محمد حماد يكتب: هل ينصف التاريخ هيكل في موقفه من انقلاب مايو 1971؟ (2 من 2)

ذات مصر

الصراع عند قمة السلطة وحولها ليس له إلا إحدى النتيجتين؛ إما السلطة في كفك؛ وتحت أمرك، وطوع بنانك، وإما سقوط نفوذك، وأفول زمنك، وتشويه سمعتك، وتقييد حريتك، وأحيانًا فقدان حياتك. 
في الشهور السبعة التي أعقبت رحيل جمال عبد الناصر شهدت مصر صراعًا عند قمة السلطة ليس له إلا هدف واحد هو إعادة ترتيب النفوذ وإعادة توزيع السلطة بين المتبقين عند محيط قمة السلطة. 
منذ الليلة الأولى كان السؤال حول من يخلف عبد الناصر في موقعه مطروحًا وملحًا ومقلقًا، وكان من حظ أنور السادات أن لحظة الرحيل وتوقيته كان في صالحة ودفع باسمه إلى صدارة المرشحين للخلافة. 
هو الوحيد الذي بقي في موقع نائب رئيس الجمهورية لحظة الرحيل المفاجئ لعبد الناصر، حلف اليمين في المطار أمام عبد الناصر وهو في طريقه إلى اجتماع القمة العربية المنعقد في العاصمة المغربية الرباط، ثم حين سافر عبد الناصر إلى سخالطوبو في روسيا في رحلة علاج سرية علم بأن السادات أمر بفرض الحراسة على منزل أرادت زوجته الحصول عليه من مالكه فرفض بيعه أو التنازل عنه. 
وفي المطار مرة أخرى طلب منه عبد الناصر أن يبتعد فسارع إلى الاعتكاف في ميت أبو الكوم، ثم يأتي معمر القذافي إلى القاهرة ويذهب مع عبد الناصر إلى ميت أبو الكوم ليعود السادات مجددًا من التجميد المؤقت إلى دائرة النفوذ الأولى عند قمة السلطة. 
في تلك اللحظة يرحل عبد الناصر، ويصبح السادات هو المرشح الوحيد الذي تجتمع عليه كلمة الموجودين في محيط وقلب السلطة العليا في البلاد. 
 **
كان السادات هو مرشح الضرورة في تلك اللحظة. 
كان هو الوحيد المتبقي من أعضاء مجلس قيادة الثورة وفي أعلى موقع تنفيذي بعد الرئيس، وكان هو الوحيد من بينهم المنخرط في العملية السياسية والمنتخب في أعلى مستويات التنظيم السياسي القيادية، ثم كان هو الوحيد الذي يغري ضعفه بالتوافق عليه من كل المحيطين بقمة السلطة وقتها. 
الذين أطاح بهم وعلى رأسهم شعراوي جمعه، والذين ساندوه ووقفوا إلى صفه وعلى رأسهم محمد حسنين هيكل كلهم رأوا أن شخصية السادات تتيح لهم استخدامه، أو تطويعه، أو على الأقل المشاركة في صناعة قراراته. 
هيكل الذي يتهم خصومه بأن ضعف السادات أغراهم باختياره لخلافة جمال عبد الناصر، يمكننا أن نوجه إليه الاتهام نفسه الذي وجهه إلى الآخرين، وانه هو نفسه غيَّر موقفه الذي بدا منحازًا إلى طرح اسم زكريا محيي الدين لينحاز إلى من رآه الأضعف الذي يسهل عليه احتواءه والتأثير فيه. 
وكانت تلك هي نقطة القوة الوحيدة التي حظي بها السادات، وحين اشتد عوده تخلص م نهم جميعًا، من عادوه ثم من عاونوه. 
 **
تهمة الانحياز إلى السادات وهو يعرف عنه الكثير من أسباب القصور فيه، التي يقذف بها رجال مايو في حق هيكل مردودة إليهم. 
