عبد الخالق فاروق يكتب: دور قضاة مصر في التمهيد للثورة المصرية.. من الدعوة لاستقلال القضاء إلى الدعوة لحرية شعب مصر (5)

ذات مصر

كانت مصر على موعد مع ثلاثة معطيات مفصلية، الأول هو الاستفتاء على تعديل المادة (76) من الدستور بتاريخ 25/5/2005 التي فتحت الباب لانتخابات الرئاسة المصرية على أسس تنافسية، بدلا من نظام الاستفتاء الذي جرى العمل به منذ عام 1956، والثاني هو انتخابات رئاسة الجمهورية المحدد لها 9/9/2005، وأخيرا كان الحدث الأكبر هو الانتخابات التشريعية المقرر لها الأول من نوفمبر 2005. 

الاصطفاف التاريخي

وهنا حدث الاصطفاف التاريخي، فمقابل ميل عام من جانب غالبية الجسم القضائي على إشراف حقيقي وانتخابات نزيهة تسجل كوسام على صدر تاريخ مصر وتاريخ قضاة مصر، تجمع على الجانب المضاد عناصر وازنة من قضاة تيار التبعية للسلطة التنفيذية والمستفيدون من عطاياها ومزاياها.

ففي الإسكندرية ذلك الثغر المقدوني الجميل، اجتمع في نادي قضاة المدينة جمعية عمومية للقضاة بتاريخ 18/3/2005 وأصدروا بيانا استعدادا للاستفتاء وللانتخابات القادمة مطالبين بضمانات لحماية القضاة الذين سيتولون الإشراف على العمليات الانتخابية الثلاثة. 

وعلى الفور استنفر الأمر رجال قضاة الدولة فأصدر المستشار فتحي خليفة رئيس المجلس الأعلى للقضاء ورئيس محكمة النقض بيانا مضادا بتاريخ 12/4/2005 متهما فيه أعضاء نادي قضاة الإسكندرية باتهامات جارحة وغير لائقة باللغة القضائية المتعارف عليها، من قبيل أنهم (قلة منحرفة) و(لا يمثلون القضاة).. إلخ، وعلى الفور انعقدت جمعية عمومية ثانية في نادي قضاة الإسكندرية بتاريخ 15/4/2005 ردا على اتهامات من كان يشغل منصب شيخ قضاة مصر، فإذا به ينزل بالحوار بين القضاة إلى مستوى غير مقبول واستفزازي. وفي بيان الجمعية العمومية الثانية لنادي قضاة الإسكندرية طالبوا نادي قضاة مصر بالقاهرة بعقد جمعية عمومية لعموم قضاة مصر للتصدي لهذه الهجمة غير المسبوقة من جانب رئيس المجلس الأعلى للقضاء ورئيس محكمة النقض التي هي أعلى المحاكم في البلاد. 

ولم يتأخر نادي قضاة مصر بقيادة المستشار التاريخي زكريا عبد العزيز وتيار الاستقلال، فدعا لجمعية عمومية بتاريخ 13/5/2005، حضرها حوالى خمسة آلاف عضو من القضاة وأعضاء النيابة العامة في حشد لم يسبق له مثيل له في تاريخ الجمعيات العمومية لنادي القضاة، وصدر بيان قوي ردا على تجاوزات رئيس المجلس الأعلى للقضاء والذي التف حوله القضاة وأعضاء النيابات الموالين للسلطة التنفيذية والذين كانوا يشكلون أقل من ربع الجسم القضائي في مصر. ومنذ تلك اللحظة التف قطاع واسع من الكتاب والمثقفين وقطاعات عادية من الشعب المصري حول نادي قضاة مصر باعتباره الأمل في التخلص من عمليات التزوير المتكررة والدائمة في الانتخابات المصرية.

وبدوره لم يتردد رئيس المجلس الأعلى للقضاء ورئيس محكمة النقض في إصدار بيان أكثر استفزازا وإهانة للقضاة بتاريخ 16/5/2005 ووصف فيه القضاة بأنهم (قلة منحرفة) وأنه (هو الممثل الشرعي الوحيد للقضاة)، بحيث بدا الأمر في الظاهر وكأنه صراع على النفوذ في الوسط القضائي المصري. 

