علاء عوض يكتب: متى تتعلم مصر من سنغافورة وكوريا الجنوبية وإسرائيل؟

ذات مصر

عندما قررت ماليزيا فصل سنغافورة عنها عام 1965، وقف رئيس وزراء سنغافورة لي كوان، أمام وسائل الإعلام، باكيًا قائلًا: «أنا رئيس بلد يسكنه 3 ملايين شخص، وﻻ يوجد به ماء للشرب، وﻻ يملك أي موارد طبيعية، وأترجى ماليزيا أن تعيد النظر في قرارها».

ولكن عبثًا حاول، فلم يهتم بدعواته أحد هناك، وظل لي كوان يحاول السعي في طريق التسول من الدول، والكل أعطى ظهره له، حتى أنه جاء إلى مصر طالبًا العون من الرئيس جمال عبد الناصر، وطلب منه التعاون والمساعدة.

لم يهتم به ناصر وفقًا للظروف التي كانت تمر بها مصر بعد هزيمة يونيو (حزيران) 1967. كان الرئيس المصري محقًا، لأنه لن يستفيد أي شيء من تلك البلد المحطمة الفقيرة جدًا التي حتى لا تجد ماء تشربه. وعاد كوان لبلده وأعلن أنه ﻻ يملك شيئًا يقدمه لسنغافورة إﻻ تنمية الثروة الوحيدة التي تمتلكها بلده؛ إنه المواطن السنغافوري، فهذا هو مشروعه الوحيد الذي لا يملك رفاهية فشله للخروج من حالة العتمة والظلام التي تخنق بلده.

ولكن كيف نجح لي كوان في إعادة بناء الشعب؟ أعلن الحرب على الفساد، ونجح في كبح جماحه، بجانب الردع القانوني بوسيلة بسيطة جدًا ولكنها كانت عظيمة الأثر في تحقيق الهدف. فقد ألزم كل موظفي الحكومة بارتداء زي أبيض رمزاً للشفافية ومكافحة الرشوة، ثم طبق القانون على أهله قبل الآخرين، ونزل للشارع، وحث الناس على العلم، وطبق مناهج الدراسة الإنجليزية في كل مراحل التعليم، واعتمد مبدأ أن كل طفل أو طفلة، يملك أو تملك، مواهب بطريقة خاصة، والمبني على تجميع الأطفال ذوي القدرات المتماثلة معًا، مما يجعل من النظام التعليمي نظامًا فعالًا، وذلك عن طريق توجيه الأطفال للمجال الذي يناسب مهاراتهم وقدراتهم لتعزيزها.

وصقل إمكانات الطالب من النواحي العقلية والأخلاقية، ورفع كفاءة المعلمين باعتبارهم الركيزة الأساسيّة للعمليّة التعليميّة، وقام بتخصيص 20 % من الميزانية لقطاع التعليم، وجعل الهدف الأساسي من التعليم إخراج جيل واعد مُتعلم، وعلى قدر عالٍ من المعرفة والثقافة، بعد أن نفذ لي كوان خطته في إعادة بناء المجتمع السنغافوري.

بالتزامن، عمل على تنمية الميزة الوحيدة الاقتصادية التي وهبتها الطبيعة لبلده، وهي الموقع الجغرافي الاستراتيجي، فهي تقع عند مضيق ملقا، وهو مضيق مائي يربط المحيط الهندي ببحر الصين الجنوبي، فسخر تلك الميزة عبر جعل بلده محطة ضخمة للسفن العالمية، بها كل الإمكانات، وبذلك سيطرت سنغافورة على نحو 40 % من إجمالي حركات الشحن التجاري البحري في العالم، وأصبحت البلاد بمينائها مركزًا تجاريًا مهمًا في المنطقة، يرتبط بأكثر من 600 ميناء في العالم، وترتب على ذلك أيضًا أن أصبح مطار سنغافورة هو أيضًا محطة جوية ومركزًا تجاريًا عالميًا.

كل ذلك بسبب سياسة سنغافورة الاقتصادية القائمة على الشفافية ونبذ الفساد وتنمية مهارات شعبها، مما سهل لها نقلتها النوعية الاقتصادية العبقرية التي تجنبت خطأ تحكم الدول في التجارة، واعتمدت سنغافورة مبدأ تسهيل التجارة.

بعد سنوات قليلة، الرئيس لي كوان أصبح سيدًا ورمزًا عالميًا، وصاحب نظرية ملهمة في نقل المجتمع للأمام، يقف أمام وسائل الإعلام هذه المرة غير باكٍ ولا متسول؛ بل ليعطي العظة والدرس للعالم أجمع، قائلًا: «تنظيف الفساد مثل الدرَج، يبدأ من الأعلى نزولًا للأسفل. كان لدي خياران: إما أن أمارس السرقة وأدخل أسرتي في قائمة (فوربس) لأغنياء العالم، وأترك شعبي في العراء، أو أن أخدم وطني وشعبي وأدخل بلدي في قائمة أفضل الدول الاقتصادية في العالم، وأنا اخترت الخيار الثاني».

