اقتصاد الحرب: العائق الحقيقي أمام الحل السياسي في ليبيا

  غلبت على مصطلح اقتصاد الحرب الإشارة إلى الكيفية التـي تعيد بها الدول وحكوماتها المركزية هيكلة البنية الاقتصادية كي تتوافق مع احتياجات "الحرب" أو "المجهود الحربي" باعتبارها الأولوية التـي تخوضها تلك الدول. ارتبطت اقتصاديات الحرب أساسًا بإعادة هيكلة الاقتصاد الأمريكي في أثناء الحرب العالمية الثانية، وأيضًا في الفترة اللاحقة على هجمات 11 سبتمبر/ أيلول، والحرب الأمريكية على الإرهاب، والتـي شهدت خوض حربين متتاليتين على العراق وأفغانستان، وعربيًّا، نجده شائعًا في الأدبيات التـي تناولت وضعية الاقتصاد المصري في الفترة ما بين نكسة يونيو/ حزيران وانتصار أكتوبر/ تشرين الأول. أما حاليًّا، وفي سياق الصراعات التـي تشهدها بلدان العالم العربي في سوريا والعراق واليمن وليبيا، أصبحت لاقتصاد الحرب إشارة مختلفة تناقض الحالة التـي تسيطر فيها الحكومة المركزية على الأنشطة الاقتصادية. بدرجات متفاوتة، أصبح اقتصاد الحرب مرتبطًا بحالة تفشـي العنف وعجز، وربما انهيار السلطة المركزية، عن إدارة الاقتصاد، مع تدهور المؤسسات، وتفشـي العنف، وتفكك السوق الوطنية على يد الميليشيات والجماعات المسلحة التـي تجد في الصراع الأهلي آلية لدرّ المكاسب والنهب. في سوريا والعراق واليمن وليبيا، أصبح الاقتصاد الرسمي مهددًا بأنماط مختلفة من النهب القائم على شرعية السلاح من قبل أطراف الصراعات المسلحة المختلفة. [caption id="" align="aligncenter" width="1000"] الحرب في ليبيا[/caption]

اقتصاد الحرب وتفكك السوق الوطنية في ليبيا

تعبّر ليبيا، منذ الإطاحة بنظام القذافي حتى يومنا هذا، عن حالة مثالية من تفشي اقتصاد الحرب في المنطقة. فإذا ما نحّينا جانبًا الصورة السائدة عن الصراع بعلى اعتباره تنافسًا على السلطة بين حكومة الوفاق، المعترف بها أمميًّا، وحكومة مجلس النواب، ومن ورائها الجيش الوطني الليبي، نجد أن الصراع على الأرض هو في الحقيقة بين ميليشيات، وجماعات مسلحة، وأفراد وعصابات، تسعى للسيطرة على منافذ تهريب النفط والبشر والأسلحة والسلع الممتدة على امتداد مساحة ليبيا الشاسعة والتي تتراوح بين الساحل الإفريقي وجنوب أوروبا، كما تسعى للتحكم في المنافذ الحدودية والتجارية للبلد، وابتزاز بقايا مؤسسات الدولة من خلال المتاجرة بـ"الأمن" باعتباره سلعة ضرورية في ظل غياب أجهزة الأمن وسلطات الضبط الشرعية. يُعد تفكك السوق الرسمية، التي تديرها وتنظمها الحكومة المركزية والسلطات المحلية، أهم مظاهر اقتصاد الحرب، لذا، دائمًا ما تقترن هذه الظاهرة بشيوع الاقتصاد غير الرسمي، إلا أن المختلف في الحالة الليبية هو أن الاقتصاد غير الرسمي أصبح، بفعل تفشي العنف والسلاح، قائمًا بالأساس على أنشطة إجرامية. ويختلف نمط هذه الأنشطة من منطقة لأخرى، على حسب طبيعة النشاط الاقتصادي السائد في كل منطقة قبل اندلاع العنف، وإمكانية وجود أجهزة ضبط من عدمه. على سبيل المثال، أدى غياب سيطرة قوى الأمن في الغرب (طرابلس) والجنوب (فزان التاريخية) إلى وجود قطاع تهريب قوي يقوم بالأساس على تهريب البشر والسلاح. أما في الشرق، فقد انحصرت الظاهرة، التي ارتكزت من قبل على تهريب السلع والبترول من مناطق الهلال النفطي، بعد فرض الجيش الوطنـي الليبي سيطرة معتبرة على معابر وخطوط النقل في المنطقة، ومع ذلك ما زالت تلك الأنشطة مستمرة مع طول خطوط التهريب وتجذّر هذه الممارسات اجتماعيًّا واقتصاديًّا. [caption id="" align="aligncenter" width="1000"] الفرقاء الليبيون في القاهرة - أرشيفية[/caption]

