أحمد أمين يكتب: الزيارة المرتقبة لأنقرة.. سيدي الرئيس قبل أن تذهب

ذات مصر

روى لي أحدهم أنه من خلال إقامته في تركيا وتبادله لأطراف الحديث مع العديد من الأتراك على اختلاف توجهاتهم أن هناك مشتركًا بين رؤية الأتراك للمنطقة بصفة عامة، ومصر بصفة خاصة، خاصة منذ أحداث ما عرف بالربيع العربي وما تلاه من تغيرات سياسية وأحداث.

تذكرت حينها خطابات الرئيس التركي رجب طيب أردوغان وهجومه المتكرر في المحافل الدولية والإقليمية على مصر، ودعمه منقطع النظير لجماعة الإخوان المسلمين قبل وصولها للسلطة وبعد وصولها. فقد اعتبر أردوغان الإخوان المسلمين مدخلًا للنفاذ إلى دوائر صنع القرار في الدولة المصرية، لتصبح مصر تابعة لتركيا، باعتبارها رأس الحربة في المنطقة. ومع انهيار هذا الحلم التركي في 2013م، عبَّر أردوغان عن غضبه وسخطه من هذه الأحداث، وبدأت منذ تلك اللحظة الحملات الإعلامية والسياسية على مصر وعلى الوجوه السياسية الجديدة، خاصة وزير الدفاع المصري سابقًا والرئيس الحالي عبد الفتاح السيسي. وبدأت الحملات الإعلامية على كافة المستويات في تركيا في الهجوم على الرئيس الجديد وعلى الجيش المصري، وعلى كل ما يمت لهما بصلة من قريب أو من بعيد. تارة في أروقة الأمم المتحدة، وتارة في لقاءات صحفية مع رؤساء ورؤساء وزراء في أوروبا وآسيا وغيرهما، وكأن سيادته يقرر مصير أعرق دولة في المنطقة باعتبارها تابعة للأراضي التركية.

ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل دعمت تركيا الجماعات الجهادية في سوريا وفي ليبيا وفي مصر وفي اليمن وفي كل بقعة من المنطقة لتمد سلطان نفوذها، ولتستعيد سيطرتها على حديقتها الخلفية، التي سلبت منها وقسمت ووزعت ما بعد الحرب العالمية الأولى على القوى الأوروبية المنتصرة بريطانيا وفرنسا، ثم الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية. ومع انهيار هذا المشروع في مصر تحديدًا أصبح الأمر دربًا من دروب الخيال، استيقظ منه الرئيس أردوغان مفزوعًا ليكيل النقد اللاذع يمنة ويسرة غير آبه بالواقع الذي فرضته التغيرات منذ 2013م وما بعدها. وقد استعادت الدولة المصرية سلطان نفوذها على كافة أراضيها وطهرت جحور الثعابين والعقارب في سيناء وفي الصحراء الغربية، والتي دعمتها تركيا وإسرائيل ومن خلفهما حلف الناتو بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية. وعانى المصريون من هجمات إرهابية متكررة أودت بحياة الكثيرين من الرجال والشيوخ والنساء والأطفال في مساجد مصر وكنائسها وشوارعها. وفرضت الأجهزة الأمنية هيبة الدولة وقوتها وبأسها خاصة بعدما أعاد الرئيس عبد الفتاح السيسي تسليح الجيش المصري ليتفوق في تسليحه وقدرات الدفاعية والهجومية والتقنية على الجيش التركي الذي لم يدخل حربًا واحدة منذ الحرب العالمية الأولى، اللهم إلا في قبرص التركية وفي الشمال العراقي والسوري مدعومًا من الناتو ولصالح الناتو أيضًا.

