الحرب في "تيجراي": أسباب ومآلات.. ونقطة أفاضت الكأس!

  الحرب التي اندلعت في إقليم تيجراي الإثيوبي في الثالث من نوفمبر/ تشرين الثاني الحالي، بين الحكومة المركزية وحكومة الإقليم، وإن بدت مفاجئة، ومرتبطة بالوضع السياسي القائم، والصراع على السلطة، فإن أسبابها الرئيسة لها جذور تاريخية قديمة، تبدأ من نماذج الحكم التي سادت إثيوبيا الحديثة منذ تأسيسها على يد الملك منيلك الثاني (1889- 1913) إذ أرسى نظامًا يرتكز على سيطرة ثقافة بعينها، على نحو أحادي (مركزية الثقافة الأمهراوية) في وطن متعدد الأعراق والثقافات والديانات، وهي الثقافة التي تغولت على الثقافات واللغات والقوميات الاخرى، على اعتبارها ثقافة مركزية حاكمة، وهو ما سار عليه خلفاؤه في الحكم حتى عهد الإمبراطور هيلي سلاسي، وحتى النظام الشيوعي الذي انقلب على الملكية بقيادة منجستو، لم يكن استثناء في مسألة تمكين تلك الثقافة. هذا الأمر دفع القوميات الأخرى لتشكيل حركات تحرر قومي، تهدف في حدها الأدنى إلى الخروج من الديكتاتورية الاقصائية وسيطرة الثقافة الواحدة، وفي حدها الأقصى إلى الانفصال بأقاليمها من الدولة الإثيوبية، من بينها "جبهة تحرير تيجراي" (أقصى الشمال) التي قادت كفاحًا مسلحًا (1975) وتمكنت من إطاحة نظام منجستوا بمساعدة الثوار الإرتريين، (مايو/ أيار 1991). [caption id="" align="aligncenter" width="1000"] طوارئ في تيجراي[/caption]

اتحاد بشروط الانفصال!

على الرغم من تراجع هذه الحركة عن مطلب الانفصال، بمجرد ضمان قدرتها على حكم إثيوبيا ككل، فإنها تحسبت مبكرًا لإمكانية فقدانها للسلطة، فأسست لنظام اتحاد فيدرالي على أسس قومية (إثنية)، وضمّنت في الدستور الفيدرالي، مادة جدلية، (المادة 39) التي تنص على حق الأقاليم في الانفصال عن الدولة الإثيوبية، وإعلان استقلالها وفق شروط معينة، تتعلق برغبة غالبية سكانها بالانفصال. ورغم التاريخ النضالي الطويل لحركة التيجراي، في ما يتعلق بحقوق القوميات، فإن تجربتها في الحكم، لم تكن بمستوى تطلعات القوميات الأخرى، في بسط العدل والمساواة في توزيع السلطة والثروة بين مكونات المجتمع الإثيوبي، حيث انفردت بمفاصل السلطة الأساسية، وخصصت المناصب السيادية لمحسوبيها من التيجراوين، خاصة في الجيش وأجهزة الأمن والمخابرات، فضلًا عن وزارة الخارجية وقطاعات المال والاقتصاد، في حين ظلت تسند الوزارات الأقل تأثيرًا إلى منتسبي الأحزاب الممثلة للقوميات الأخرى، والمشاركة في الائتلاف الحاكم تحت مسمى "الأهودق"، وهو الائتلاف الذي حكم البلاد 27 عامًا (1991- 2018) بسيطرة حزب التيجراي TPLF)) وبعمليات تزوير واسعة لمختلف الاستحقاقات الانتخابية، ونفي وإقصاء المعارضين. [caption id="" align="aligncenter" width="585"] آبي أحمد بالزي العسكري[/caption]

ثورة ناعمة تنهي حكم "المقاتلين"

