا وُجد الشر، يتضح أن أزمة الملحد تتمحور حول عاملين رئيسيين:

الأول: حول أسباب ما يعيشه العالم من ظلم وأين الله من كل ما يحدث من قتل ودمار ولماذا لا يتدخل لمنع الشر؟

والثاني: حول الحالة النفسية للملحد ومراحل تنشئته الاجتماعية وما مر به في الحياة من أزمات اجتماعية وتربوية.

يقول ابن عربي: «إن العبادة قدرٌ على الإنسان حتى من لا يدري فهو يعبد حيرته» تشير العبارة إلى أنه مهما بلغ بك الإنكار حول عدم وجود إله، يظل هاجس الاعتقاد يلاحقك، ما يعنى أنه لا يوجد إنسان بلا مقدس في الحياة، حتى لو شكّك الإنسان في مجموعة من العقائد هو في الحقيقة يكون مؤمنٌ بمجموعة أخرى من العقائد مهما أخفى وادعى غير ذلك.

ويذكر عالم النفس الأمريكي بول فيتز في كتابه «سيكولوجية الملحد» إن وراء كل ملحد أصولي وما يقدمه من أسباب علمية ومنطقية لإلحاده العديد من العوامل النفسية والشخصية والاجتماعية.
فالإلحاد لا يقوم بالأساس على قاعدة موضوعية حتى وإن أظهر الملحد عكس ذلك، فكبار الملاحدة الغربيين مروا قبل إلحادهم بظروف نفسية وتربوية صعبة مثل «أنطوني فلو» رائد الإلحاد الغربي في النصف الثاني من القرن العشرين والذي اعترف بوجود إله لهذا الكون بعد خمسين عاما من التأسيس للإلحاد في الفكر الإنساني المعاصر.

وفي عام 2007 وقبل موته بثلاث سنوات أصدر كتابا بعنوان «هناك إله» there is gad وقال فيه: إن رحلته كانت رحلة عقل وليست رحلة إيمان، وأنه كان يتبع البرهان إلى حيث يقوده.
وفي النهاية قال في كتابه: «أؤمن بأن هناك إله واحد أحد، واجب الوجود غير مادي لا يطرأ عليه التغيّر، مطلق القدرة مطلق العلم» ليقضي بذلك على ثلاثين بحثا فلسفيا للتنظير للإلحاد، وقد شوهد «أنطوني فلو» قبل ذلك وهو في إحدى نوبات السكر راقدا على الأرض، يصرخ ويقول: إني أكره أبي! إني أكره أبي!، دلالة على أن ما مر به من ظروف تربوية قاسية وتعنيف من والده، ظل محفورا في ذهنه وأثّر سلبا على حياته فكان الإلحاد المخرج ربما للتنفيس والانتقام.

وهذا ما حدث مع آخرين من رواد الإلحاد، كـ«نيتشه»، و«برتراند راسل»، و«ستالين»، وحتى «سيجموند فرويد»، وهو ما تؤكده دراسة بعنوان «النمط النفسي للملحد» أجريت على 320 عضوا من أعضاء الاتحاد الأمريكي لتقدم الإلحاد، ذكرت أن نصف من تبنوا الإلحاد قبل سن العشرين فقدوا أحد والديهم قبل هذه السن، وأن عددا كبيرا منهم عانى من أزمات تربوية وعنف في طفولته وصباه، ما أدى إلى إصابتهم باضطرابات حزن واكتئاب بسبب ما عاشوه من معاناة نفسية أدت إلى نفورهم من الأديان كتعبير عن السخط لما وصلت إليه ظروفهم.

إذن العامل النفسي هو محور قضية الإلحاد، والتعرض للعنف باستمرار مما لديه سلطة تربوية أو اجتماعية هو المدخل إلى دائرة التمرد على الدين، خاصة لو استُخدم الدين كأداة تبرير للإمعان في هذا العنف، وترجم هذا المعنى ما ذكرته إحدى الفتيات أن سبب تمرّدها على إيمانها هو عنف زوجها المقنّع بقناع ديني والذي كان يحظى بتأييد من أبيها المتدين هو الآخر، في تبرير ضرب الزوج المبرح لزوجته وإيذائها بأحقيته الشرعية، ما كوّن عقدة للمرأة من أبيها وزوجها، وشوّه في نظرها صورة الدين.

حتى إسماعيل أدهم أحد رواد الإلحاد في العصر الحديث ومؤلف كتاب «لماذا أنا ملحد» قال: إن سبب إلحاده كان وراءه عوامل سيكولوجية واجتماعية، قبل أن ينتحر بإلقاء نفسه في بحر إسكندرية، والفيلسوف الألماني شوبنهاور كان من أسباب عدميته وإلحاده ونظرته التشاؤمية الكارهة للدين والمرأة والحياة هو هجران أمه له صغيرا، ما خلّف في نفسه عقدة دفينة تجاه الإناث ونظرته للحياة. 

تلك العقدة التي يصفها على عزت بيغوفيتش بـ«الإلحاد اليائس»، فهو لا يرى العدمية إنكارا للألوهية، ولكنها «احتجاج على غيابها» ليختصر بذلك«بيغوفيتش» المسافة بين الإلحاد العدمي وبين الإيمان للغاية والإدراك للمعنى، وفهم حضور الإله لئلا يحتج المرء بالخطأ، فيدفعه ذلك إلى الإلحاد.