والآن، وبعد إعادة انتخاب الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، وسعيه الحثيث لإعادة ضبط علاقات تركيا مع دول الجوار، خاصة مصر، يبدو أننا أمام صفحة جديدة من العلاقات المصرية التركية، ولكن هل سيكون ذلك لصالح مصر شعبًا وقيادة؟ أم أننا سنجني ثمار الكبر والعنصرية والتعالي لتركيا؟
تمتلك تركيا قاعدة اقتصادية وصناعية وتعليمية متفوقة ومتطورة وحديثة جراء الدعم الغربي والأوروبي لها باعتبارها عضوًا في الناتو. وهو ما جعلها في مقدمة دول المنطقة تعليميًا وصناعيًا واقتصاديًا وتصديريًا. وحتى مع الهزات والاضطرابات الاقتصادية والسياسية والعسكرية التي تعرضت لها تركيا خلال العقد الأخير، لم يتغير أي مما سبق، بل تضيف تركيا بقيادة الرئيس التركي أردوغان لرصيدها الكثير على مدار الساعة. وساهمت سياسات أردوغان المتناقضة ربما، وسريعة التبدل، وشديدة البراغماتية، في عدم وضوح الأهداف التركية، والتي يمكن اختزال جلها في تحقيق أكبر مكاسب اقتصادية وسياسية داخليًا وخارجيًا. 

يدرك العامة والخاصة أن مواقف الدولة المصرية هي مواقف تستند إلى كثير من الحلم، والأناة وعدم اللجوء للحدة وربما لاستعمال الأدوات الخشنة في السياسة الخارجية، طالما تحققت الأهداف المرجوة في ميادين السياسة والدبلوماسية، وهو ما تمتلك مصر منه رصيدًا ضخمًا وعريقًا - والذي يفوق الدبلوماسية التركية ربما -. ولهذا ليس لدينا على المستوى الاجتماعي أي توجس من توجهات الدولة للتقارب مع أنقرة. فبالطبع ستكون المنفعة متبادلة. والسياسة دائمًا هي فن الممكن. ولكن، هل يضمن لنا هذا التقارب عدم نشاط قواعد الإرهاب ذو الغطاء الديني مجددًا؟ وهل سنستفيد من هذا التقارب في بناء قاعدة اقتصادية صناعية تفوق تلك التي تمتلكها تركيا؟ وهل سنقوم بجذب ملايين السياح من كافة دول العالم ليروا تاريخنا وإرثنا الحضاري الذي يفوق نظيره التركي بآلاف السنين؟ وهل سنستفيد بجذب آلاف الطلاب من كافة دول العالم لجامعاتنا المصرية المختلفة والمتنوعة؟ وهل سنستفيد من توطين الصناعات العسكرية التي تفوقت فيها تركيا بسبب دعم الغرب لها منذ وصول أردوغان للسلطة في مطلع الألفية؟ وهل سنحول اقتصادنا ليعتمد على التصنيع والتصدير بدلاً من الاقتصاد الريعي الخدمي الاستهلاكي؟ أسئلة كثيرة سيكون جوابها بالنفي على ما يبدو. 

سيدي الرئيس قبل تذهب نرجو أن تطمئن الشعب المصري عامته وخاصته بعدم توغل تركيا في كافة شؤوننا السياسية والاقتصادية والدينية والثقافية والعسكرية وغيرها من ميادين النفوذ التي تسعى تركيا لتكون لاعبًا مؤثرًا فيها. ولا تنسى كذلك سيدي الرئيس أن تركيا تدعم أثيوبيا في سد النهضة لصالح الناتو ولصالح الغرب والولايات المتحدة. كما أنها تعمق نفوذها في السودان كما فعلت في ليبيا، وهو ما يهدد أمننا القومي المباشر على المدى القصير والمتوسط. وإلا ستصبح كل هذه الجهود عبئًا علينا في مستقبلنا، والذي نرجو أن تكون وضعت قواعد قوته منذ توليك هذه المهام الجسيمة. ولا تنسى أنك سيدي قد فتحت صدرك لمحاربة الإرهاب بكل ذيوله وداعميه، فلا تضع رأس مصر تحت المقصلة التركية برعاية الناتو والغرب مرة أخرى.