أحمد أمين يكتب: التقدم والتخلف: محاولة التحديث والصحوة الحضارية (2)

ذات مصر

تناول المقال السابق بدايات محاولات الصحوة الحضارية التي تبنتها دولة محمد علي باشا بعد تملكه من مقاليد الأمور والقضاء على خصومه السياسيين، واستئثاره بصنع القرار منفردًا في دولته الوليدة. فقد استطاع الباشا القضاء على المماليك في مذبحته الشهيرة، ثم قام بالقضاء على خصومه في الأزهر، ثم قام بإزاحة القيادة المجتمعية والتي تولت سابقًا طرد الفرنسيين وتنصيبه هو ذاته على كرسي العرش. ولم تستغرق هذه العملية وقتًا طويلًا، بل تمت بوتيرة سريعة وأفضت إلى إحكام قبضته على مفاصل الدولة.
      تَبَنَّى محمد علي باشا عدة إصلاحات على عدة مستويات كان أبرزها تحديث الجيش وتمصيره ليعتمد على عناصر الشعب المصري بدلًا من المماليك والشركس والترك وغيرهم من المرتزقة والذين كان يتم جلبهم من أصقاع الأرض، ويتم تأهيلهم ليصبحوا حكامًا فيما بعد يتداولون السلطة فيما بينهم. وكانت هذه الخطوة التي اعتمدها محمد علي أكثر الخطوات تأثيرًا وعمقًا حتى اليوم. فلأول مرة يتولى المصريين سلطة فعلية في الجيش المصري ليصبح جيشًا وطنيًا خالصًا من أبناء البلاد. ومن ناحية أخرى قام محمد علي بتأسيس نظام تعليمي موازٍ للأزهر، والذي مُنِيَ بالتخلف والجمود لعدة قرون على أيدي العثمانيين. فبدلًا من محاولات إصلاح الأزهر وإعادته لموضعه كمنبرٍ للتعليم والثقافة والفكر وقيادة المجتمع، رأي محمد علي أنه لا فائدة تُرجَى منه لاستعماله في تحقيق رؤيته لإنشاء الدولة الجديدة. وهنا تتجلى عدة إشكاليات برزت من رحم هذه التجربة. 
      فمفهوم الحداثة الذي كان يَتَبنَّاه محمد علي هو النموذج الغربي في تحديث الجيش وفي التعليم وفي الثقافة وفي الفكر. وكان من أهم مبادئه فصل الدور الذي تلعبه المؤسسات الدينية في الفضاء السياسي تحديدًا وتجفيف قدراتها المالية حتى تتفرد الدولة وحدها بهذا الدور، تمامًا كالنموذج الأوروبي للعلمانية. وعلى إثر هذا قام محمد علي بمصادرة الأوقاف المملوكة للأزهر والكنيسة تباعًا وضمهما لحيازة الدولة. واستمرت هذه العملية حتى القرن العشرين بِتَبَنِّي نسل الباشا لذات السياسات. وفي ذات السياق قام بتأسيس نظامٍ للتعليم على نسق النظام الغربي الحديث الذي يعتمد المناهج التجريبية والتي تطورت على أيدي الأوروبيين بدلًا من مناهج الأزهر والتي أخرجت المؤسسة العريقة من المنافسة الفكرية، وقلَّصَت تأثيره في مصر وفي المنطقة وفي العالم الإسلامي. أما المبدأ الثالث فهو بناء جيش جديد على أنقاض جيش المماليك وتغييِّر عقيدته ليصبح معتمدًا على العنصر المصري وحده كما سبقت الإشارة. وهذا الثالوث هو ركيزة بناء الدولة الوطنية في مصر كشبيهاتها في أوروبا؛ في فرنسا وبريطانيا وغيرهما. وبهذا تكون الدولة المصرية قد خطَّت نهجًا جديدًا في المنطقة بعيدًا عن الفلك العثماني القديم والذي أدَّى لتخلف المنطقة لعدة قرون. 
