محمود سلطان يكتب: الناس والأغاني.. و«لا تسألوني ما اسمه حبيبي»

ذات مصر

الناس - عادة - يسمعون الأغاني، ولا يسألون على أي مقام موسيقيِ وضَعَ الملحنُ نوتته، ولا من أي بحرٍ من بحور الشعر كتب الشاعر قصيدته، ما يترك وعيا "مطففًا" لا يدرك قيمة ووزن الجهد الذي يقف خلف ما يسمعه صوتًا ولحنًا وكلمات "شعر/القصيدة".

بالتأكيد ليس مطلوبًا من الناس أن يعرفوا المقامات الموسيقية ولا بحور الشعر، حتى يستمتعوا.. فما لديهم من "ذائقة فطرية" تجعلهم في مقام "الفناء" بمعناه الصوفي بكل اكسسواراته "الحلول والاتحاد" مع ما يسمعون. 

أذكر أنني عندما كنت أقرأ كتاب عبد القاهر الجرجاني ـ المتوفي عام 1078 ـ  "دلائل الإعجاز"، اكتشفت ـ وبدون وعي مني ـ جسدي يتمايل طربا، مع كل فقرة أقرأها له ـ رحمه الله ـ وكأنني درويش في حلقة ذكر!!.

بيد أنه يبقى استنطاق الصوامت في علاقة المبدع بالمتلقي، والتي لا تخلو من شبهة "الظلم" في الحكم النهائي والتفصيلي على العمل الفني.

حالتنا ـ هذه التي نحن بصددها ـ لا تشبه "التأويل" و"تعدد المعني" عند "رولان بارت"، وإنما إضاءة المسرح بكل تفاصيله الصغيرة حتى تلك التي تتعلق بالمقام الموسيقي أو بالقصيدة، وعلم العروض والبحر التي كتبت عليه، وهذا حق من حقوق المبدعين دون مغالاة 

على سبيل المثال ينسب لأبي الطيب المتنبي هذا البيت:

مَلأى السنابل تنحني بتواضعٍ ... والفارغات رؤوسهنّ شوامخُ

وهذا البيت من روائع الشعر العربي: أنا وأنت وكل الناس يمرون على حقول القمح، مرور الكرام، دون أن يثير فيهم هذا المعني الذي ورد في القصيدة.. غير أن نظرة الشاعر أو تأمله يختلف عن نظرة العوام، إذ صنع منها هذه الحكمة الخالدة والتي تحملك على "التمايل" وتنتزع منك الآهات والتهليل العفوي والتلقائي.

  فضلا عن أن المتنبي ـ إذا صح ما قيل أن البيت له ـ كتبه على بحر "الكامل التام".. وهو أكثر بحور الشعر استعمالًا قديمًا وحديثًا.. غير أنه ليس كل ما كتب عليه من شعر يبقى في مثل هذا الجمال والشياكة والأناقة التي جعلته من أكثر أبيات شعر العربي تداولا بين الناس:  المهارة في ترتيب قطع الديكور الجمالي في "المعمار"، بنية النص "السياق" يحتاج إلى شاعر فنان "حرفي" ينحت شعره مثل الرسم الفرعوني على الجداريات المصرية القديمة.

 وهو ذات البحر "الكامل" الذي كتب عليه نزار قباني رائعته "أيظن" التي غنتها السيدة نجاة الصغيرة ولحنها على مقام "نهاوند" الأستاذ محمد عبد الوهاب

أيظن أني لعبة بيديه؟ .. أنا لا أفكر في الرجوع إليه

اليوم عاد كأن شيئا لم يكن .. وبراءة الأطفال في عينيه

ليقول لي : إني رفيقة دربه  .. وبأنني الحب الوحيد لديه

ونزار.. أيضا ليس شاعرا ناظمًا "صنايعي/ حرفي" وحسب.. وإنما يتمتع بشياكة السياق واختيار اللغة والمفردات السائدة بين الناس ليصنع منها معمارًا جماليا يأخذ بالألباب.. يصنع من الكلمات "حلويات" ويصنع منها "المشانق" أيضا التي علق فيها رقاب الديكتاتوريين العرب.

في السياق.. يبهرني أمل دنقل، ونزار قباني.. في الكتابة على بحر "الرجز".. وهو البحر الذي يعتبره العرب "نثرا" ينشدون عليه بالسليقة.. وتعوزه الموسيقى.. غير أن الأول والثاني ـ أمل ونزار ـ كتبا عليه أجمل قصائدهما حتى أن "نزار كتب عليه" أصبح عندي الآن بندقية" التي غنتها أم كلثوم.

بينما يعتبر أجمل ما كتبه نزار على هذا البحر "الرجز" هي قصيدة لا "تسألوني ما اسمه حبيبي" والتي غنتها السيدة فيروز من ألحان الأخوين رحباني.. وأحب أن أقدمها لكم في نهاية المقال كقطعة من "الآيس كريم" في شهر يونيو شديد الحر:

لا تسألوني ما اسمُهُ حبيبي   أخشى عليكُم ضَوْعَةَ الطُيُوبِ

واللهِ لو بُحْتُ بأيِّ حرفٍ   تكدّسَ الليلَكُ في الدروبِ

تَرَوْنَهُ في ضِحكةِ السَوَاقي    في رَفّةِ الفَراشةِ اللَّعوبِ

في البحرِ في تنفُّسِ المَرَاعي   وفي غِناءِ كلِّ عَندليبِ

في أدْمُعِ الشتاءِ حينَ يبْكي   وفي عطاءِ الدِّيمَةِ السَكُوبِ

مَحاسنٌ لا ضمّها كتابٌ     ولا ادَّعَتْها ريشةُ الأديبِ

لا تسألوني ما اسمُهُ كَفَاكُم   فَلَن أبوحَ باسْمِهِ حبيبي