اختراق أوروبا بدأ بشركة ألبان! النمسا تضيّق الخناق على أنشطة "الإخوان"

  قبل نحو أسبوع، أقدم مسلح جهادي نمساوي من أصول ألبانية على تنفيذ هجوم إرهابي في قلب العاصمة النمساوية فيينا، وما إن بدأت الزوبعة التي أثارها الهجوم الإرهابي في الهدوء، حتى تلتها عاصفة حكومية مضادة كانت سمتها الأبرز التفتيش والتدقيق في أنشطة الجمعيات والمراكز المحسوبة على جماعة الإخوان في النمسا. مثَّلَ الهجوم الذي تبناه تنظيم "داعش" جرس إنذار للحكومة النمساوية التي بدأت على الفور في البحث وراء أنشطة جماعة الإخوان داخل البلاد، فداهمت الشرطة صباح الاثنين الماضي، أكثر من 60 منزلاً ومبنى سكنيًّا ومقر عمل في 4 جهات، هي "ستيريا وعاصمتها جراتس، وكارينثيا، وفيينا، والنمسا السفلى"، بسبب ارتباط تلك الجهات بجماعة الإخوان وحركة حماس الفلسطينية، وفق بيان المدعي العام في فيينا. وبحسب البيان كان هناك أكثر من 70 مشتبها به، لم يسمهم، وجمعيات يشتبه في انتمائها إلى الإخوان وحماس، من ضمنهم 30 يشتبه في إمكانية تورطهم في تشكيل منظمات إرهابية، وتمويل الجماعات المتشددة وتبييض/ غسل الأموال، موضحًا أن الشرطة النمساوية تجري جلسات تحقيق واستجواب لهم.

جذور قديمة

[caption id="" align="aligncenter" width="960"] يوسف ندا[/caption] ورغم أهمية ما ورد في بيان الادعاء العام النمساوي، فإنه لم يكشف إلا عن رأس قمة جبل الجليد، الراسخ في قلب القارة العجوز منذ ستينات القرن العشرين. ففي تلك الفترة، عملت جماعة الإخوان على تأسيس ملاذات بديلة لها في قلب القارة الأوروبية بعد الصدام الحاد مع نظام الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، فسافر عدد من رموزها إلى النمسا وكان من بينهم يوسف ندا المعروف بوزير خارجية الإخوان، وأحمد القاضي القيادي البارز بالإخوان، وساهم الاثنان في تأسيس شبكات الإخوان في النمسا عبر وضع النواة المؤسسة لها في داخل الدولة التي تتوسط قلب القارة الأوروبية. وبدأ يوسف ندا نشاطه التجاري في أوروبا بشركة ألبان، ثم تبعتها شركات أخرى، ورغم قصر المدة التي أمضاها يوسف ندا في فيينا، فقد كانت كافية لتأسيس نواة وجود إخواني كبير في البلاد، وانتقل لاحقًا إلى ميونخ الألمانية ليؤسس مع سعيد رمضان، السكرتير الشخصي لمؤسس الجماعة حسن البنا، إمبراطورية الإخوان في ألمانيا والتي تُسمى حاليًّا بـ"الجمعية الإسلامية بألمانيا"، وكان لذلك انعكاس على الوجود الإخواني في النمسا باعتبار القرب المكاني بين البلدين والتنسيق المركزي للجماعة بين شبكاتها وأفرعها المختلفة. وتزامن رحيل ندا من النمسا مع وصول محمود الإبياري القيادي الحالي بمكتب الجماعة بلندن، والذي يُعتقد بأنه المدير الفعلي للإخوان في الخارج في الوقت الراهن، وحصل الإبياري على الجنسية النمساوية وأقام في فيينا، كما ساهم خلال فترة وجوده في تأسيس وإدارة الجمعيات والشركات المملوكة للجماعة كشركة "نايل فالي"، و"ميديا سيرفس"، كما شاركه في ذلك عدد آخر من قيادات الإخوان منهم عبد العزيز خليفة (صَدِيق يوسف ندا) وزوجته عايدة خليفة التي تدير إحدى الشركات المحسوبة على الإخوان.