الإلحاد في العصور القديمة

العصور القديمة لم تخل هي الأخرى من الاشتراك في هذه العوامل التي تكون سببا مباشرا للإلحاد، فابن الراوندي أشهر الملحدين في التاريخ الإسلامي كان إلحاده ردة فعل انتقامية بسبب طرده من فرقة المعتزلة الذى كان ينتسب إليها بعد أن خالف أصول مذهبهم، فضلا عن حبه للمال والرياسة ونقل مترجمو ابن الراوندي أن غيظه على المعتزلة حمله على الإلحاد، وقالوا إنه صار إلى ما صار إليه حميّةً وأَنَفَةً من جفاء أصحابه وتنحيتهم إياه من مجالسهم، وقيل أنه ألحد بسبب فاقةٌ لحقته، وقيل أيضا أنه تمنى رياسةً ما نالها فارتدّ وألحد، وألف كثير من الكتب حول الإلحاد.

كما تكشف أشعاره أن بحثه عن المنزلة هو الذي أغراه بالإلحاد مع اضطرابه النفسي، ولعل هذين البيتين يدلان على أنه كان يعاني من قلق السعي إلى المكانة؛ فيقول ابن الراوندي:

كم عاقل عاقل أعيت مذاهبُه .. وجاهل جاهل تَلقاهُ مـــرزوقا

هذا الذي ترك الأوهامَ حائرةً .. وصَيَّر الْعَالِمَ النِّحريرَ زنديقا

حتى أن أبا العلاء المعرى الشاعر الكبير الذي اشتهر بتمرده على الدين له أبيات شعرية تترجم دافع سخطه على الأديان وموقفه السلبي من الأقدار باستمرار فيقول:

إن كان لا يحظى برزقك عاقــل.. وترزق مجنونا وترزق أحمقا

فلا ذنب يا رب السماء على امرئ.. رأى منك ما لا يشتهي فتزندقا

أبيات شعر تترجم المعاناة النفسية التي عاشها المعرى وأن دوافع مروقه من الدين لا تدور حول جدليات المادة وأصل الإنسان أو أصل الكون ومن خلقه وكيف خلقه ولماذا خلقه، فالإلحاد شبهة نفسية قبل أن يكون آفة عقلية.

وهناك قطاع عريض من أصحاب النزعة العقلية الذين يُحكّمون العقل في كل ساكن ومتحرك حولهم فلا قيمة لشيء لا يُقرّه العقل ويقتنع به، في حين أن هناك أمور غيبية لا تدركها العقول ولا تحيط بها الأفهام وملكات الإنسان وحواسه المحدودة، وهذا ما قاله ابن خلدون في مقدمته حين قال: «إن العقل ميزان صحيح فأحكامه يقينية، غير أنك لا تطمح أن تزن به التوحيد وحقائق النبوة وحقائق الصفات الإلهية، وكل ما وراء طوره فإن ذلك طمع في مُحال».

ثم جاء الفيلسوف الألماني «عمانويل كانت» وقال في كتابه نقد العقل الخالص: «إن العقل لا يستطيع أن يحيط بكُنه الأشياء، وهو مهيأ لإدراك الجزئيات والظواهر فقط، في حين أنه عجز عن إدراك الماهيات المجردة مثل الوجود الإلهي».

وفي أنفسكم أفلا تبصرون

إن معرفة الله لا تنجلي تحت شهادات ماجستير أو دكتوراه، أو عقد ندوات علمية أو مناظرات جدلية تهز ثقة المؤمنين وتطبع على قلوب المنكرين، بل معرفة تقتضيها الفطرة الإنسانية التي شهدت لله بالوحدانية في بادئ الأمر، وقد قال أحد العارفين: أنا لست بحاجة إلى معرفة لأؤمن بل في حاجة إلى إيمان لأعرف. «فليس يصح في الأفهام شيء.. إذا احتاج النهار إلى دليل» كما يقول المتنبي.

فحين تنظر لنفسك وتتأمل إعجاز الله في تكوين صورتها لن يهتز إيمانك بربك لذلك قال ابن القيم «وأيُّ دَليلٍ أوضح على التوحيد والمعاد من تركيب هذه الصورة الآدمِيَّة بأعضائِها وقِواها وصِفاتِها وما فيها من اللحم والعظم والعروق والأعصاب والرباطات والمَنافِذ والآلات والعلوم والإرادات والصناعات، كلُّ ذلك مِن نُطفَة ماء، فلو أنصف العبد رَبَّه لاكتفى بفكره في نفسه، واستدلَّ بوُجوده على جميع ما أخبرت به الرُّسُل عن الله.» وقد ترجم الأديب الكبير نجيب محفوظ هذا المعنى في كلمات قليلة المبنى في كتابه أصداء السيرة الذاتية حيث قال: «إن أمسك بك الشك فانظر إلى مرآة نفسك مليا».

عندما شكّك أحدهم يوما في وجود الله بإحدى المحاضرات المعلّبة جاءه الرد سريعا من أحد البسطاء العارفين، فنطق بالفطرة ما عجز غيره أن ينطقه بالعلم، فقال: أشهد أن السماوات والأرض آيات دالات وشواهد قائمات، كل يؤدي عنك الحجة ويشهد لك بالربوبية، موسومة بآثار قدرتك ومعالم تدبيرك التي تجليت بها لخلقك، فأوصلت إلى القلوب من معرفتك ما آنسها من وحشة الفكر ورجم الظنون، فهي على اعترافها لك وافتقارها إليك شاهدة بأنك لا تحيط بك الصفات ولا تحدك الأوهام وأن حظ الفكر فيك الاعتراف لك. وكما قالت المطربة ناسي عجرم: «مفيش حاجة تيجي كده».