      وفي خضم كل هذا لم ينسَ الباشا أن يُضفِي شرعية دينية على دولته الجديدة بسيطرته على منطقة الحجاز لتصبح تحت الهيمنة المصرية ولتستمر طقوس ذلك في كسوة الكعبة وقوافل الحجاج من مصر ومن دول أفريقيا تمامًا كما هو المتبع، ولكن بطابع مصري يختلف عن العهد العثماني السابق. ليس ذلك فحسب، بل استعمل الباشا الكنيسة الأرثوذكسية المصرية في تعميق نفوذه في دول الجنوب حتى منابع النيل ليعمق الهيمنة المصرية في محيطها الإقليمي الطبيعي، هذا فضلًا عن مناوئته للهيمنة العثمانية في بلاد الشام حتى وصل الأمر لحدود أنقرة والتي لم تكن سوى قرية صغيرة في تلك الحقبة. 
      يبدو هذا للوهلة الأولى نموذجًا ناجحًا وفعالًا في محاولات الخروج من التخلف العثماني في مصر وفي المنطقة. وبالطبع خلَّف كل هذا قلقًا وربما ذعرًا لدى الباب العالي في إسطنبول، ولدى أكبر قوتين في أوروبا فرنسا وبريطانيا وهما أكبر قوتين عالميتين في هذه الحقبة التاريخية. فعلى جانب العثمانيين، أدركت السلطنة أن شهادة وفاة لتأثيرها على المنطقة قد خَطَهَا محمد علي في القاهرة، وأن هذه الدولة الجديدة الحديثة قادرة على ابتلاع تَرِكَتِهَا لتكون تحت نفوذها. أمّا على الجانب الأوروبي فقد كان موقف كلا القوتين موقف الدهاء والتربص واستغلال الفرص بين قوتي الشرق في إسطنبول والقاهرة، كي لا يتمكن أيٍّ منهما من الفوز والانتصار على الآخر بُغيَة إضعاف كليهما وانفراد فرنسا وبريطانيا بتقسيم التركة دول أن يكون لمصر أو السلطنة العثمانية أي نصيب منها، وهو ما حدث بالفعل. 
      فمع الذعر العثماني من دحر قوات مصر للجيش العثماني في فلسطين وسوريا وتوغلها في خاصرة السلطنة، هرول السلطان العثماني نحو بريطانيا لتثبيت دعائم ملكه وجلب الدعم لهزيمة محمد علي، وهو ما تحينته بريطانيا للدخول في قلب وعقل السلطنة الآيلة للسقوط بكل قوة من ناحية، ولوأد أي محاولات لتأسيس دولة جديدة على أنقاض السلطنة من ناحية أخرى. ومن هذه اللحظة تدخلت بريطانيا ومن خلفها فرنسا في منطقة الصراع في بلاد الشام لملأ الفراغ بدلًا من دولة محمد علي، لصناعة فضاءٍ وعازل جيوسياسي بين السلطنة  في بلاد الأناضول وبين مصر. وبهذا تكون أوروبا قضت على مطامع محمد علي في تركة العثمانيين، وفي عزل السلطنة ذاتها عن نفوذها حتى مصر، حتى لا تتكرر محاولات مصر، وحتى لا تستطيع الدولة العثمانية ذاتها أن تستعيد نفوذها على تركتها. 
      تزامن ذلك أيضًا مع انطلاق الإصلاحات في الدولة العثمانية تمامًا كما فعل محمد علي في مصر على النموذج الأوروبي، لِيُخَلِّفَ ذلك كله فصلًا لكلا الدولتين عن ماضييهما في الريادة العسكرية والثقافية والعلمية والاجتماعية، وليصبح كليهما في دائرة النفوذ الأوروبي الثقافي والتعليمي والعسكري، ولتستأثر أوروبا وحدها بقيادة المجتمع ودوائر صنع القرار في المنطقة وفي تشكيل دوائر الاقتصاد والتأثير المالي بالوجود العسكري الفعلي فيكل مقاطعات الدولة العثمانية وولاياتها، والتي افتقدت عناصر المقاومة الحضارية والفكرية والعسكرية على أيدي العثمانيين.