شبكة معقدة من المنظمات والمراكز الإخوانية

[caption id="" align="aligncenter" width="1200"] شعار جماعة الإخوان[/caption] ونجحت الإخوان، خلال العقود التالية، في تأسيس شبكة معقدة من المنظمات والمراكز والجمعيات الخيرية المرتبطة بها مباشرة في القارة الأوروبية، والتي تُدار فعليًّا عن طريق ما يُسمى بـ"اتحاد المنظمات الإسلامية في أوروبا"، والذي يُشكل هيئة ومظلة جامعة للمنظمات الإخوانية المنتشرة في 30 دولة أوروبية. وفي داخل النمسا، أسست الجماعة شبكة منظمات وجمعيات من بينها منظمة "كليغا كولتر فيرين"، ووكالة مساعدات تُسمى "طيبة للمساعدات الإنسانية"، التي تملك أفرع أخرى في ألبانيا والبوسنة وغيرهما، والتي أسسها القيادي الإخواني أيمن علي (المستشار السابق للرئيس المعزول محمد مرسي). كما لجأت الجماعة إلى طرائق ملتوية في تأسيس منظمات وجمعيات عديدة عبر منحها صفة الاستقلال الظاهري والتحكم فيها من الباطن، كالجمعية الدينية العربية، التي صدر بحقها قرار إغلاق حكومي، في يوليو/ تموز 2018، و"جمعية الثقافة الإسلامية"، التي لعبت دورًا في تعزيز شبكات الإخوان في النمسا، بحسب وثائق كشف عنها البرلمان في 30 يونيو/ حزيران عام 2019. ومن بين أبرز تلك الجمعيات الموجودة ما يُسمى بـ"الهيئة الدينية الإسلامية، أو المجتمع الديني الإسلامي، التي يترأسها الإخواني السوري أنس الشفقة. وتنقسم الهيئة الدينية الإسلامية إلى 4 هيئات فرعية: الأولى في فيينا، تخدم مقاطعات "النمسا المنخفضة، وفيينا، وبوجنلاند"، والأخرى في لينز، لخدمة "النمسا العليا، وسالزبورج"، والثالثة في بريجنز، تضمن "وتيرول، وفور ألبرجو"، والرابعة والأخيرة في جراتس، وتخدم "وشتايرمارك، وكيرنتنو". وانبثقت عن هذه الهيئة، أكاديمية التربية الدينية الإسلامية، التي تهدف لإعداد وتجنيد أجيال المستقبل من مدرسي الدين الإسلامي في مدارس فيينا، وتقدم الهيئة دورة تمتد لـ3 أعوام، وتحوي مناهج تعادل درجة البكالوريوس الأكاديمي. وتدير الهيئة أمينة الزيات، ابنة القيادي الإخواني المصري، فاروق محمد الزيات (توفي في نوفمبر/ تشرين الثاني عام 2018، وهو من الرعيل الأول للإخوان)، وهي شقيقة إبراهيم الزيات الذي يُعد مسؤولاً ماليًّا وإداريًّا بالتنظيم العالمي للإخوان والمعروف إعلاميًّا بالتنظيم الدولي، للجماعة في ألمانيا وأوروبا. كما أن "إبراهيم الزيات" تجمعه علاقة وثيقة مع الجمعية التركية في النمسا، المسماة "المللي جروس"، (تعني بالتركية الرؤية الوطنية، ولها فروع عدة في أوروبا، ويوجد مقرها الرئيس في مدينة كولون الألمانية)، وهو أيضًا زوج صبيحة أربكان، ابنة أخ رئيس الوزراء التركي الراحل نجم الدين أربكان، الأب الروحي للرئيس التركي الحالي رجب طيب أردوغان.

