يحيى حسين عبدالهادي يكتب: لا تَقْسُوا على شعبِكم

ذات مصر

كلما سَحَقَت (الإصلاحاتُ) عِظامَ الشعب، وهَتَكَت كرامةَ أُسَرٍ اعتادت على التَحَصُّنِ بالستر، انفجر بعضُنا (ولا سيما الشباب) يصبُ جامَ غضبه على الشعب، واصفينه بالخانع الذى لا يثور .. يا شبابنا المذبوح ألَمَاً وحسرةً وغضباً .. اِغضَبْ فأنت شابٌ وإنسانٌ .. والإنسان بفطرته تَوَّاقٌ للعدل والحرية والكرامة .. ولكن لا تقسوا على شعبكم ولا تتعالَوْا عليه ولا توجهوا سهامَكم إليه .. ركزوها على أعداء الوطن الحقيقيين .. يكفى شعبَكم ما يلاقيه من تعنيفٍ وتوبيخٍ من إعلامٍ سافلٍ يتهمه بالجحود وعدم تقدير نِعَم الاستبداد والفساد والعشوائية والغلاء التى يرفلُ فيها  .. لا تكونوا أنتم وهؤلاء على الشعب الصابر.

مَن أفهمَكم أن الشعوبَ تتدفق فوراً  إلى الشوارع والميادين اعتراضاً على القرارات الجائرة؟ .. فأمَّا الدول الديمقراطية فإن الشعوب فيها لا تثور وإنما تتظاهر .. حيث التظاهر مُتعةٌ لا خطورة فيها .. ويعود كلُ معترضٍ إلى بيته آمناً فى حماية الدولة، بعد أن أَوصَلَ صوتَه لإعلامٍ مهنىٍ شفاف ونوابٍ حقيقيين فى برلمانٍ حقيقى .. بينما الشعوب الرازحة تحت نُظُم الحكم الفردى .. حيث لا حصانة لمعترضٍ فى مواجهة السلطة .. وحياةُ المتظاهر أرخصُ عند النظام من ثمن رصاصة .. والقانون والدستور فى إجازةٍ .. ومعظم الشعب فى معركةٍ يومية مع الغلاء الساحق وتكاليف الحياة .. مثل هذه الشعوب فى ظل هذه النظم القمعية لا تثور بضغطة زر .. وإنما تنفجر فى لحظةٍ غير متوقعةٍ نتيجة التراكُم .. تراكُم الظلم وتراكُم المقاومة .. فالثورات الشعبية ضد الطغاة تظل حالةً استثنائيةً نادرةً فى التاريخ الإنسانى وهي ليست مطلوبةً لذاتها لما يصاحبها من فوضى وآلام .. ثورةٌ واحدة فى فرنسا منذ أكثر من مائتى سنة .. ثورةٌ بلشفيةٌ واحدة فى روسيا منذ مائة سنة  .. ثورةٌ واحدة فى إيران .. ثورةٌ شعبية واحدة فى مصر فى ٢٠١١.

أمَّا شعبك الصابرُ الذى يُلاطِم الحياةَ وتُلاطمه فيستحق أن تنحنى على أقدامه تُقَّبِلُها لا أن تلعنه .. أولئك القابضون على شرفهم كالجمر .. ولا تعرفهم الفضائيات ولكنّ الله يعرفهم .. يبيتون على الطوى ولا يسألون الناس إلحافاً .. التمسهم بين الفلاحات الشريفات القادمات فجرَ كل يومٍ من ضواحى القاهرة، حاملاتٍ ما أنتجنه من جبنٍ وبيضٍ لترجعن فى نهاية يومٍ شاقٍ بجنيهاتٍ قليلةٍ تتعفف بها أُسَرُهُنَّ .. وابحثْ عنهم بين الرجال المنكسرين فى (سوق الرجالة) فى انتظار (شيلة رمل) تهُدّ الحيل فى قيظ الصيف مقابل جنيهاتٍ قليلةٍ ولكنها حلال، ولا يخطر ببالهم (مجرد خاطرٍ) أن يلوثوا جيوبهم بمالٍ حرام.

