عبدالخالق فاروق يكتب: دور قضاة مصر في التمهيد للثورة المصرية.. من الدعوة لاستقلال القضاء إلى الدعوة لحرية شعب مصر (6)

ذات مصر

كانت الخطة الحكومية في حصار النادي وقياداته تتوزع عل النحو التالي:
1- تعيين وزير جديد للعدل تُعرف عنه معاداته لتيار الاستقلال، ويتميز بنزوع هجومي هو المستشار ممدوح مرعي، وهو الذي تدرج سريعًا خلال أقل من عامين من رئيس محكمة استئناف القاهرة عام 2001، إلى رئيس المحكمة الدستورية العليا عام 2003، ثم ها هو الآن وزيرًا للعدل في أغسطس عام 2006 ليقود الحرب الجديدة. 
2- قطع كل وسائل المساعدة المالية وغير المالية على نادي قضاة مصر بالقاهرة وحرمان أعضائه والمؤيدين لتيار الاستقلال من أية حقوق نصت عليها لوائح نادي القضاة. 
3- الاختراق من الداخل تماما كما جرى من قبل في الأحزاب السياسية، سواء بتشجيع فروع النادي بالأقاليم وبعض المحافظات (مثل فرع النادي في دسوق – فرع النادي في البحيرة – فرع طنطا – فرع أسيوط – وفرع الإسكندرية)، وفروع النادي هذه يتراوح عدد أعضائها في المتوسط بين مائتين إلى خمسمائة قاضٍ وعضو نيابة معظمهم من المنقولين مؤقتا للعمل في تلك المحافظات. أو بحشد كل عناصر القضاة الموالين للسلطة التنفيذية والمستفيدين من سياساتها ومن مزايا الندب والإعارة وغيرها.
4- تجميع كل عناصر القضاء الموالين للسلطة التنفيذية من أجل أحداث تغيير في أية انتخابات قادمة في نادي قضاة مصر بالقاهرة، وبرز في هذه الجبهة المناوئة لنادي القضاة، المستشارين مقبل شاكر، وفتحي خليفة، وعادل الشوربجي وصلاح البرجي، ورفعت السيد، ومحمد منسي أبو حليمة، وأحمد الزند، وآخرين، مع استمرار الحصار والضغط المالي وغير المالي. 
5- تعيين المستشار مقبل شاكر رئيسا لمحكمة النقض ثم رئيسا للمجلس الأعلى للقضاء بعد بلوغ المستشار فتحي خليفة سن التقاعد دون تمديد للسن، والمستشار مقبل شاكر من أكثر القضاة عداوة لتيار الاستقلال ومن أكثرهم قربا والتصاقا بالسلطة التنفيذية. 
الآن.. انتقلت معركة قضاة مصر من مجرد استقلال القضاء – وهي مهمة جسيمة في حد ذاتها - إلى حماية الشعب المصري كله من تغول وتعسف أجهزة الحكومة التنفيذية، وخصوصا أجهزة الأمن (الشرطة – مباحث أمن الدولة – المخابرات العامة) ضد المواطنين والنشطاء السياسيين. 
وبدأ الهجوم المضاد يكاد يكون متزامنا ومن عدة اتجاهات، فمن ناحية قام رئيس المجلس الأعلى للقضاء ورئيس محكمة النقض المستشار فتحي خليفة بتقديم مشروع قانون لاستقلال القضاء لا يتضمن جوهر المطالب التي سبق وشملها مشروع قانون اللجنة المشتركة المكونة من وزارة العدل ونادي قضاة مصر منذ عام 1991، فجاء رد نادي القضاة متضمنا في رسالة موجهة إلى وزير العدل المستشار محمود أبو الليل – قبل إزاحته بشهور قليلة - من رئيس نادي القضاة المستشار الجليل زكريا عبد العزيز بتاريخ 2/2/2006 مؤكدا تمسك القضاة في جمعياتهم العمومية المتعددة بمشروع قانون اللجنة المشتركة.