صرنا اليوم نعرف من كتاباتهم واعترافاتهم وشهاداتهم أنهم كانوا يعلمون بأن السادات ينوي أولاً الإطاحة بهم، وتغيير سياسة الدولة تجاه قضية تحرير الأرض المحتلة، وأنهم اطلعوا على نص محادثة جرت بين جوزيف سيسكو مساعد وزير الخارجية وقتها، وبين دونالد بيرجس القائم على شئون المصالح الأمريكية في مص ر. 
كان تفريغ الحوار الذي دار في منزل بيرجس يحتوي على معلومات خطيرة وفيها أن السادات أبلغ سيسكو أنه سيقوم بتغيير وزير الخارجية محمود رياض ووزير الحربية الفريق أول محمد فوزي لأنهما يضغطان عليه من أجل كسر وقف إطلاق النار والتجهيز لخوض معركة تحرير الأرض. 
وفي التفريغ أيضًا أن السادات أبلغ سيسكو أنه قرر فصل حوالي مائة وخمسين عضوًا من الاتحاد الاشتراكي من الذين عارضوه في اللجنة المركزية عندما طرح مشروع الاتحاد بين مصر وسوريا وليبيا. 
 **
كان تفريغ نص الحوار بين بيرجس وسيسكو تحت أيديهم يوم 9 مايو، قبل الإطاحة بهم بأربعة أيام، وبعد الإطاحة بعلي صبري بسبعة أيام، ومع ذلك بدا وكأنهم فوجئوا بإقالة شعراوي جمعه، ولم يكن في أيديهم وقتها غير تقديم استقالاتهم، ليقبلها السادات على الفور ويقبض عليهم متهمين بالانقلاب على الشرعية. 
وحده علي صبري من بينهم الذي حذرهم بأقسى العبارات من أن السادات سيبيع البلد للأمريكان، ويهد كل ما بناه عبد الناصر. 
وتحمل التسجيلات الصوتية للمكالمات التليفونية بين شعراوي جمعة وعلي صبري في ثاني أيام مايو 1971 قوله:  
ـ  لن  أتحمل المسئولية أمام التاريخ،  وأمام  أولادي،  وأمام الشعب،  إذا تم حكم الفرد  في  مصر، وليس أي فرد، بل أنور السادات، سوف يقوم بتصفية كل العناصر الكويسة في البلد. 
وأنهى علي صبري مكالمته الغاضبة مع شعراوي جمعه بقوله:   
ـ حايضربكوا بالجزم، وأنا ما أقبلش أنى أضرب بالجزمة. 
 **
كانت خطة السادات واضحة أمامهم يرونها رأي العين، ولكنهم افتقدوا القدرة على امتلاك خطة مواجهة،  وظلوا يتحركون في أحذيتهم حتى انقض عليهم السادات لحظة تقديم استقالاتهم التي تصوروا أنها يمكن أن تهز موقعه وتضعف مركزه. 
لم يكن الصراع بين مجموعتين، بل كان بين منصب رئيس الجمهورية  بثقله في موازين الدولة المصرية، وبين مجموعة أفراد لم يجمعهم هدف واحد، ولم توحد بينهم خطة مشتركة، فسهل عليه التخلص منهم بأيديهم وبتوقيعاتهم على قرارات الاستقالة اليائسة. 
 **
موقف وموقع الأستاذ هيكل من وقائع الصراع الذي انتهى في 13 مايو 1971 وتمر ذكراه الثانية والخمسين هذا الشهر، يحتاج بلا شك إلى الكثير من التأمل والتقصي والفهم لحقيقة ما جرى، لا ما أرادت أطراف الصراع أن تصبغ به الحقيقة بألوان من صنع أفكارهم وانحيازاتهم وتبريراتهم لمواقفهم ومواقعهم من الحدث الكبير. 