على الرغم من السيطرة الواسعة لأبناء تيجراي على مفاصل ومقدرات الدولة، فإن القوى المعارضة للنظام ظلت تعمل على أكثر من صعيد، فهناك حركات دُفعت للعمل المسلح انطلاقًا من دول مجاورة، في حين اختارت أحزاب وقوى أخرى للعمل من الداخل، تحت ظروف غاية في الخطورة والدقة. وقد كان للأخيرة دور كبير في تحويل الاحتجاجات الشعبية، التي بدأت في إقليم الأورومو (2015)، على خلفية تخصيص الأراضي، إلى ثورة حقيقية سرعان ما ارتفع سقف مطالبها إلى إسقاط النظام، كما اتسع نطاقها الجغرافي وزخمها السياسي، داخل البلاد وخارجها، حيث تفاعلت الجاليات الإثيوبية، خاصة في الولايات المتحدة الأمريكية، وأوروبا مع مطالب الداخل، وقادت حراكًا سلميًّا لفت أنظار الدول العظمى والمنظمات الحقوقية، ما دفع المجموعة الحاكمة لتقديم تنازلات مؤلمة تحت ضغط الشارع، وضغوط الشركاء الدوليين، وهو الأمر الذي دفع الجبهة الشعبية لتحرير التيجراي للانسحاب من السلطة، لصالح "حزب الأورومو الديمقراطي" الذي كان جزءًا من الائتلاف الفضفاض الحاكم، بتفاهمات تضمن استمرار الائتلاف مع تغيير مراكز القوة والنفوذ لصالح الأورومو عوض حزب التيجراي. [caption id="" align="aligncenter" width="1000"] الجيش الإثيوبي[/caption]

عين على السلطة وأخرى على التغيير!

ضمنت التفاهمات الداخلية للائتلاف بتمكين الضابط السابق في المخابرات، ووزير التكنولوجيا اللاحق، المنتمي إلى قومية الأورومو، من تولي منصب رئيس الوزراء. وقد مثل صعود شخصية أورومية للمنصب الأول بالبلاد، بعد عقود من النضال (لأكبر المجموعات الإثنية) فرصة تاريخية، لإحداث تغييرات عميقة في نموذج الحكم، مستندًا إلى الترحيب الكبير الذي وجده آبي أحمد من الداخل المتطلع إلى الحرية والتغيير، والخارج المنبهر بالانتقال السلس للسلطة، والسعي الحثيث نحو إعادة تقييم علاقات إثيوبيا مع إريتريا، وعقد اتفاق سلام مع نظامها السياسي، بعد عشرين عامًا من حالة اللا حرب واللا سلم، فضلاً عن المساهمة في إنجاز اتفاقية السلام بين الفرقاء السودانيين، وخطابات التهدئة مع مصر بخصوص سد النهضة، كل ذلك ساهم في تشكيل صورة الزعيم الساعي للسلام، للدرجة التي توج معها بـ"جائزة نوبل للسلام"، الأمر الذي ضاعف من أطماعه السلطوية، مستفيدًا من الدعم الداخلي والترحيب الدولي، فقد عمل على تحويل الائتلاف الحاكم إلى حزب واحد (حزب الازدهار) بقيادته، ما ساهم في تسعير الخلاف بين الحرس القديم، والحزب الجديد الذي ظل يتهم بإعادة إنتاج النظام المركزي، ودفع بحزب التيجراي للانسحاب من الائتلاف والتقوقع في حاضنته الثقافية والجغرافية بالإقليم الشمالي، والتحول نحو خندق معارضة النظام. [caption id="" align="aligncenter" width="1000"] الانتخابات في تيجراي[/caption]

الانتخابات: النقطة التي أفاضت الكأس

بحلول سبتمبر/ أيلول الماضي، كان من المفترض أن تجرى انتخابات عامة مقررة مسبقًا، إلا أن اللجنة العليا للانتخابات وبالتشاور مع البرلمان قررت تأجيل الموعد والتمديد للإدارة الحاكمة لفترة محدودة، بذريعة وباء كورونا، وهو القرار الذي رفضته حكومة إقليم التيجراي واعتبرته تمديدًا غير دستوري، وقررت إجراء الانتخابات على نحو أحادي في الإقليم، في حين رفض البرلمان والحكومة المركزية ولجنة الانتخابات قرارها، معتبرة الانتخابات غير شرعية، وتجري خارج إطار الدستور الإثيوبي الذي ينص على عدد من الإجراءات من بينها: ١- صلاحية تحديد موعد وتدابير الانتخابات تخص البرلمان. ٢- تشرف اللجنة العليا للانتخابات على الاستحقاق الانتخابي. ٣- توفر الحكومة المركزية كل المتطلبات اللوجيستية والبشرية للعملية الانتخابية. ٤- يراقب الانتخابات ملاحظون محليون ودوليون وتجري في وقت متزامن في كل الأقاليم. ولم يتوافر أيٌّ من هذه الشروط الدستورية في الانتخابات التي جرت في إقليم التيجراي في سبتمبر/ أيلول الماضي، ما أفقدها اعتراف البرلمان والحكومة المركزية، في حين تمسكت قيادة التيجراي بشرعية الانتخابات، معتبرة أن إدارة آبي أحمد هي التي فقدت شرعيتها بانتهاء ولايتها في سبتمبر/ أيلول الماضي. إجراءات المركز وتدابير الهامش في خضم احتدام الصراع بين الحكومة المركزية، والحكومة المنتخبة حديثًا في إقليم تيجراي، اتخذت إدارة آبي أحمد عدة إجراءات عقابية، تمثلت في تجميد الميزانية السنوية للأقليم، كما أجرت تعيينات جديدة لقادة وحدات الجيش النظامي في إقليم التيجراي فضلاً عن إجراءات محدودة في إعادة انتشاره في الإقليم. هذا الأمر رفضته حكومة الإقليم واعتبرته إعلان حرب، واتخذت عدة تدابير احترازية من بينها تعليق جميع اتصالاتها مع المركز، بما فيها التنسيق الأمني والاستخباراتي، كما رفضت استقبال قادة الجيش الجدد، قبل أن تُقدم في الثالث من نوفمبر/ تشرين الثاني الحالي على عمليات عسكرية استهدفت معسكرات الجيش النظامي في الإقليم، بغرض تحييده والسيطرة على معداته تحسبًا لأي مواجهة عسكرية بينها وبين الحكومة المركزية، بحسب ما تشير الرواية الرسمية. [caption id="" align="aligncenter" width="693"] عناصر أمن في تيجراي[/caption]