نجحت سنغافورة وتفوقت على الدول التي ذهبت إليها تطلب منها المعونة والمساعدة حتى مياه الشرب، التي دفعها نقص مواردها إلى إبرام اتفاقية لاستيراد المياه من جارتها ماليزيا، تغلبت عليها بفضل العلم وباتت اليوم سنغافورة صاحبة الريادة في تجربة توفير المياه العذبة في عالم تزداد طلباته الملحة على مصادر المياه في ظل التغيرات المناخية؛ حيث تحولت الجزيرة إلى تصدير أساليبها التكنولوجية في توفير المياه العذبة إلى الخارج، إما عبر المؤتمرات العلمية أو إرسال خبرائها إلى الخارج.

نجاح سنغافورة لم يكن وليد الصدفة؛ بل أساسه الإصرار على التعليم والعلم وتنمية مهارات المجتمع، الثروة الأهم لأي دولة. بفضل ذلك أصبحت سنغافورة الآن مركزًا ماليًا وتجاريًا عالميًا، ومن أعلى بلاد العالم في التنمية الاقتصادية، بمعدل نمو 18 % سنويًا، وتجاوز عدد سكانها 5 ملايين نسمة، يعيشون على 700 كيلومتر مربع فقط، إجمالي مساحة سنغافورة، ويعني ذلك كثافة سكنية عالية جدًا جدًا على مساحة صغيرة جدًا جدًا؛ حيث يمكن بسيارتك أن تجوب كل سنغافورة في نصف ساعة بسيارتك.

وأصبحت من بلد فقير ﻻ يملك أي ثروة تحت الأرض، دخل الفرد فيها لا يتجاوز 300 دولار في ستينات القرن الماضي، إلى بلد قمة في الثراء وصل متوسط دخل الفرد فيه إلى 7 آلاف دولار شهريًا، وذلك بفضل تنمية الاستثمار في العقل البشري لمواطنيها؛ حيث أصبحت من أكثر دول العالم في معدلات التنمية البشرية، بفضل القضاء على الفساد والاعتماد على العلن. وتغلبت على مشكلات الفقر المائي بتحلية مياه البحر بتقنية سنغافورية بحتة، وتملك أفضل شبكات طرق في العالم، وأصبحت محورًا وممرًا للتجارة العالمية، وأكبر أسواق التكنولوجيا العالمية. وهكذا رد كوان على كل من كان يسخر من بلده وفقرها. 

والعظة أن الثروة الحقيقية ﻻ تكمن في باطن الأرض، وإنما فوقها. إنه الإنسان، الوحدة الأهم في بناء الدولة. لذا يجب أن يكون بناؤه على أسس علمية هو الهدف الاستراتيجي لأي مجتمع يبحث عن النمو والتنمية المستدامة.

تجارب الدول التي حققت النهوض من تحت الركام ليست وليدة الصدفة. وثمة عامل مشترك فيها، ألا وهو العلم، فهو الساحر الذي يحقق المعجزات في وقت قصير، ويأتي لك بالنهضة الكبرى قبل أن تغادر كرسي الحكم ويخلدك في التاريخ ضمن العظماء.

فكوريا الجنوبية كان نساؤها يبعن شعرهن لإطعام أطفالهن في منتصف القرن الماضي، وسخر من أحوالها الجنرال الأمريكي دوجلاس ماك آرثر، قائلًا إن كوريا ليس لها أي مستقبل، ومن الصعب أن تنهض بنفسها حتى لو بعد مئات من السنين. كان لا شيء يدعو للتفاؤل في ذلك البلد. اليوم بفضل إعادة بناء الإنسان عالميًا، وتسخير ذلك لتنمية الصناعة، أصبحت تحتل المركز الخامس عشر عالميًا وفق الناتج المحلي الإجمالي، وخسر الجنرال الأمريكي الرهان، وربح الشعب الكوري.

حتى إسرائيل عندما انهار اقتصادها عام 1985، وذهب سعر عملتها للجحيم، وتجاوز التضخم عام 1984 رقم 400 %، لم تخرج من نفقها المظلم وأزمتها وفقرها إلا بتعديل بوصلتها نحو العلم والاستثمار في تنمية الإنسان الإسرائيلي. فحوَّل سحر العلم مركز ثقل الاقتصاد الإسرائيلي من المنسوجات إلى التكنولوجيا العالية التي أصبحت بفضلها اليوم تقايض العرب على التطبيع مقابل التكنولوجيا وسيادة المنطقة.

نحن كذلك في مصر يمكن لنا الوصول إلى هذا العالم الغني، ومغادرة عالم الأزمات، بسحر العلم وأثره السريع في إعادة بناء شخصية الإنسان المصري كما فعلت سنغافورة؛ خصوصًا أننا في وضع جغرافي أفضل، ولدينا من الثروات الطبيعية ما يجعل مهمتنا أسهل من سنغافورة وكوريا الجنوبية وحتى إسرائيل نفسها.

فهل نبدأ؟