بمجلس عسكري موحد.. هل ترتدي هيئة تحرير الشام ثوب الاعتدال؟

  اشتباكات وانشقاقات.. صدامات وموائمات.. منعطفات عدة مرت بها هيئة تحرير الشام في مسيرتها بسوريا، تمكنت خلالها من بسط نفوذها في إدلب، وبدأت خطوات جدية للحفاظ على مكتسباتها بمرحلة ما بعد الحرب. في خطواتها، راوحت الهيئة ما بين السياسة الناعمة والقوة الصلدة، وروّجت لنفسها كفصيل معتدل ولاعب أساسي بسوريا، لكن الخطوة الأبرز في مسارها، تمثلت في محاولاتها لتشكيل مجلس عسكري موحد بإدلب، ترتدي من خلاله ثوب الاعتدال، وتنزع وصمة الإرهاب عنها، وتقطع الطريق على محاولات استهدافها عسكريًّا وسياسيًّا، فهل ستتمكن الهيئة من تحقيق أهدافها؟ [caption id="" align="aligncenter" width="1000"] هيئة تحرير الشام[/caption]

هيئة تحرير الشام

كانت البداية أواخر عام 2011، حيث تأسست الهيئة تحت ااسم "جبهة النصرة"، مُبايعة لتنظيم القاعدة، حتى يوليو/ تموز 2016، حين انشقت عنه تحت اسم "جبهة فتح الشام"، بعدما رأت أن علاقاتها مع التنظيم لن تعود عليها بالمكاسب، بل ستكون سببًا لاستهدافها عسكريًّا. 6 أشهر فقط، تحولت خلالها "فتح الشام" إلى "هيئة تحرير الشام"، لتعلن عن نفسها في يناير 2017، وينضوي تحت لوائها بجانب جبهة فتح الشام كل من حركة نور الدين زنكي (إحدى أبرز فصائل المعارضة في حلب)، وجبهة أنصار الدين، وجيش السنة، وكذلك لواء الحق. خلال مسيرتها، فرضت الهيئة سيطرتها على إدلب وريفها إلى جانب ريف حلب الغربي، وللحفاظ على مكتسباتها، سعت لتجاوز عقدة وضعها على قوائم الإرهاب في مجلس الأمن، وتقديم نفسها كلاعب أساسي وطرف معتدل ناضل ضد نظام الرئيس بشار الأسد. رأت أنه باعتدالها، مقارنةً بالتنظيمات الجهادية المعادية للغرب، يمكن للمجتمع الدولي أن يتلاقى معها بمنتصف الطريق فتحصل على اعترافه ويتوقف عن استهدافها. اعتمدت الهيئة في الترويج لنفسها كقوة معتدلة، على مسارين أساسيين، الأول سياسي ناعم يقوم على التودد للغرب، واستيعاب الفصائل المسلحة وخاصة المعتدلة، والثاني عسكري صلد يقوم على استخدام القوة العسكرية ضد الفصائل المتشددة التي لم تتماه مع رؤيتها. [caption id="" align="aligncenter" width="1000"] محمد الجولاني.. زعيم هيئة تحرير الشام[/caption]