الأهداف والسيناريوهات المحتملة

يقع إقليم التيجراي في أقصى الشمال الإثيوبي، يحده من الشمال دولة إريتريا (المتحالفة مع إدارة آبي أحمد) ومن الغرب السودان، ويحده من الشرق إقليم العفر، ومن الجنوب إقليم الأمهرا (الأعداء التاريخيون في تجاذبات السلطة والثقافة مع التيجراي) ويبلغ عدد سكان هذا الإقليم نحو 6 ملايين نسمة، أي ما يوازي 6% من عدد السكان في إثيوبيا. وكل هذه المحددات الجغرافية، والظروف السياسية السائدة، قد لا ترجح كفة التيجراي في المواجهة العسكرية مع المركز، إلا أن الخبرة الطويلة لجبهة التيجراي في حرب العصابات مع الأنظمة الإثيوبية السابقة، فضلاً عن الالتفاف الشعبي الذي تحظى به الجبهة، باعتبارها المعبر عن "نضال التغيراويين" تاريخيًّا، قد يصعِّب من مهمة الجيش النظامي، في كسب المعركة بيسر. ثمة سيناريوهات عدة لمسار الصراع القائم، فقيادة التيجراي –وفق السيناريو الأول- تسعى لحرب محدودة، تعيد من خلالها طرح الأزمة السياسية بشكل جديد، خاصة بعد انسداد الأفق بينها وبين الحكومة المركزية، بالإضافة إلى أزمتها المالية، وبالتالي فإن الحرب المحدودة قد تضمن لها التفافًا داخليًّا، واهتمامًا دوليًّا، للعودة للحوار السياسي من موقع قوة. السيناريو الثاني في حال اتساع رقعة الحرب وفشل الوصول لتفاهمات برعاية دولية أو إقليمية، فإنها قد تسعى لتفعيل المادة 39 من الدستور، لتحقيق هدف الانفصال! إلا أن هذا السيناريو مرهون بقدرتها على إدارة الحرب وتوسيع نطاقها، بما في ذلك نقلها إلى الأراضي الإريتريّة، حيث إن الانفصال يتطلب -في حده الأدنى- وجود حليف إستراتيجي في أسمرا، يضمن توفير منفذ بحري للدولة الحديثة. أما الحكومة المركزية فأمامها أهداف وسيناريوهات مغايرة، أولها: محاربة جبهة التيجراي وعزلها من السلطة في الإقليم ومحاكمة قادتها، بجانب تنصيب قيادة جديدة حليفة للمركز، كما حدث في إقليم الصومال الإثيوبي وبذلك تضمن بسط سلطة الدولة على الإقليم. أما السيناريو الثالث (يتبناه آبي أحمد) فيسعى لإضعاف الحزب الحاكم في الإقليم وتقليم أظفاره، من خلال عمليات نزع السلاح، وإنهاء أسطورته النضالية، قبل الدخول في أي مفاوضات مباشرة لحل الأزمة، كما تعمل إدارة آبي أحمد على دعم الأحزاب الأخرى (المعارضة) في تيجراي، وإشراكها في الانتخابات القادمة، بما يضمن فوزها على القيادة الحالية المتمردة على المركز.