عبدالخالق فاروق يكتب: دور قضاة مصر في التمهيد للثورة المصرية.. نماذج من احتواء واختراق السلطة التنفيذية للقضاء (3)

ذات مصر

يكشف التحليل الدقيق للنصوص القانونية المنظمة للسلطة القضائية (القانون رقم 46 لسنة 1972) والقضاء الإداري في مجلس الدولة (رقم 47 لسنة 1972)، واللوائح التنفيذية لهذين القانونين مقدار الهيمنة والسيطرة والإخضاع من جانب رئيس الجمهورية ووزير العدل، ومن خلفهما سلطة تشريعية (مجلس الشعب) تأتمر تقريبًا بأوامرهما.

فعلى سبيل المثال وليس الحصر: 

1- وفقًا لقانون السلطة القضائية رقم (46) لسنة 1972، يكون شغل الوظائف القضائية سواء بالتعيين أو الترقية بقرار من رئيس الجمهورية.

2- يكون تعيين المستشار بمحكمة النقض من خلال المجلس الأعلى للهيئات القضائية الذي يرأسه رئيس الجمهورية من بين اثنين ترشح أحدهما الجمعية العمومية لمستشاري محكمة النقض، ويرشح الآخر وزير العدل، ويسري الأمر ذاته على جميع القضاة بدرجاتهم المختلفة.

3- تعيين جميع أعضاء النيابة العامة –وهم أول السلك القضائي– بقرار من رئيس الجمهورية، ويشرف على أعمالهم وزير العدل.

4- تنص المادة 119 من قانون السلطة القضائية على طريقة تعيين النائب العام ومساعديه وبقية أعضاء النيابة العامة من رئيس الجمهورية.

5- النائب العام ومساعدوه وجميع أعضاء النيابة العامة تابعون مباشرة لوزير العدل، وفقًا للمادة (125) من قانون السلطة القضائية.

6- وفقًا لنص المادة (111) من قانون السلطة القضائية رقم (46) لسنة 1972 المعدل بالقانون رقم (35) لسنة 1984، يقوم وزير العدل من تلقاء نفسه بإحالة القاضي إلى المعاش قبل بلوغه السن القانونية، أو نقله إلى وظيفة أخرى غير قضائية. ويرفع هذا الطلب إلى مجلس تأديب القضاة المنصوص عليه في المادة (98) من هذا القانون. 

7- كذلك المادة (112) من هذا القانون تقضي بإحالة القاضي إلى المعاش أو نقله إلى وظيفة غير قضائية، إذا تبين أن كفاءته في العمل من واقع تقارير إدارة التفتيش القضائي لا ترقى إلى المستوى اللائق لولاية القضاء، مما أفرغ حصانة القاضي من العزل من مضمونها تمامًا (وسوف نرى الأثر الخطير لهذه المادة فيما جرى للقضاة بعد عام 2013).

8- إدارة التفتيش القضائي تتبع وزير العدل، وفقًا للائحة التفتيش القضائي الصادرة من وزير العدل

9- بالنسبة لمسائل ندب ونقل وإعارة القضاة، وهي مسائل شديدة الحيوية بالنسبة للقضاة، فإن من بين 14 مادة تنظم هذه الأمور في القانون رقم (46) لسنة 1972، نجد منها 7 مواد يتحكم فيها رئيس الجمهورية ووزير العدل، أي بنسبة 50 في المائة من هذه المواد.

10- ولم يكن الأمر يختلف في القضاء الإداري؛ حيث نص قانون رقم (47) لسنة 1972 بشأن مجلس الدولة المعدل بالقانون رقم (136) لسنة 1984، على أن يكون التعيين بقرار من رئيس الجمهورية. ويقتصر دور الجمعية العمومية لمجلس الدولة على ترشيح الأسماء فقط، كما يقتصر دور المجلس الأعلى للهيئات القضائية على إبداء الرأي فقط.

11- نصت المادة (83) من قانون مجلس الدولة رقم (47) لسنة 1972 والمعدل بالقانون رقم (17) لسنة 1976 والقانون رقم (136) لسنة 1984 على أن (يعين رئيس مجلس الدولة بقرار من رئيس الجمهورية من بين نواب رئيس مجلس الدولة، بعد أخذ رأي المجلس الأعلى للهيئات القضائية، ويعين نواب رئيس المجلس ووكلاؤه بقرار من رئيس الجمهورية، بناء على ترشيح الجمعية العمومية للمجلس). وبهذا فإنه طبقًا لهذه المادة فإن شغل الوظائف بمجلس الدولة، سواء بالتعيين أو الترقية، لا يكون إلا بقرار من رئيس الجمهورية. وقد جرى تغيير هذه القاعدة بعد عام 2014؛ بحيث أصبح لرئيس الجمهورية سلطة مطلقة في التعيين حتى لو تجاوز فيها الأعراف القضائية، كما حدث في تجاوز تعيين المستشار الدكروري لرئاسة مجلس الدولة عام 2017، بسبب إصداره الحكم التاريخي بشأن مصرية جزيرتي تيران وصنافير، بعكس رغبة رئيس الجمهورية الحالي، كما سوف نرى بعد قليل.

12- أما الشؤون المالية للقضاة فكانت من الأمور البائسة والحزينة، بحيث تتحكم وزارة العدل في مرتبات ومكافآت القضاة، فجداول مرتبات القضاة المرفقة بقانوني القضاء رقمي (46) و(47) لسنة 1972 ظلت على حالها لأكثر من ثلاثين عامًا، حتى تولى «تيار الاستقلال» بقيادة المستشار التاريخي زكريا عبد العزيز إدارة نادي قضاة مصر.