ما بين السياسة الناعمة والمواجهة الصلدة: كيف روجت الهيئة لاعتدالها؟

في مسارها السياسي (الناعم)، اتخذت الهيئة مجموعة من الخطوات التي حاولت بها تحسين صورتها دوليًّا، جاء في مقدمتها: (1) الاستيعاب والتحول في الخطاب الديني: عبر تجنب الصدام واستيعاب العقائد المختلفة في مناطق سيطرتها، وظهر ذلك في عدم معارضتها للنهج القائم على العقيدة الأشعرية التي يتبعها الكثير من السوريين، واستيعاب جميع المدارس الدينية في مناطقها. (2) الترويج الإعلامي: سعت من خلاله الهيئة للترويج لنفسها كممثل للسوريين، وتمثل في ظهور مكثف لزعيمها محمد الجولاني إعلاميًّا، والمشاركة في فعاليات شعبية والظهور إلى جانب المدنيين والمرضى ووجهاء العشائر، مع الحرص على الابتعاد عن المظاهر العسكرية، عبر ارتداء الجولاني للملابس المدنية بدلاً من البدلة العسكرية. (3) التقرب من الغرب: بدأها الجولاني منذ أواخر عام 2019 حين أعلن تخلي الهيئة عن الطموحات الجهادية العالمية، وبقاءها كهيئة محلية بأهداف سورية بحتة، بهدف تقديم أوراق اعتماد للعالم الخارجي للاعتراف بالهيئة كطرف سياسي مقبول. وتوازى هذا مع دعوات من بعض مسؤولي الهيئة لتطبيع العلاقات مع الدول الغربية. وتمثلت الخطوة الأهم في اعتقال الهيئة للجهادي الفرنسي عمر أومسين، المسؤول عن استقطاب وتجنيد نحو 80% من الفرنسيين للقتال بسوريا. وهدفت من هذا إلى التأكيد على الدور الذي يمكن أن تلعبه في مساعدة الغرب في مواجهة معضلة تدفق مواطنيهم إلى مواقع القتال، والتي تتخوَّف من تداعياتها دول غربية كثيرة. (4) المهادنة السياسية: تمثلت في مهادنة الهيئة وتماهيها إلى حد ما مع السياسة التركية بإدلب، وتفاهماتها مع روسيا بدايةً من اتفاق سوتشي عام 2018، ووصولاً إلى اتفاق وقف إطلاق النار في إدلب في 5 مارس/ آذار الماضي، وكذلك في تسهيلها مهمة الجيش التركي في نشر آلاف الجنود في أكثر من 50 قاعدة ونقطة انتشار في الشمال الغربي من سوريا. أدت هذه السياسات، خاصة تماهيها مع الاتفاقيات الروسية-التركية، إلى حدوث انشقاقات في صفوف الهيئة من قِبل قيادات مثل جمال زينية، المعروف بـ"أبو مالك التلي"، وتنظيمات جهادية أخرى لم يرق لها هذا النهج مثل تنظيم "حراس الإسلام"، و"أنصار الإسلام" و"حراس الدين"، وهي التنظيمات التي عمدت عام 2018، إلى تشكيل تكتل مناوئ للهيئة تحت اسم "وحرّض المؤمنين"، أعلنت خلالها رفضها لاتفاق سوتشي. وتطور التكتل فيما بعد إلى غرفة عمليات عسكرية باسم "فاثبتوا"، تكونت من الفصائل الثلاثة إلى جانب "لواء المقاتلين الأنصار"، و"تنسيقية الجهاد". في مواجهة التكتل، لجأت الهيئة للشق الصلد في سياستها، والذي تمثل استبعاد الأطراف المتشددة، وخاصة الرافضة للاتفاقات التركية الروسية، كما تجلى في اعتقالها للقيادي في تنظيم "جبهة أنصار الدين" سراج الدين مختاروف، المعروف بـ"أبو صلاح الأوزبكي"، والقيادي السابق بالهيئة "أبو مالك التلي". وكذلك التصعيد العسكري ضد الجماعات المتطرفة والجبهات المضادة، وخاصة تنظيم "حراس الدين"، وغرفة عمليات "فاثبتوا". وجاء هذا التصعيد عقب رفض التنظيم لاعتقال القيادات السابقة، واتخاذه بعض الخطوات العسكرية التصعيدية تجاه الهيئة التي لم تتوانَ في الرد عليها بتصعيد عسكري أكبر في 24 يونيو/ حزيران الماضي داهمت خلاله مقر التنظيم في بلدة عرب سعيد بغرب إدلب، وتمكنت من إخضاعه في 3 أيام فقط. وانتهى الأمر باتفاقية تضمنت إغلاق وتفكيك مقر "حراس الدين"، وإخلاء المقرات التابعة لـ"فاثبتوا" في مناطق إدلب. [caption id="" align="aligncenter" width="1000"] الجولاني والترويج الإعلامي[/caption]