وربما لا نجازف إذا قلنا إنه ـ بعد مرور كل هذه السنين ـ قد حان وقت إجراء جردة حساب ختامي حول الدور الذي أداه الأستاذ هيكل في أحداٍثٍ كان لها ما بعدها، وما تزال تلقي بظلالها، وتداعياتها في الحاضر، وبالتالي تفرض نفسها على جدول أعمال القراءة المعمقة حول الأسباب والمقدمات والتداعيات والدروس التي يقع علينا واجب استخلاصها خدمة للمستقبل وليس مجرد محاكمة للماضي. 
 **
الأمانة تقتضي أن نشير إلى أن تحالف هيكل مع السادات في مواجهة خصومهما لم يكن نهاية القصة بينهما، بل  كانت  مجرد فصل  مؤثر  في رواية كبيرة  ،يصفه هيكل بقوله: 
«تلاقينا واتفقنا واختلفنا كثيرًا وظللنا أصدقاء حتى جاءت حرب أكتوبر 1973 وانتهت، ثم تباعدت زوايا الرؤية لأن الرجل وجد بعد حرب أكتوبر أنه يستطيع تأسيس شرعية مختلفة تصدر عن مرجعية مختلفة، وهناك تباعدت الطرق، وكان طبيعيا أن تتباعد.» 
مع انتهاء الحرب، وبداية عجلة المفاوضات تتحرك بين أنور السادات وهنري كيسنجر بدأ الخلاف يدب شيئاً فشيئاً بين هيكل والسادات حتى وصل حد القطيعة. 
بعد أقل من ثلاث أعوام استخدمه خلالها ثم حين اشتد عوده وصار في غير حاجة إلى هيكل طرده خارج «الأهرام»، وأطلق عليه كتبته يضربون مصداقيته كل يوم في مقتل. 
 **
والإنصاف يلزمنا بألا نختصر مسيرة هيكل في موقفه أو موقعه في تلك الأحداث، فالرجل الذي ركب قطار السادات، وقاده في كثير من الأوقات، ترجَّل منه بعد أن اكتشف أن الرئيس سوف يمضي في الطريق العكسي لكل ما آمن به ودافع عنه ضمن المشروع الناصري. 
امتلك هيكل القدرة والوعي بضرورة أن ينأى بنفسه بعيًدًا عن الانخراط في مشروع  لا يوافق على أسسه ولا ينحاز إلى أهدافه. 
والأهم أنه امتلك شجاعة معارضة السادات ومشروعه طوال سبع سنوات من 1974 إلى 1981. 
انتهت فصول العلاقة بينه وبين السادات  وقد ابتعدت بهما الطرق، وافترقت السبل، ثم انسدت لتلقي بهيكل سجيناً في ملحق مزرعة طرة، وبالسادات صريعًا فوق المنصة بمدينة نصر. 
 **
في بداية عهد السادات ومن موقع «المشارك» استطاع هيكل أن يكون نفوذه أوسع وتأثيره أكبر. 
وهو ـ لا شك ـ تأثير مغاير لتأثير «المختلف» علنًا مع أنور السادات بعد ذلك في النصف الثاني لمدة حكمه، في تلك الفترة كان تأثيره يجيء من كونه «معارضًا» لمجمل سياسات الرئيس، وكان من موقع المختلف لا يزال قادرًا على إذاعة العديد من الأسرار إلى جانب حصيلة تأمله فيما يجري. 
وفي تلك الفترة زاد تأثيره توهجًا. 
كان قد انتقل من مثقف ملتحق بالسلطة في زمن عبد الناصر، إلى محاولة فاشل ة لفرض المثقف على صاحب السلطة في زمن السادات، ثم إلى «سلطة المثقف» بعدما حاز ـ عبر معارضته لنظام السادات ثم للسياسات التي يمثلها بعد رحيله ـ مشروعية اجتماعية سياسية نضالية، خاصة بعد سجنه في آخر عهد السادات.