صعود ميليشيا/ كارتل طرابلس

في طرابلس، اقترن اقتصاد الحرب بتحول الميليشيات المسلحة إلى "كارتلات". تسيطر على العاصمة الليبية عدة ميليشيات مسلحة تقتسم الوظيفة الأمنية على مختلف منافذ المدينة ومؤسساتها. إلا أن أكبر هذه الميليشيات هي لواء ثوار ليبيا بقيادة هيثم التاجوري ولواء النواصـي، ذائع الصيت، بقيادة عائلة قدور، وقوات الردع الخاصة بقيادة عبد الرؤوف كارة، ووحدة أبو سليم العسكرية بقيادة عبد الغنـي الكلكي المعروف بإغنيوة، يتمثل معظم هذه الميليشيات في مدينة مصراته، فضلاً عن وجود تنظيمات مسلحة للمدن الأخرى المحيطة بطرابلس، وعلى رأسها حاليًّا ميليشيات الزاوية التي ينتمي إليها وزير الدفاع صلاح النمروش في حكومة الوفاق وميليشيات الزنتان التي ينتمي إليها آمر المنطقة العسكرية الغربية أسامة جويلي. [caption id="" align="aligncenter" width="1000"] ميليشيا/ كارتل طرابلس[/caption] منذ مقدم حكومة الوفاق عبر الحدود التونسية إلى طرابلس في مارس/ آذار 2016، ارتكزت صيغة التعاون بين هذه الحكومة وبين تلك الميليشيات، على إطلاق اليد في الأنشطة الاقتصادية في مقابل توفير الأمن للحكومة والمجلس الرئاسـي. وذلك من خلال سيطرة هذه الميليشيات على أجهزة الأمن، وعلى رأسها وزارة الداخلية التي يسيطر عليها مسلحو مصراتة، وقوات الأمن المركزي المسيطر عليها ميليشيات إغنيوة والتاجوري، فضلاً عن المنافذ الجوية في مطاري معيتيقة وطرابلس، قبل توقف الحركة عن الأخير، من قبل قوات الردع الخاصة، إلا أن الرواتب المخصصة لهذه الميليشيات لم تكن كافية، نظرًا إلى استمرار الأزمة الاقتصادية وانخفاض المخصصات الحكومية نتيجة تراجع أسعار البترول وضآلة الإنتاج بسبب الحرب. دفع هذا الميليشيات للبحث عن مصادر أخرى للدخول، كان من بينها، إلى جانب التغاضي أو حتى المشاركة في عمليات التهريب، استغلال الأزمة الاقتصادية. مع تفاقم الأزمة المالية في البلاد، الناتجة عن تراجع المتوفر من النقد الأجنبـي وانهيار الثقة في الدينار الليبي، أخدت هذه الميليشيات، في الحصول على العملات الأجنبية اللازمة لاستيراد السلع الضرورية بأسعار رسمية، مقابل حماية أفرع البنوك، وذلك لإعادة ضخها في السوق السوداء بأسعار مرتفعة، وذلك من خلال استصدار بطاقات ائتمانية أو خطابات ائتمان. أدت هذه الفوضى إلى مزيد من تآكل الثقة في النظام المالي الرسمـي، وتفشي عمليات التزوير، ونهب الودائع، فضلاً عن التضخم وارتفاع أسعار السلع التـي أصبحت تحت رحمة الميليشيات.