وفى الوقت نفسه صرح المستشار فتحي خليفة إلى إحدى الصحف المصرية بتاريخ 21/2/2006 بأن نادي القضاة أصبح تجمعا لمعارضي الحكومة. 
وقبلها بأسابيع قليلة كان وزير العدل المستشار محمود أبو الليل قد أقدم على خطوة صدامية حينما أحال المستشارين هشام البسطويسى ومحمود مكي بتاريخ 11/4/2006، وحينما توجهوا إلى دار القضاء للمشاركة في الدفاع عن زملائهم المحالين للتأديب (القضية رقم 97 لسنة 2006 أمن دولة عليا) صدر قرار بمنعهم من دخول دار القضاء العالي بأوامر من رئيس محكمة النقض المستشار فتحي خليفة بتاريخ 11/5/2006، في سابقة هي الأولى من نوعها في تاريخ القضاء المصري. 
وهنا أعلن قضاة تيار الاستقلال ونادي القضاة الاعتصام في ناديهم بتاريخ 18/4/2006 واستمر حتى 18/5/2006 في سابقة هي الأولى من نوعها في تاريخ المؤسسة القضائية أيضا، وفى تحدٍّ واضح وغير مسبوق لهيمنة وسيطرة السلطة التنفيذية وأجهزتها على محفل القضاء المقدس. وكانت هذه بحق المسمار الأخير في نعش نظام الرئيس حسنى مبارك ومعاونيه.
ولم يكتفِ القضاة وناديهم تحت هذه القيادة التاريخية بهذا الموقف الميلودرامي، بل أعلنوا عن عقد جمعية عمومية خامسة بتاريخ 25/5/2006 صاحبتها وقفة احتجاجية أمام مبنى النادي في أهم ميادين العاصمة المصرية، ووسط كاميرات وصحافة العالم كله، أعقبها بأقل من شهر جمعية عمومية سادسة بتاريخ 23/6/2006، في خطوات حشد وتصعيد تفوق قدرة أي نظام على التحمل. 
وهنا حدث التحام تاريخي وغير مسبوق بين الكتلة الشعبية الغاضبة وخصوصا الشباب، وجموع المثقفين المصريين الرافضين لسياسات النظام والحكم عموما، وبين تيار الاستقلال خصوصا أثناء اعتصامهم في ناديهم وسط القاهرة، فتحلق حوله مئات من الشباب افترشوا الأرض المحيطة بمبنى النادي، واحتشد الصحفيون في مبناهم الملاصق مباشرة لنادي القضاة، وردد آلاف من الشباب والصحفيين الشعارات الدالة من قبيل: 
- يا قضاة.. يا قضاة.. حررونا من الطغاة. 
- يا عزيز يا عزيز.. انصر زكريا عبد العزيز.
- شوفتم الراجل أبو عقل فاضي.. خللى القاضي يحاكم القاضي. 
- قاضي مصر لما أتحاكم.. ده اختبار للقاضي والحاكم. 
- نجح القاضي.. وسقط الحاكم. 
ورددت مصر بأغلبيتها الكاسحة هذه الشعارات في منازلها.. وفى مدارسها.. وفى جامعاتها.. وفى شوارعها. 
أي أن قضاة تيار الاستقلال تحت قيادة المستشار زكريا عبد العزيز قد نظموا سبع جمعيات عمومية خلال عام واحد هي: 
- جمعية عمومية في 13/5/2005.
- جمعية عمومية في 2/9/2005. 
- جمعية عمومية في 16/12/2005. 
- جمعية عمومية في 17/3/2006. 
- جمعية عمومية في 25/5/2006. 
- جمعية عمومية وفى 23/6/2006. 
-وجمعية عمومية سابعة بتاريخ 30/6/2006. 
