يحيى حسين عبدالهادي يكتب: شَيْخِي

ذات مصر

(لقد شرفتُ بالاشتراك مع المصريين في ثورة ٢٥ يناير ٢٠١١، وطالبنا بالعيش والحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية .. وسوف نستمر في المطالبة بهذه الشعارات لأن الثورة لا تموت)- جورج إسحق في ذكرى ثورة يناير قبل عام.

بعد خروجي من المعتقل، علِمتُ بالوعكة الصحية الشديدة التي أَلَمَّتْ به .. وعزمتُ على زيارته بعد انتهاء توافد المهنئين .. لكنه استبقني بزيارةٍ كريمةٍ مغالباً أوجاعه بصحبة الدكتور عمرو الشوبكى .. كان الكبيرَ كالعهد به دائماً .. (الصورة المرفقة).

كنتُ أناديه كلما التقينا "شَيْخِي" باعتباره شيخ الطريقة الكِفائية .. فيرد بابتسامته الآسرة (أهلاً يا عُمدة) .. وظللنا على هذا المنوال حتى اللقاء الأخير في الجلسة الأسبوعية التي كان يحرص فيها على الالتقاء بعددٍ من أحبابه على فنجان شاي بشرفة أحد الفنادق على نيل القاهرة .. ورغم اشتداد المرض عليه، إلا أن الذِهنَ ظَلَّ مُتَّقِداً لم تغادره روح المقاتل العنيد التى صاحبته طوال حياته. 

كانت موقعة (عمر أفندي) فاتحة خيرٍ لي رغم ما أصابني وقتها .. فلولاها ما تَعَرَّفتُ على هذا الكنز من الأسماء الذين تَشَرَّفتُ وتَدَّفأْتُ بهم .. كان في القلب منهم جورج إسحق.

كنتُ في مكتبي في شارع شريف كرئيسٍ لمجلس إدارة إحدي شركات القطاع العام في أواخر ٢٠٠٥، عندما تنامَى إلى سَمعنا صوت الهتافات المناوئة للنظام على وقع الطبول .. كانوا مجموعةً من نبلاء كفاية الذين قرروا أن ينتزعوا حقهم الدستوري في التظاهر السلمي دون تصريح .. كان المشهدُ غريباً في قلب عاصمةٍ لم تشهد مظاهرةً منذ حوالي ٣٠ عاماً (مظاهرات الخبز ١٩٧٧) .. اجتاحني شعورٌ بالفرحة لجسارة هذه المجموعة من شعبٍ حسبوه مَيِّتاً .. مع غُصَّةٍ من الحزن لعدم القدرة على مشاركتهم بسبب قيود المنصب الرسمي.

كانت الحركة المصرية من أجل التغيير إحدى التجليات العبقرية التاريخية للشعب المصري في مقاومة الاستبداد .. وكان اختيار الاسم (كفاية) عبقرياً في حد ذاته .. وكان اختيار جورج إسحق (بالإجماع) كأول منسقٍ للحركة جزءاً من هذا التجلي .. لم يكن هذا الرجل معروفاً خارج دائرة النبلاء الثلاثمائة الذين وَقَّعوا البيان التأسيسي .. سرعان ما ارتبط اسمه بها وارتبطت به.

خلطة مصرية عجيبة قَلَّما اجتمعت في شخصٍ واحدٍ .. مدرس التاريخ اليساري المنفتح على الجميع .. المسيحي المنضم لحزب العمل والمصادق لقيادات الإخوان والمشارك في مناسباتهم .. الأرثوذوكسي الذي صار مديراً للمدارس الكاثوليكية في مصر  .. وهو في كل ذلك: الإنسان المهموم بقضايا وطنه .. البشوش الذي تأسرك ابتسامته.

كان لقائي الأول به عقب اختيار كفاية لمنسقها الثاني د. عبد الوهاب المسيري بعد أن أَقَرَّتْ مبدأ تداول منصب المنسق كل عامين كنموذجٍ مضاد للتمديد الأبدي لمبارك .. لكن ظل جورج جندياً مقاتلاً تحت راية كفاية مع قدرةٍ فريدةٍ على حفظ آلاف الأسماء من قواعد كفاية في المحافظات .. وهو ما أَهَّلَه فيما بعد ليكون مقرر لجنة المحافظات في الجمعية الوطنية للتغيير قُبَيْلَ وأثناء ثورة ٢٥ يناير.

اختلف البعض معه لاستمراره في المجلس القومي لحقوق الإنسان الذي تقاعس عن القيام بدوره منذ سنوات .. لستُ مع هؤلاء .. فانسحابه كان مرغوباً من عشرات المشتاقين من عاهات المرحلة المتأهبين للجلوس مكانه .. لكن جورج ظل بدأبٍ مدهشٍ يؤدي دوره في مجلسٍ لا يؤدي دوره .. ظل حتى الأسبوع الماضي منشغلاً رغم مرضه بتوصيل شكاوى المضطهدين لقيادات المجلس التي لا تفعل شيئاً .. لكنه على الأقل كان مصدر إزعاجٍ لهم .. الأهم أنه لم يفقد بوصلته أبداً وظل حتى الرمق الأخير رافضاً للوضع المزري لحقوق الإنسان وحرية التعبير.

قرأتُ في الساعات الماضية نداءاتٍ من بعض الطيبين بأن تطلق الدولة اسم جورج على أحد منشآتها(!!!) .. وهي طِيبةٌ وحُسْنُ ظَنٍّ تبعثان على الدهشة .. هَوِّنوا عليكم يا سادة، فأمثال جورج والمسيري وغيرهم لا تُخَلِّدهم لافتة على كوبري أو شارع تطير مع أول عاصفة، فأسماؤهم مُخَّلَدَةٌ ومحفورةٌ في القلوب .. وستبقى صورة جورج إسحق وهو يحرس جموع المصلين المسلمين في ميدان التحرير هي أيقونة ثورة يناير الخالدة العابرة للزمان والمكان.

اليوم يُوَارَى جثمان شَيْخِي ترابَ الوطن الذي كان من عُشَْاقِه .. رَحِمه اللهُ.