الروابط مع تركيا وقطر

وترتبط  المنظمات الإخوانية في النمسا مباشرة بالنظامين التركي والقطري، إذ ذكرت مجلة "البروفيل" النمساوية، عام 2014، أن المجمع الإسلامي للحضارات، يتعاون مع الجمعية التركية "مللي جروس"، كما أن منظمة الشباب النمساوي المسلم (إحدى الجمعيات الإخوانية، بدأت نشاطها في عام 1998) تضم عددًا من الكوادر التركية منهم "دودو كوتشكجول" وهي قيادية تركية على صلة بالإخواني أيمن علي. ويبرز في هذا الصدد، اسم منظمة قطر الخيرية التي تُشير العديد من الوثائق والدراسات إلى انخراطها في دعم جماعة الإخوان في أوروبا. ووفقًا لدراسة أجراها المركز الدولي لدراسة الراديكالية، التابع لقسم دراسات الحرب بجامعة "كينجز كوليدج" البريطانية، سبتمبر/ أيلول الماضي، فإن "قطر الخيرية" تعد الممول الأساسي لأنشطة ومشروعات الإخوان في أوروبا. الكتاب المُعنون: "أوراق قطر.. كيف تمول الإمارة الشبكات الإسلامية في فرنسا وأوروبا"، والذي أعده صحفيا التحقيقات الفرنسيان جورج مالبرونو وكريستيان شينو، سلط الضوء على تحويلات قطر المالية، التي استخدمت في دعم وتأسيس مشروعات الإخوان في القارة العجوز، وتضمن الكتاب 140 وثيقة، عن التمويلات التي وصلت إلى ما يقرب من 72 مليون يورو. وتمتلك "قطر الخيرية" مكاتب ومشروعات في نحو 80 دولة في قارات أوروبا وآسيا وإفريقيا، تعمل جميعها تحت ستار العمل الإغاثي والخيري، في حين أكدت صحيفة "فولكاس بلات" النمساوية، في أغسطس/ آب الماضي، أن قطر الخيرية متورطة في تمويل ودعم أنشطة الإخوان في النمسا. ونقلت الصحيفة عن الباحث الأمريكي لورينزو فيدينو، مدير برنامج التطرف في جامعة جورج واشنطن الأمريكية قوله إن "الإخوان وجدوا بيئة ودية في النمسا منذ البداية؛ إذ استغلوا مناخ الحرية والأنظمة البنكية المتطورة في توسيع أنشطة الجماعة في أوروبا". وبحسب "فيدينو" فإن المركز الثقافي في جراتس، المرتبط بالإخوان، على علاقة وثيقة بـ"قطر الخيرية"، كما أن جمعية ميللي جروس التركية، توسطت في يونيو/ حزيران عام 2014 لدى الدوحة، عبر إرسال خطاب توصية لسفارتها في فيينا، من أجل منح "الجمعية الإسلامية في النمسا"، أحد أذرع الإخوان الجديدة آنذاك، تمويلاً ماليًّا، وبعد وصوله بـ12 يومًا، فتحت قيادات الجمعية حسابًا في بنك شهير بالبلاد، وأرسلت بياناته إلى المنظمة القطرية. وفي السياق ذاته، كشفت وثائق برلمانية نمساوية، في 30 يونيو/ حزيران عام 2019، عن أن قطر ومؤسسة أنس شفيق، تمولان أنشطة ومؤسسات الإخوان في أوروبا، وذكرت الوثيقة الأولى، المؤرخة في 6 فبراير/ شباط عام 2015، المكونة من صفحتين، أن الجماعة ثبتت أقدامها في المجتمعات الأوروبية، ومن بينها النمسا، وتملك شبكات واسعة من الوكالات والمؤسسات، التي تثير أنشطتها الريبة. وتؤكد دراسة جامعة "كينجز كوليدج" البريطانية، أن قطر وتركيا تلعبان دورًا محوريًّا في دعم وتوجيه الحركات الإسلامية في أوروبا، مشيرة إلى أنهما يملكان شبكات علاقات دولية مع تلك الحركات، وتتشابك تلك الروابط مع مجموعات دعم حماس الفلسطينة في قطاع غزة.