من أجل التمسك بمشروع قانون السلطة القضائية المقدم من نادي القضاة في مواجهة محاولات الالتفاف عليه من المستشار فتحي خليفة رئيس المجلس الأعلى للقضاء والمتعاونين معه. 
وعلى الفور استنفر كبار الكتاب والمثقفين والشعراء للدفاع عن القضاة ومطالبهم العادلة التي تهفو إليها ملايين المصريين منذ عقود طويلة، فجاء الشاعر أحمد فؤاد نجم، والشاعر سيد حجاب، والكاتب عمار علي حسن، والدكتور محمد السيد سعيد، والكاتبة سناء البيسي، وأعضاء مجلس نقابة الصحفيين ونقابات مهنية أخرى. 
فاعتبرت سناء البيسي أن قضية القضاة هي «قضية وطن» كعنوان لمقالها المنشور في جريدة الأهرام بتاريخ 25/2/2006، ووصفت مبنى نادي قضاة مصر بأنه «بيت الأمة» كعنوان لمقالها المنشور في جريدة الأهرام الحكومية بتاريخ 24/12/2006. وهكذا كانت قضية استقلال القضاء ومطالب القضاة تكتسب كل يوم مساحات جديدة حتى في الأماكن والوسائل التابعة للنظام والحكم. 
وبالمقابل شكل نادي القضاة لجنة متابعة وتقويم للانتخابات التشريعية وتسجيل ما جرى فيها من انتهاكات خطيرة، مكونة من 21 قاضيا ورئيس نيابة برئاسة المستشار أحمد مكي. 
وفى الوقت نفسه جرى استنزاف النادي وقضاة تيار الاستقلال من خلال إجراءات جديدة، مثل إصدار بطاقات للقضاة صادرة من وزير العدل الجديد (المستشار ممدوح مرعى) مما يعني صراحة أنهم تابعون إلى وزارة العدل وليسوا قضاة مستقلين، وكذا قطع كل المساعدات المالية المتعارف عليها للنادي، وأخيرا وليس آخرا وقف إصدار البطاقة الصفراء التي تسمح للقاضي بالسفر إلى الخارج وحضور المؤتمرات والندوات القانونية، وكلها كانت تستلزم رد إدارة النادي برفع دعاوى قضائية للطعن على هذه التصرفات والقرارات. 

وكان من الطبيعي كذلك عقد جمعية عمومية ثامنة بتاريخ 30/11/2007، وطالب المستشار التاريخي زكريا عبد العزيز بمجموعة من المطالب الوطنية وتبناها من بعده قضاة تيار الاستقلال وهي: 
1- طرح مشروع قانون مكافحة الإرهاب للمداولة بين كافة القوى الوطنية. 
2- إلغاء كافة القوانين الاستثنائية. 
3- الفصل بين سلطتي التحقيق والاتهام. 
4- نقل تبعية السجون إلى وزارة العدل. 
5- وضع تقارير محكمة النقض ببطلان نتيجة انتخابات مجلس الشعب والشورى موضع التنفيذ ومحاسبة المسئولين عن ذلك البطلان. 
6- إطلاق حرية النقابات المهنية في إجراء انتخاباتها بإلغاء المادتين الثالثة والسادسة من القانون رقم (100) لسنة 1993. 
7- لا استقلال للقضاء طالما بقيت المادة (98) من قانون السلطة القضائية التي تخول لوزير العدل سلطة إحالة القاضي أيا كانت مرتبته إلى الصلاحية والتأديب. 
8- وقف تدخل وكالة التنمية الأمريكية في برامج تدريب القضاة في محاكم الأسرة بما ينتقص من كرامة مصر 
9- احذروا الغلاء. 
10- وقف الحصار المالي عن نادي القضاة.