وفى ضوء التعديات والتحرشات التي جرت على بعض القضاة من بعض المدفوعين والبلطجية وبعض أفراد الأمن أثناء إجراء الاستفتاء على تعديلات الدستور بتاريخ 25/5/2005، جرى الدعوة لواحدة من أخطر الجمعيات العمومية الستة التي انتظمت في نادي قضاة مصر بتاريخ 2/9/2005 وحضرها حشد تجاوز عدده خمسة آلاف عضو، وبعدها صدر أهم بيانات النادي، حيث بدأ الربط التلقائي وغير المفتعل بين مطالبهم باستقلال القضاء وبين نزاهة الانتخابات والحريات العامة، حينما طالبوا بتعديل قانون مباشرة الحقوق السياسية، وضمان نزاهة الانتخابات الرئاسية القادمة والانتخابات التشريعية وألا سوف يمتنع القضاة عن المشاركة فيها وتحمل المسئولية أمام الشعب وأمام ضمائرهم. 

كما ضمنوا البيان حدود الدور المناط للمجلس الأعلى للقضاء حيث يقتصر دوره على الأشراف على الحالة الوظيفية للقضاة -مثل النقل والندب والإعارة والتدريب والحركة القضائية- دون أن يتدخل فيما هو أبعد من ذلك، كما توقفوا عند الأخطاء الجسيمة التي شابت لجنة الانتخابات الرئاسية التي يشرف عليها المستشار ممدوح مرعى رئيس المحكمة الدستورية العليا الذي انتقل في أقل من عامين من كونه رئيس محكمة استئناف القاهرة عام 2001 إلى رئيس المحكمة الدستورية العليا عام 2003، ثم بعدها قفز في أغسطس عام 2006 ليشغل منصب وزير العدل. 

وكان من ضمن أخطاء هذه اللجنة المشرفة على الانتخابات الرئاسية التي سوف تجرى بعد أربعة أيام فقط هو استبعاد 1700 قاضى وأعضاء مجلسي إدارة نادي قضاة مصر ونادي قضاة الإسكندرية من الإشراف على انتخابات رئيس الجمهورية، واستبدالهم بمعاوني نيابة نساء من النيابة الإدارية، وعدم مراعاة الأقدمية الواجبة في توزيع اللجان العامة واللجان الفرعية وغيرها من الأخطاء المقصودة والمتعمدة. 

كما طالب القضاة في جمعيتهم العمومية تلك بالسماح لممثلي المجتمع المدني بالدخول إلى مقار اللجان الانتخابية، وكذلك بتسليم القضاة المشرفين على أعمال اللجان والفرز محاضر بنتائج الفرز لمندوبي المرشحين تجنبا لأية أعمال تلاعب من أي نوع. 

وطالبت الجمعية العمومية في بيانها هذا بضرورة إعداد مشروعات لمراجعة قانون الإجراءات الجنائية من أجل ضمان الحريات العامة وحقوق الإنسان، وضرورة الفصل بين سلطتي التحقيق والاتهام.

وأخيرا طالب القضاة في بيانهم هذا بعدم تولى أعضاء المجلس الأعلى للقضاء لأى مناصب تنفيذية أو سياسية لمدة خمس سنوات تالية لتركهم مناصبهم، وعدم رفع سن التقاعد مرة أخرى حيث جرى رفع السن ثلاث مرات سابقة دون مشاورة القضاة أنفسهم، ألا القلة القليلة المرتبطة بالسلطة التنفيذية والتي كان بعض أفرادها تتسقط المنافع والمزايا التي تمنحها السلطة التنفيذية لها بين الفينة والأخرى.

وبدلا من تهدئة القائمين على المجلس الأعلى للقضاء برئاسة المستشار فتحي خليفه للموقف، خصوصا بعد احتشاد خمسة آلاف من رجال القضاء في جمعيتهم العمومية مرتين في أقل من أربعة أشهر، أصدر المجلس بيانا جديدا بتاريخ 27/11/2005 هاجم فيه القضاة وناديهم وأعتبرهم مرة أخرى (قلة منحرفة) في استعارة ممجوجة لمصطلحات وتعبيرات سبق للرئيس السابق أنور السادات أن رددها كلما تعرض لمعارضيه ونقاده. 

كان الموقف يزداد اشتعالا خصوصا بعد أن جرت الانتخابات التشريعية بداية من الأول من نوفمبر عام 2005، بنظامها الجديد على ثلاثة مراحل، فجرت المرحلتين الأولى والثانية وسط تحرشات وتعديات محدودة ضد القضاة من جانب الميليشيات المنظمة التي أصطلح على تسميتها بين القوى السياسية المعارضة " بالبلطجية "، والذين تبين بعد ثورة يناير عام 2011، ووقوع وثائق خطيرة في أيدى الثوار والشباب عن وجود ميليشيات منظمة تدار من جانب أجهزة وزارة الداخلية وخصوصا مباحث أمن الدولة تستخدم أثناء الجولات الانتخابية ضد المعارضين للنظام والحكم ومساندة لمرشحي الحكومة والحزب الحاكم. 