النمسا في مواجهة الإخوان

رغم وجود الإخوان في النمسا منذ ستينات القرن العشرين، لم تتنبه الدولة الأوروبية للخطر الذي يمثلونه إلا في أواخر عام 2017، والذي شهد حملة أوروبية للتدقيق في أنشطة الإخوان نتيجة عدة عوامل من بينها تزايد العمليات الإرهابية التي نفذتها حركات إخوانية مسلحة كحسم ولواء الثورة داخل مصر، وخوف دول القارة العجوز من أن تقع تحت ضحية لهجمات مماثلة، أو أن تستغل الإخوان أذرعها في القارة لتمويل الإرهاب. [caption id="" align="aligncenter" width="800"] رجل شرطة أثناء تفتيش إحدى المراكز الإسلامية التابعة للإخوان[/caption] وخلصت التحقيقات التي أجرتها الحكومة النمساوية إلى أن الإخوان نجحوا في استغلال المساحات والأموال التي حصلوا عليها في  نشر التطرف، وخلق مجتمع موازٍ، ودفعه إلى الاستقطاب والانقسام، واستخدام الدولة كقاعدة انطلاق لأنشطتهم في الدول العربية. وفي سبتمبر/ أيلول من العام ذاته، أصدرت وزارة الخارجية وأجهزة الاستخبارات النمساوية، بدعم من صندوق التكامل النمساوي والمكتب الفيدرالي لحماية الدستور ومكافحة الإرهاب، تقريرًا مطولاً من 60 صفحة، نُفِّذ مع معهد دراسات الشرق الأدنى بجامعة فيينا، أكدت فيه أن تمكين المنظمات التابعة للإخوان في القارة الأوروبية، قوض جهود إدماج المسلمين في المجتمع الأوروبي العام، مشيرة إلى أن معلمي المدارس التابعين للجماعة، والذين يحصلون على رواتب من الحكومة النمساوية، أفسدوا عقول الأطفال. وكانت محصلة ذلك، أن بدأت الحكومة النمساوية في اتخاذ إجراءات ضد المنظمات والشبكات الإخوانية، فطردت 60 إمامًا وعائلاتهم، في عام 2018، بعد أن حصلوا على تمويل خارجي من تركيا، وأغلقت 7 مساجد، عقب تحقيق أجرته سلطة الشؤون الدينية، بعد تداول صور لأطفال يمثلون دور القتلى في أحد أبرز المساجد التي تحصل على تمويل من أنقرة، في استعادة لمشاهد من معارك وقعت في أثناء الحرب العالمية الأولى. كما سن البرلمان النمساوي قانونًا لحظر الجماعات المتطرفة، ودخل حيز التنفيذ في الأول من مارس/ آذار 2019، ونص على حظر رموز وشعارات التنظيمات المتطرفة، وفي مقدمتها الإخوان وحزب الله وتنظيم الذئاب الرمادية التركي، محددة غرامة تتراوح بين 4 إلى 10 آلاف يورو، لمن يخالف القرار، كما حظرت التمويل الخارجي لأئمة المساجد. كما أسست وزارة الاندماج النمساوية أيضًا مركزًا جديدًا لمراقبة الإخوان، وغيرها من تنظيمات وجماعات الإسلام السياسي، داخل المساجد وعلى مواقع التواصل الاجتماعي، وخصّصت له ميزانية أولية بقيمة نصف مليون يورو. في حين بدأت حملة تدقيق وتفتيش جديدة في الجمعيات والمراكز المحسوبة على الإخوان، منذ الهجوم الأخير الذي وقع خلال نوفمبر/ تشرين الثاني الحالي، لكن لا يزال من المبكر للغاية الحكم على فاعلية تلك الحملة، فالتجارب السابقة أثبتت أن الإخوان يلجؤون إلى طرائق ملتوية للهرب من المراقبة والرصد، ويبتكرون طرائق جديدة لمواصلة عملهم داخل الدول الأوروبية. ومن المتوقع أن تؤدي تلك الحملة إلى قصقة بعض الأجنحة الإخوانية في النمسا، لكن من غير المرجح أن تؤدي إلى إنهاء الوجود الإخواني هناك، والذي نجح في تأسيس شبكات معقدة ومتداخلة بعضها يتبعه مباشرة، والآخر يتحكم فيه عبر طرائق ملتوية.