المجلس العسكري: الخطوة الأهم، فماذا عن مستقبله؟

جاءت الخطوة الأهم في مسار الهيئة في محاولاتها تأسيس مجلس عسكري موحد في إدلب يكون خاضع لسيطرتها ضمنيًّا، بهدف توحيد الجهود العسكرية لمواجهة أي تصعيد محتمل من جانب النظام السوري وروسيا، والتخلص من أعباء وصف إدلب بالإرهاب عبر إبعاد الشخصيات المصنفة على قوائم الإرهاب الدولية، التي تتخذ منها موسكو ذريعة لشن هجماتها، إلى جانب فرض سيطرتها على الفصائل المسلحة بإدلب. يتكون المجلس من ألوية من جميع الفصائل، بينها 10 ألوية من تحرير الشام، و10 ألوية من فيلق الشام، و5 ألوية من حركة أحرار الشام، ولواء من جيش الأحرار، ولواء من صقور الشام. وتمثل تركيا القوة الداعمة له. تسعى أنقرة من خلاله لإرضاء موسكو والإيفاء بتعهداتها واتفاقاتها السابقة، خاصةً اتفاق وقف إطلاق النار في إدلب، والذي تضمن إلزام تركيا بحلّ هيئة تحرير الشام أو إذابتها بالكامل، وكذلك اتفاق سوتشي عام 2018, والذي نصّ على إبعاد الفصائل المتشددة ومن بينها الهيئة عن إدلب ومحيطها، الأمر الذي لم تُنفذه أنقرة حتى الآن، وتسبّب لها بخلافات عديدة مع موسكو، فعمدت إلى إدماج الهيئة في ذلك الكيان الموحد، مستهدفةً من ذلك إزالة صورة التشدد عنها. [caption id="" align="aligncenter" width="993"] اجتماع الجولاني مع شيوخ العشائر[/caption] لكن رغم الدعم التركي لإنجاح المجلس، فهناك العديد من التحديات التي تجعل مهمة تكوينه واستمراره فيما بعد حال ظهوره أمرًا صعبًا، بل تفتح بابًا أيضًا لإخفاقه مستقبلاً وبقائه دون جدوى أو فاعلية كبيرة. (1) مخاوف الهيمنة ومدى القدرة على الاندماج: يتوقف مستقبل المجلس إلى حد كبير على قدرة الفصائل المسلحة المكونة له على الاندماج في ما بينها في كيان واحد وتخليها عن التعصب الفصائلي أو تقديم مصالح الفصيل، بحيث يكون المجلس اندماجًا حقيقيًّا بين الفصائل وليس مجرد تجميع لها. وهو أمر صعب في ظل وجود اختلافات أيديولوجية بين تلك الفصائل التي تدفعها أكثر نحو التنافس بدلاً من الاندماج. يتطلب الاندماج أيضًا قدرا من الثقة يدفع الفصائل للتخلي عن أسلحتها الثقيلة وتوحيد مواردها المالية، وحصرها بيد المجلس، وهو الأمر الذي ترفضه فصائل تتخوَّف من هيمنة الهيئة، وما زاد مخاوفها تدعيم الهيئة للانقلابات والانقسام بين الفصائل وفقًا مصالحها، كما حدث في دعمها لانقلاب داخل حركة أحرار الشام، والتي انقلب فيه الجناح العسكري على رأس القيادة جابر علي باشا، على خلفية رفض الأخير للمجلس العسكري. فنتيجة لهذا الرفض، نسقت الهيئة مع "حسن صوفان" القائد السابق للحركة والمؤيد للمجلس، مستغلةً رغبته في استعادة منصبه في قيادة الحركة، للانقلاب على جابر باشا، وشاركت مع الجناح العسكري لأحرار الشام في 3 نوفمبر/ تشرين الثاني الحالي، وتمكنت من الإطاحة بجابر باشا، وضمان مشاركة الحركة في المجلس العسكري. (2) التداعيات السلبية لسياسات الهيئة السابقة: ترجع صعوبة فكرة الاندماج في كيان موحد مع هيئة التحرير، إلى مخاوف الفصائل أيضًا من سياسات الهيئة السابقة وصراعتها ضد الفصائل المسلحة وجماعات المعارضة على مدار سنوات الأزمة بهدف التوسع وبسط السيطرة، ما تجلى عام 2014 حينما هاجمت الهيئة عناصر الجيش السوري الحر وبقية الجماعات الإسلامية المعتدلة، للاستفراد بالسلطة في الشمال السوري. وتمكنت ذلك العام من إنهاء وجود جبهة ثوار سوريا (أكبر فصائل الجيش الحر) والسيطرة على حركة حزم (أبرز الفصائل المعتدلة). كما تجلى مرة أخرى عام 2017، في هجومها على جيش المجاهدين في ريف حلب، وألوية صقور الشام وتجمع "فاستقم" وجيش الإسلام في إدلب والجبهة الشامية، لتلجأ جميع الفصائل للانضمام إلى حركة أحرار الشام طلبًا للحماية، لكن حتى هذه الحركة لم تسلم من هجمات الهيئة التي دخلت في اشتباكات معها في يوليو/ تموز 2017، تمكنت إثرها من التوسع أكثر بإدلب. هذه الهجمات، وتلك الاشتباكات الحديثة التي دخلتها الهيئة مع غرفة عمليات "فاثبتوا" بتنظيماتها المختلفة، تدفع الفصائل المسلحة بإدلب إلى الحذر في تعاملها مع الهيئة، وتحد من قدرة المجلس -حال ظهوره- على العمل بفعالية أو الاستمرار طويلاً. (3) الجبهات المضادة: تحقيق الهيئة لانتصارات على الفصائل المتطرفة وخاصة فصائل "فاثبتوا"، لا يعني أن الأمر قد انتهى، فهذه الفصائل لن تستسلم بسهولة، ومن المتوقع أن تحاول العودة إلى المشهد واستعادة قوتها، ما يعني أن الوضع لن يستتب للهيئة، وقد يتسبب لها في تكاليف كبيرة حال اندمجت تلك الفصائل وكونت تكتلات أو جبهات مضادة. وقد بدأ بالفعل الحديث عن هذه التكتلات وتواردت أنباء بشأن اتجاه بعض الفصائل المتشددة في إدلب، للاندماج في فصيل واحد. ومن بين "جبهة تحرير سوريا"، و"ألوية صقور الشام"، و"جيش الأحرار"، وجماعة "نور الدين الزنكي"، و"حراس الدين". [caption id="" align="aligncenter" width="1000"] المجلس العسكري الموحد بإدلب[/caption]