فعلى سبيل المثال لم يصل ما يحصل عليه المستشار بمحكمة النقض وهي درجة قضائية عليا إلى نحو 4 آلاف جنيه شهريًا، شاملة جميع البدلات والمكافآت، أما الرئيس بمحكمة الاستئناف، وهي درجة قضائية متوسطة، فلم يحصل سوى على ألفي جنيه شهريًا، وذلك حتى عام 2005. وتقل عن ذلك مرتبات ومكافآت قضاة مجلس الدولة؛ حيث تتراوح بين 1400 و1800 جنيه شهريًا، علاوة على 420 جنيهًا بدل قضاء.

13- وعلى العكس من ذلك، أغدقت السلطة التنفيذية على قضاة المحكمة الدستورية العليا منذ إنشائها عام 1980؛ حيث يحصل القاضي منهم على 4 آلاف جنيه، يضاف إليها 1200 جنيه شهريًا تحت اسم بدل حضور جمعية عمومية، ومبلغ 3 آلاف جنيه شهريًا بدل تفرغ، بما يصل بمجموع مرتبه لأكثر من اثني عشر ألف جنيه شهريًّا، فضلًا عن سيارة حديثة وسائق، ومبلغ 200 جنيه بدل وقود، وذلك حتى عام 2005.

وهكذا خلقت السلطة التنفيذية تناقضات ومشاحنات بين القضاة من ناحية، وحافظت على ولاء قضاة المحكمة الدستورية العليا للسلطة التنفيذية في كثير من القضايا والأحكام، كما سيظهر بقوة منذ تولي المستشار ممدوح مرعي رئاسة هذه المحكمة عام 2003.

14- ولعل من أخبث وأخطر السياسات التي اتبعتها السلطة التنفيذية بكافة مستوياتها، إلى جانب تشتيت الجهات القضائية وإدخال ما ليس قضائيًا ضمن الهيئات القضائية، ما جرى من استفحال ظاهرة تعيين أبناء القضاة والعاملين في السلطة القضائية، وأبناء الشخصيات المتنفذة والكبرى في الجهات الحكومية المختلفة دون مسابقات، أو على الرغم من نتائج كثير من المسابقات، وبالتالي إهدار حقوق الشباب المتقدمين في هذه المسابقات من غير أبناء القضاة وأعضاء النيابة العامة، في مخالفة صريحة وقبيحة لقيم العدالة وميزان الحق الذي كان في اختلاله هذا محاولة مقصودة وماكرة لإفقاد القضاة والمؤسسة القضائية برُمَّتها ثقة واحترام ومحبة الرأي العام المصري.

ومن هنا تأتي أهمية المعركة الكبرى التي خاضها معظم الجسم القضائي منذ عام 2002، ليس للانتصار لشعار «استقلال القضاء والقضاة» فحسب، وإنما في تحرير شعب مصر من تغول واستهتار السلطة التنفيذية بإرادة الشعب المصري في اختيار ممثليهم وحكامهم في انتخابات حرة ونزيهة.

ويعتبر البعض انعقاد مؤتمر العدالة الأول (والأخير) عام 1986 برئاسة المستشار الجليل يحيى الرفاعي، نقطة البداية في معركة القضاة الجديدة، من أجل رفع الصوت عاليًا في حضور الرئيس حسني مبارك، بوصفه رئيس الدولة ورئيس السلطة التنفيذية، ومطالبته مباشرة بإلغاء حالة الطوارئ التي تنتقص من حريات الأفراد والجماعات، وصياغة مطالب الاستقلال القضائي متضمنة التالي:

1- وضع ضوابط لمدة الحبس الاحتياطي.

2- إلغاء جهاز المدعي الاشتراكي.

3- إلغاء المجلس الأعلى للهيئات القضائية، والاستعاضة عنه بالمجلس الأعلى للقضاء.

4- إلغاء المحاكم الاستثنائية (مثل: محاكم القيم، ومحاكم العيب، ومحاكم أمن الدولة طوارئ... إلخ).

5- توحيد جهات القضاء.

6- ضمان نزاهة الانتخابات العامة.

7- الإصلاح المالي لمرتبات ودخول القضاة.

وعلى الرغم من حضور وقبول الرئيس مبارك لهذه المطالب وترحيبه بها، فإنه -كالعادة- لم تتحرك هذه المطالب من مرابضها في أدراج وزير العدل والسلطة التنفيذية عمومًا، حتى برز دور المستشار زكريا عبد العزيز وفريقه من كبار المستشارين ورجال النيابة العامة في عام 2002 وصاعدًا، من أمثال السادة: جمال جلال عباس، وخالد هاشم قراعة، وعادل عبد المحسن إبراهيم، وأحمد صابر، وأمير السيد عوض، وأيمن عبد العال، ثم انضم إليهم فيما بعد المستشار محمد ناجي دربالة، والمستشار أحمد مكي، وشقيقه المستشار محمود مكي، والمستشار أشرف البارودي، والمستشار فؤاد راشد، وأحمد البرديسي، وأشرف زهران، وأحمد محيي، وآخرون. ومن أعضاء النيابة العامة، السادة: أشرف إبراهيم عليوة، وطاهر السكري، وفاروق درويش، وكمال عشيش، ومحمد عمارة.

وهنا بدأت العجلة تدور، وبدأت المعارك تشتد؛ سواء من أجل تحقيق مطلب استقلال القضاء وتحسين ظروف القضاة المادية والعلمية –الذي يهم المصريين جميعًا– أو مطالب تحرير المصريين من قبضة سلطة تنفيذية ظلت مهيمنة على القضاء وعلى العباد منذ نِشأت الدولة الحديثة في مصر.