قبل أكثر من سبعة عشر قرناً تَعَّرَضَ أجدادُك المصريون المتمسكون بمسيحيتهم يا بُنَّىْ لأهوالٍ على يد جنود دقلديانوس  .. كان أرحمُها الذبح السريع غير المصحوب بالتعذيب البشع .. ورغم أن التخفى فى وجه هذا الطاغية كان مُبَّرَرَاً إلا أن البعض جاهر بمسيحيته ودفع الثمن كاملاً .. كالشهداء مار مينا ومار بقطر ودولاجى ورفقة، وغيرهم  ..  لكن أحداً منهم لم يلعن شعبه ولم يتعالَ عليه .. إن استطعتَ أن تكون مثلهم فقد ارتقيتَ منازلَ الشهداء .. وإن لم تستطع فلا بأس .. المهم ألا تكون عوناً لدقلديانوس ولو بقلبك.

كُن إن استطعتَ كسُمَّيَة التى لم تتراجع عن إسلامها وصارت أول شهيدةٍ فى الإسلام .. ولكن اعذُر وتَفَّهَمْ (مَن أُكرِه وقلبُه مطمئنٌ بالإيمان) مثلما تَفَهَّمَ الرسولُ عليه الصلاة والسلام ضعف ابنها الصحابى الجليل عمار بن ياسر الذى جاء إليه نادماً على اضطراره لإظهار الكفر حتى ينجو من بطش مُعَّذبِيه .. إن لم تستطع أن تكون سُمَّيَة .. فلا تتعالَ على عمار .. المهم ألا تصطف مع أبو جهل. 

فى رائعة نجيب محفوظ وصلاح أبو سيف (القاهرة ٣٠) ..  كان هناك على طه (وأدَّى دوره الفنان عبد العزيز مكيوى) المهموم بقضية الوطن والذى يدفع ثمن موقفه مُطارَدَةً وتشريداً وفقداً للحبيبة واستشهاداً في النهاية .. وكان هناك الديوث محجوب عبد الدايم الذى يبيع أى شئٍ، بما فى ذلك شرفه من أجل أى شيء (وأدَّى دورَه الفنان حمدي أحمد) .. أمَّا الأغلبية فكانت من عينة المواطن الذى لا يقوى على تبعات أن يكون مناضلاً ولكنه لا يقبل أن يكون دَيُّوثاً (وأَدَّى دورَه الفنان عبد المنعم إبراهيم) .. يا بُنَّى .. ليتك تكون على طه .. ولكن إذا لم تستطع فلا تتعالَ على عبد المنعم إبراهيم .. اعذُره وتَفَّهم ضَعفَه ولا تصَّوِب سهامك إليه .. هو ليس عدُوَّك بل هو رصيدُك الذى سينضم إليك ذات يوم .. فقط إياك أن تكون محجوب عبد الدايم.

سيظل الإمام الحسين نموذجاً للسير في طريق الحق إلى مُنتهاه مهما كانت التكلفة .. ولا بد لكل أمةٍ من حُسَيْن .. لكن تَذَكَّرْ أنَّ جيش الحسين كان قليلاً (وجيش الحسين دائماً يا بُنَيُّ قليل) .. كانوا أقل من مائة في أُمَّةٍ تعدادها عدة ملايين .. تَفَهَّمْ يا بُنَيّ ضَعْفَ الناس وخَوْفَهم ولا تَكُنْ مثلَهم .. كُنْ كآبائك في الحركة الوطنية الذين أنفقوا عُمْرَهم (ولا يزالون) مهرولين للحاق بجيش الحسين أينما كان .. لكنهم ما عاتبوا شعبَ الكوفة ولا تَعالَوْا عليه أبداً .. لم ولن يحاربوا إلا يزيداً.

(اقتباساً من مقالٍ قديمٍ لكاتب السطور بتَصَّرُفٍ).