ووفقا للمستندات التي تسربت أثناء أحداث ثورة 25 يناير عام 2011 بعد اقتحام بعض مقرات مباحث أمن الدولة في مارس وإبريل من هذا العام فان الوزارة يوجد في عملياتها 165 ألف و250 متعاون (أي جواسيس ومرشدين) موزعون كالتالي: 

(أ) 85481 مسجل خطر بمختلف فئات التسجيل يستخدمون في كافة العمليات بما في ذلك طبعا تزوير وضرب ومنع المعارضين أثناء الانتخابات المحلية والبرلمانية. 

(ب) 79796 متعاون (سوابق) غير مدرجين بكشوف مسجلي خطر. 

ويدار هؤلاء من خلال إدارة بمباحث أمن الدولة تسمى (إدارة التعامل مع المدنيين) كان يديرها حتى اندلاع ثورة 25 يناير عام 2011 العميد " على جلال ". وتتضمن المستندات الخاصة بهذا الموضوع أربعة مذكرات للعرض مقدمة من العميد "علي جلال" مدير هذه الإدارة إلى اللواء حسن عبد الرحمن مدير جهاز مباحث أمن الدولة قبل الثورة، وهذه المذكرات هي: 

1-مذكرة بخصوص إعداد حصر العناصر المتعاونة مع الجهاز ومؤرخة في 11/9/2010. وتورد هذه المذكرة أن عددهم 165250 متعاونا. 

2-مذكرة بعنوان "تعميم برنامج الحصر الإلكتروني للمدنيين"، المؤرخة في 25/9/2010.

3-مذكرة بعنوان " التمام بتسجيل بيانات المدنيين المتعاونين بالوحدات الفرعية " والمؤرخة في 18/10/2010 

4-وأخيرا مذكرة بعنوان "أعداد العناصر المدنية المتعاونة مع الجهاز لانتخابات مجلس الشعب"، والمؤرخة في 1/11/2010. 

وفيها يؤكد العميد على جلال على أنه قد تنبه على جميع إدارات الأمن العام بعدم تحرير محاضر، أو اتخاذ أية إجراءات ضد البلطجية، أو مسجلي الخطر الذين يتم ضبطهم أو تقديمهم للشرطة. 

وهذه الأرقام عن الجيش السرى للبلطجية الذي يعمل بأمرة وتحت قيادة ضباط رسميين في وزارة الداخلية يكاد يقترب من الرقم الذي ذكره اللواء أحمد جمال في تصريحه اللاحق وقال فيه أن عدد المسجلين خطر في الوزارة يقارب 110 ألف شخص.

وإذا أضفنا إليها ما صرح به اللواء صلاح الشربيني مساعد وزير الداخلية للأمن المركزي قبل الثورة بأن عدد أفراد الأمن المركزي كان قد بلغ 118 ألف فرد، وأن عدد المجندين في الشرطة بصفة عامة كان قد بلغ 290 ألف مجند، وأن عدد معسكرات الأمن المركزي في البلاد قد بلغ 20 معسكرا، فلنا أن نتصور هذا الجيش العرمرم الذي كان يحكم به الرئيس مبارك ووزير داخليته اللواء حبيب العادلي مصر. 

وقد استخدمت هذه الميليشيات التي كان يقودها موردين من أمثال صبري نخنوخ (الذي نال على عفو رئاسي من الجنرال عبد الفتاح السيسي عام 2016) ضد المرشحين المعارضين في المرحلة الثالثة من الانتخابات التشريعية، وامتدت أيديهم إلى القضاة المشرفين على العملية الانتخابية الذين رفضوا بإصرار وشرف حدوث أي تلاعب في صناديق الاقتراع. 

وعلى الفور انتظمت جمعية عمومية ثالثة في نادي القضاة بتاريخ 16/12/2005 حضرها أيضا ما يقارب الخمسة آلاف قاضى وعضو نيابة عامة في ظاهرة لم تحدث في تاريخ مصر من قبل. 

وفيها قدم القضاة شهاداتهم على عمليات التزوير بالقوة والتعدي الذي جرت في المرحلة الثالثة من الانتخابات التشريعية، بعد أن تبين للحزب الوطني الحاكم وقتئذ، وأجهزة وزارة الداخلية والقيادات السياسية في الدولة أن المرحلتين الأولى والثانية قد أسفرت عما يشبه الاكتساح لمرشحي المعارضة وفى مقدمتهم تنظيم الإخوان المسلمين، بحيث نالوا أكثر من 88 مقعدا، ويضاف إليهم 12 مقعدا أخرى لمرشحين من المعارضة المدنية، وأن من شأن سير العملية الانتخابية بنزاهة ودون تدخل معتاد من الأجهزة الأمنية وميليشيات البلطجية المدارة من جانبهم فأن كارثة سياسية سوف تحل بنظام الحكم وبالحزب الوطني الحاكم، فبدأت أفظع عملية ترهيب وترويع وعنف في هذه الجولة، ونال كثير من القضاة الأذى وكسر الهيبة. 

