محمود سلطان يكتب: محمود درويش.. «الوجع» و«الشقاوة».. كيف يجتمعان؟!

ذات مصر

من أجمل القصائد التي كُتبت على بحر «المتقارب» الذي يضج بالشقاوة هي قصيدة «أحنُ إلى خبز أمي» للشاعر المجدد الفلسطيني الكبير الأستاذ محمود درويش!
ولعلها عبقرية المهارة وامتلاك الأدوات التي تحيل النص إلى صلصال يسهل تطويعه حسب الرسالة التي يحملها: كيف جمع «درويش» بين «الوجع» وبحر من بحور الشعر، صاخب في إيقاعاته والذي قد يأخذ الشاعرَ ـ من حيث لا يريد ـ إلى أبعد نقطة من «الشقاوة» و«الدلع»؟!
القصيدة ـ في كيفية ضبط مساحات السياق «البنية /تسلسل التفعيلات» تعكس متانة عضلات مهارات درويش في اختزال المعنى «كاملا» في «جمل قصيرة» تنتهي بـ«القافية التفعيلة الأخيرة» من دون أن يضطر ـ إذا طال السياق ـ ولم يُستكمل المعنى.. إلى أن ينتقل إلى السطر التالي قبل أن يستوفي الأول شروط «الوقف» قبل «الابتداء».
 شعر التفعيلة يعتمد أساسًا على «تفعيلة واحدة».. ويجوز ـ بل الغالب ـ فيه عدم استخدام تفعيلة القافية كما هي مقررة في القصيدة العمودية.. وبما يتعلق بموضوعنا فإن بحر «المتقارب» تفعيلته: فعولن أو (فعولُ) 4 مرات في الشطر الواحد.. وعروض المتقارب وضربه على «فعو» أو «فع».. أو «فعولن/ فعول».. لكن في قصيدة التفعيلة سيعتمد على «فعولن أو فعول» فقط، ولا داعي لـ«فَعْ» أو «فعو».. مع أني أميل أحيانًا إلى تقفيل الشطر/السطر.. بالقافية المعتادة إذا كتبتُ شعر تفعيلة!
وفي السياق يقول درويش:

أحنُ إلى خبز أمي: 
التفعيلات: فعولُ فعولنْ فعولنْ
وقهوة أُمي: 
التفعيلات: فعولُ فعولنْ
ولمسة أُمي: 
التفعيلات: فعولُ فعولنْ 
وتكبر في الطفولة يومًا على صدر يومِ: 
التفعيلات: فعولُ فعولنْ فعولُ فعولنْ فعولنْ فعولنْ
وأعشَقُ عمرِي لأني 
التفعيلات: فعولُ فعولنْ فعولنْ
إذا مُتُ، أخجل من دمع أُمي! 
التفعيلات: فعولنْ فعولُ فعولنْ فعولنْ

نلاحظ: أن السطر ما قبل الأخير الوحيد الذي أكمله درويش في السطر الذي يليه ولكنه منضبط «عروضيا».. يختتم بـ«فعولنْ»

القصيدة كتبها درويش قبل هزيمة يونيو «الفضائحية».. تقريبًا عام 1965، وظلت لسنوات طويلة لا يعرف أحدٌ عنها شيئًا.. إلى أن التقطها الفنان والمطرب العربي اللبناني «مارسيل خليفة» خلال الحرب الأهلية اللبنانية (1975 ـ 1990).
مارسيل وضع لها نوتة على مقام «نهاوند».. مقام شرقي «صلصاله» يصلح لجميع الأغراض: حزن وبهجة.. والشقاوة والوقار.. والخشوع والتؤدة.. ولعله أكثر المقامات ـ مع «الصبا» ـ شيوعًا بين قراء كتاب الله.
وغنت عليه «نجاة» قصيدة نزار قباني الشهيرة «أيظن» من ألحان الأستاذ عبد الوهاب.. وغنت عليه فيروز «أعطني الناي وغني» من قصيدة لـ«جبران خليل جبران» كتبها عام 1918 ومن ألحان «نجيب حنكش».. والمدهش أنه يتردد كثيرًا بأن الأخير اقتبس اللحن من موسيقي روسي قديم.. وفي السياق لا يكاد أحد يعرف شيئا عن «حنكش».. الشاعر والموسيقي والصحافي اللبناني.. الذي يعتبر من أقدم الموسيقيين العرب (توفي في لبنان في الثلث الأول من عام 1979)

** قصيدة «درويش» كاملة:
أحنُ إلى خبز أمي
وقهوة أُمي
ولمسة أُمي..
وتكبر في الطفولة يومًا على صدر يومِي 
وأعشَقُ عمرِي لأني
إذا مُتُ، 
أخجل من دمع أُمي!
خذيني، إذا عدتُ يومًا
وشاحًا لهُدْبِكْ
وغطّي عظامي بعشب
تعمَّد من طهر كعبك
وشُدّي وثاقي.. 
بخصلة شعر..
بخيطٍ يلوَح في ذيل ثوبك..
عساني أصيرُ إلها 
إلها أصيرْ.
إذا ما لمستُ قرارة قلبك!

ضعيني، إذا ما رجعتُ 
وقودًا بتنور ناركْ...
وحبل غسيل على سطح دارك
لأني فقدتُ الوقوف
من دون صلاة نهارك
هَرِمْتُ، فردّي نجوم الطفولة حتى أُشارك 
صغار العصافير درب الرجوع... 
لعُشِ انتظارِك!