هل تنجح المحاولات التركية لإنقاذ هيئة تحرير الشام: الإجابة بيد موسكو؟

تمثل روسيا، التحدي الأكبر الذي يواجه الهيئة وطموحاتها بسوريا وليس بالمجلس العسكري فقط. فموسكو الطرف الرئيس الفاعل في الأزمة والضاغط على تركيا لإنهاء الهيئة، وإن لم تقتنع بإذابتها فعليًّا، فستزيد ضغوطها على أنقرة وتدفعها بالنهاية إلى حل الهيئة وربما استخدام القوة العسكرية ضدها، وهو ما لا ترغب به تركيا وتحاول تفاديه حتى اليوم. وتشير الصدامات السابقة بين أنقرة موسكو إلى أن الأخيرة تمتلك بالفعل القدرة على إلزام تركيا بتنفيذ تفاهماتها معها، كما تجلى مؤخرًا في توجيهها ضربة جوية لمعسكر تدريب تنظيم "فيلق الشام"، وثيق الصلة بتركيا. وقبل ذلك، شنت بجانب قوات النظام غارات جوية على القوات التركية بسوريا، ما أدى لسقوط 33 جنديًّا تركيًّا، في ضربة كبيرة وموجعة لأنقرة. مختلف هذه الضربات وغيرها، تمثل رسائل سياسية توضح أن روسيا ستستمر في الضغط على تركيا للالتزام الفعلي بالاتفاقيات بينهما، وتُبين عدم اقتناعها بجدوى الخطوات السياسية والعسكرية التي اتخذتها الهيئة للترويج لاعتدالها. وهكذا فاستمرار الهيئة وتحقيقها لطموحاتها سيبقى رهنًا للموقف الروسي.