هكذا وبلا مواربة ربط قضاة تيار الاستقلال وعلى رأسهم المستشار زكريا عبد العزيز مطالبهم في الاستقلال بمطالب كافة القوى الوطنية في البلاد، وأنطلق فيها صوت القضاة بخطاب لم يسبق للقضاة في مصر أن صرحوا به من قبيل: 
- أن المندوب السامي البريطاني لم يفعل في استقلال القضاء ما فعله وزير العدل (مقولة المستشار البرديسى). 
- أنتم آخر قلاع الأمة وآخر أمل لها في النجاة، فلا تخيبوا رجاءها فيكم (المستشار فؤاد راشد). 
- مشروع قانون وزارة العدل يرمي إلى هيمنة السلطة التنفيذية على السلطة القضائية (المستشار نور يوسف).
وأعقب ذلك صدور بيان من إدارة النادي ممهور بتوقيع رئيس النادي المستشار التاريخي زكريا عبد العزيز يحدد مطالب القضاة. 
وحتى يضرب الرجل المثال والقدوة، قدم المستشار زكريا عبد العزيز بتاريخ 28/7/2007، وثيقة تعديل للائحة النادي من أجل أن تقتصر رئاسة النادي على مدتين اثنتين فقط، أي ثماني سنوات، تبدأ به شخصيا، وبعدها ترك قيادة النادي في عام 2009. ليبدأ من بعدها زحف قضاة تيار الموالاة من أجل انتزاع قيادة النادي من تيار الاستقلال وهنا برز دور المستشار محل الجدل في مصر وهو: أحمد الزند. 
على أية حال وفى إشارة علمية لا تخطئها عين، قام قسم البحوث وقياسات الرأي العام بالمركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية عام 2008 باستطلاع رأى عينة عشوائية كبيرة من المصريين حول (الصورة الذهنية لدى المواطنين عن بعض مؤسسات الدولة) فحاز القضاء ونادي القضاء على أعلى نسبة بلغت 83.2%.

عموما.. بعد هذه التجربة النضالية التاريخية لقضاة تيار الاستقلال في مصر، والمدى الذي سببته من إحراج دولي لنظام الحكم العسكري في مصر، قامت الحكومة بتعديل المادة (88) من الدستور والقانون بحيث جرى إلغاء الإشراف القضائي الشامل على الانتخابات العامة، وعادت ريما إلى عاداتها التزويرية القديمة. لتبقى مصر في انتظار ما جرى من انفجار اجتماعي وسياسي في الخامس والعشرين من يناير عام 2011. 
وإذا كان تاريخ هذه الفترة الحساسة من تاريخ مصر قد سجل من وقف وعارض وناوأ استقلال القضاء ونادي قضاة مصر وفى مقدمتهم المستشارون: فتحي خليفة، مقبل شاكر، عزت عجوة، حسن سليمان، حسن رضوان، أحمد الزند، عادل الشوربجي، صلاح البرجي، رفعت السيد، محمد منسي أبو حليمة، محمد شيرين فهمي، أيمن عباس، أحمد جمال الدين وغيرهم كثير. 
فالمقابل سوف يسجل التاريخ المصري بأحرف من نور، أسماء قادة هذا التيار القضائي الذين شكلوا المدفعية الثقيلة والتمهيدية لفتح باب واحدة من أعظم الأحداث في تاريخ البلاد ألا وهى ثورة الخامس والعشرين من يناير عام 2011، ومن أبرز هؤلاء السادة المستشارين: زكريا عبد العزيز، فؤاد راشد، أشرف زهران، أسامة ربيع، هشام جنينة، ناجى دربالة، أحمد يحيى، محمود الخضيري، أحمد مكي، محمود مكي، أحمد صابر، أشرف البارودي، أحمد الخطيب، حسن غلاب، محمود غلاب، جلال مفتاح، فؤاد شرباش، عزت شرباش، عاصم عبد الجبار، كمال قابيل، ضياء حسنين، مصطفى حسين، محمد توفيق أمين، حمدي وفيق، محمد مكي، ولا نبالغ إذا قلنا مئات غيرهم.