أرباح تهريب البشر

يمثل تهريب البشر من خلال الهجرة غير الشرعية أحد أهم مظاهر اقتصاد الحرب في غرب ليبيا، والذي أصبح المصدر الرئيس لتهريب المهاجرين واللاجئين غير الشرعيين، القادمين من الساحل الإفريقي وغرب إفريقيا إلى جنوب أوروبا. وفقًا لمنظمة الهجرة الدولية، فقد شهدت هذه المنطقة في الفترة ما بين 2013 و2016، تهريب نحو 700 ألف إلى مليون مهاجر، أقل من نصفهم وصل إلى حدود أوروبا، في حين استقر 57% في ليبيا، حيث تعرض الكثير منهم للاستغلال والاحتجاز في مراكز الاعتقال التـي تديرها الميليشيات. [caption id="" align="aligncenter" width="1000"] ميليشيات مسلحة في ليبيا[/caption] تقدر عوائد هذه التجارة بنحو 3.4% من الناتج القومي الإجمالي في ليبيا في 2015. وهي العوائد الناتجة عن إدارة خطوط وعمليات النقل، إلا أن الميليشيات والشبكات الإجرامية لم تربح من هذه الناحية فقط، بل أيضًا من المساعدات والحوافز المادية التـي قدمتها الدول الأوروبية للزعماء القبليين وبعض الميليشيات للتحكم في هذه التجارة، كان هذا في شكل مساعدات رسمية تلقتها حكومة الوفاق لإدارة مراكز اعتقال المهاجرين. وتقدم حالة عبد الرحمن ميلاد، القائد الميليشياوي من الزاوية، نموذجًا مثاليًّا لهذا النمط من التداخل، فقد عمل ميلاد المعروف بالبيدجا، والمولود في 1990، ضمن ميليشيات شهداء النصر، وولته حكومة الوفاق إدارة وحدة خفر السواحل، وأنيطت به مهمة "مكافحة عمليات التهريب"، إلا أن مهامه لم تكن إلا منافسة على التهريب مع مهربين آخرين، ما أدى إلى وضعه اسمه ضمن قائمة العقوبات الأممية، بسبب تورطه في عمليات تعذيب واحتجاز غير شرعي واستغلال جنسي للمهاجرين، فضلاً عن تهريب النفط بالتواطؤ مع آمر ميليشيات الزاوية محمد العربي كشلاف، وذلك قبل أن يلقى القبض عليه بسبب الضغط الأممي في أكتوبر/ تشرين الأول الماضـي.

إعاقة التسوية واستدامة الحرب

لا يعدم الباحث الأدلة على أن هذه المظاهر وغيرها من اقتصاد الحرب لها جذور عميقة في آليات السلطة التي قامت عليها دولة القذافي قبل 2011، إذ رعت الدولة عمليات التهريب بأشكالها المختلفة، وأشرفت سلطاتها المحلية على توزيع عوائدها وفقًا لاعتبارات عديدة، إلا أن هذه الرعاية اقترنت بوجود سلطة مركزية وسوق وطنية موحدة وقبضة حديدية على عوائد النفط، فضلاً عن وجود جهاز أمني قادر على الضبط والتدخل عند الضرورة. أما الآن، فقد استحال هذا النمط من الاقتصاد إلى فوضى عميقة تعوق أي محاولة جادة لحل الصراع وإعادة توحيد الدولة وبناء المؤسسات. [caption id="" align="aligncenter" width="1000"] منشآت نفطية في ليبيا[/caption] ترى هذه الميليشيات أن أي محاولة جادة لإعادة تأسيس السلطة المركزية ستعني انتهاء الأرباح السهلة التـي تجنيها، وبالضرورة نهاية وجودها غير الشرعي، لذا، فهذه الميليشيات والشبكات الزبونية المرتبطة بها غير مهتمة بالوصول إلى تسوية حقيقية تمهد الطريق لإعادة توحيد البلاد وإعادة بناء المؤسسات الوطنية على أساس فرض القانون، بل على الأرجح ستسعى هذه القوى للحؤول دون تنزيل أي اتفاق سياسي على الأرض، أو ضمان الحصول على حكومة ضعيفة يسهل السيطرة عليها، والإبقاء على بنية اقتصاد الحرب من خلالها. من ناحية أخرى، خلق اقتصاد الحرب حلقة مفرغة من العلاقة بين غياب الدولة واستمرار الحرب، فعجز المؤسسات الرسمية عن توفير الخدمات والموارد فضلاً عن الأمن، دفع الأفراد إلى الانضواء تحت الميليشيات أو شرعنة وجودها باعتبارها بديل السلطات المحلية أو الوطنية، وبالتالي تقبل ممارسة العنف وما يرتبط من نظام الحوافز الاقتصادية الناتجة عن التهريب والابتزاز. عزز من الوضع ههذا التداخل الشديد بين بقايا المؤسسات والميليشيات سواء في العاصمة والمدن. [caption id="" align="aligncenter" width="1000"] حلم الوصول إلى ليبيا مستقرة وموحدة[/caption] يمثل هذا عائقًا أمام محاولات إعادة بناء الدولة، فالأمر سيتطلب التعامل مع المكون الاجتماعي والثقافي لاقتصاد الحرب الذي عززته هذه الحلقة المفرغة، لذا، يتطلب التعامل مع هذا الملف بناء إستراتيجية مركبة تتجاوز مجرد التوصل إلى "حل سياسي"، أو المطالبة بحل الميليشيات، فالأمر يتعلق بتفكيك بنية الاقتصاد السياسـي للصراع، والشبكات التي خلقها على امتداد تلك المساحة الشاسعة وما وراءها.