وقد نشر نادي القضاة في مجلته «القضاة» تقارير فحص وتقويم انتخابات مجلس الشعب التي جرت في نوفمبر عام 2005 في عدة دوائر مثل الدقي وبندر المنصورة وكرداسة وبولاق الدكرور ونبروه بالدقهلية وغيرها كثير، وحينما تأكد في الجمعية العمومية للنادي بتاريخ 16/12/2005 أن هذا المجلس بقيادة المستشار التاريخي زكريا عبد العزيز قد نال ثقة زملائه وأعيد انتخابهم مرة ثانية لقيادة النادي وقيادة مسيرة النضال من أجل استقلال القضاء وضمان نزاهة الانتخابات العامة كشرت الدولة والسلطة التنفيذية عن أنيابها، وبدأت خطة الهجوم المضاد وحرب الحصار. 

وكان القضاة قد أعلنوا في جمعيتهم العمومية الشهيرة في 2/9/2005 و جمعية 16/12/2005 بأنهم لن يشاركوا في الإشراف على الانتخابات مرة أخرى إذا لم تتوافر ضمانات عدم التعدي على القضاة، وكان رئيس النادي المستشار الجليل زكريا عبد العزيز قد سارع بعد جلسة طارئة للنادي بتاريخ 22/11/2005 لمناقشة ما جرى من تعديات على قضاة في اللجان الفرعية واقتحام لجان أثناء الانتخابات وتلاعب في لجان الفرز في المرحلة الثانية للانتخابات التشريعية التي جرت يوم الأحد الموافق 20/11/2005 وعجز الشرطة –إن لم يكن تعمدها– عن حماية القضاة وحماية اللجان، وصدر بيان يوم الثلاثاء الموافق 22/11/2005 يدين هذه التصرفات، وبعدها أعلنت قيادة النادي عن عقد الجمعية العمومية غير العادية الرابعة بتاريخ 17/3/2006 وحضرها 4732 قاضيا وعضو نيابة عامة صوت منهم 3656 عضوا برفض الإشراف على الانتخابات العامة إذا ما تمت بالطريقة والإجراءات التي سبق وأجريت بها الانتخابات الرئاسية في 9/9/2005 والانتخابات التشريعية في الأول من نوفمبر عام 2005.

كما أعلن القضاة في هذه الجمعية على تنظيم وقفة غضب احتجاجية على ما جرى من تعدٍّ على القضاة في الانتخابات السابقة، وخصوصا في الجولة الثالثة للانتخابات التشريعية. وكان نادي قضاة الإسكندرية قد أعلن قبلها بتنظيم وقفة احتجاجية يوم الجمعة 17/2/2006. 

وهكذا بدا أن معركة مفتوحة بين الجسم الرئيسي والغالب لقضاة مصر وبين السلطة التنفيذية ونظام الحكم قد تعدت المطالبة باستقلال القضاء إلى ضمان نزاهة الانتخابات العامة، والتخلص من الميراث الثقيل لعملية اغتصاب السلطة منذ أكثر من مائة عام وأكثر (1928 حتى عام 2005). 

وفي البداية حاول المستشار محمود أبو الليل وزير العدل تهدئة الموقف من خلال إصداره بيانا مشترك مع النادي قبل الجولة الثالثة للانتخابات التشريعية، بيد أن قوة خفية دافعة كانت تحرك الأمور من أجل الإطاحة بتيار الاستقلال والصدام معه إلى أخر المدى، ثم دفع الوزير محمود أبو الليل دفعا إلى ارتكاب الخطأ الذي أشعل نار التحدي حينما أصدر قراره بإحالة بعض رموز تيار الاستقلال، وهما المستشاران هشام البسطويسي ومحمود مكي للتأديب بتاريخ 11/4/2006. بزعم تصريحهما إلى أحدى الصحف عن وجود تزوير في بعض الدوائر الانتخابية ومنها دائرة نبروه دقهلية التي كان يشرف عليها المستشار محمود صديق برهام، وتقديم الأخير شكوى ضدهما وبعدها أعلن نادي القضاة اعتصام القضاة في ناديهم بتاريخ 18/4/2006. 

ومن هنا جرى إزاحة المستشار محمود أبو الليل والإتيان بالمستشار ممدوح مرعى كوزير للعدل للقيام بالمهمة المطلوبة من جانب الحزب الحاكم ومن الرئاسة والأجهزة الأمنية والسلطة التنفيذية عمومًا.