"الظواهري" مات وهو حيّ! "تكتيك الطُّعم" الأمريكي لقتل رؤوس الإرهاب

  في 7 أغسطس/ آب 2019، تناقلت وكالات أنباء عالمية ما بدا أنه الخبر الأهم، حينها، زاعمةً أن أبو بكر البغدادي (خليفة تنظيم داعش)، كلف نائبه "عبد الله قرداش" برعاية أحوال المسلمين في داخل التنظيم، ورغم وجود أخطاء واضحة في صيغة البيان الذي استندت إليه الوكالات، فإنها احتفت جميعها بالخبر دون أن تكون هناك آلية واضحة للتحقق منه. لاحقًا، تبين أن نشر هذا الخبر لم يكن سوى واحدة مما يمكن وصفها بعمليات الحرب الاستخبارية الدائرة بين قوات التحالف الدولي (عملية العزم الصلب)، وبين تنظيم داعش، إذ تمكنت الولايات المتحدة التي تقود التحالف من التوصل لمكان اختباء "البغدادي" واغتياله مع عدد من مرافقيه الذين رفضوا الاستسلام للقوات المهاجمة في 27 أكتوبر/ تشرين الأول من نفس العام. وبعد أن هدأت العاصفة التي سببها مقتل البغدادي، بدأت معالم الصورة تتضح، فظهر أن الولايات المتحدة وحلفاءها العراقيين والأكراد، كانوا قد توصلوا لمعلومات حول "مخبأ البغدادي"، كما أوضح عديله محمد علي ساجت في لقائه عبر قناة العربية، لكنهم لم يتمكنوا حينها من معرفة خليفته المحتمل فلجأت لحيلة قديمة- جديدة، هي نشر خبر عن قرداش الذي يُمثل في نظرهم الخليفة المحتمل، لجس نبض التنظيم ودفعه لنفي أو تأكيد المعلومات عبر منصاته الدعائية. [caption id="" align="aligncenter" width="1000"] مقر البغدادي السابق- موقع اغتياله[/caption] عقب رحيل البغدادي أعلن المتحدث الجديد باسم داعش، اختيار خلف لزعيم داعش، والذي كناه بـ"أبو إبراهيم الهاشمي القرشي"، وفي حين لم يكشف التنظيم عن هوية خليفة البغدادي، إلا أن الولايات المتحدة أعلنت أنه عبد الله قرداش، المعروف أيضًا بأمير سعيد عبد المولى، رغم أن التنظيم أعلن في وقت سابق عن مقتل قرداش عبر إعلامه الرسمي، وهو الإعلان الذي يبدو أنه لم يحز انتباه مسؤولي مكافحة الإرهاب الأمريكيين عن جهل أو عمد.

اللعب بنفس التكتيك

لم تكن واقعة "البغدادي وقرداش" هي الأولى من نوعها، إذ يحفل سجل عمليات مكافحة الإرهاب بوقائع عديدة، لجأت فيها الوكالات الاستخبارية لتسريب معلومات موجهة لصالح التنظيمات الجهادية عبر وسائل الإعلام، لتدفعها لتبني موقف معين، أو تحث قادتها على الظهور الإعلامي، ومن ثم تعمل تلك الوكالات على تتبعهم والوصول إليهم بعدة طرائق ثم اغتيالهم/ أسرهم. ففي ظل تصاعد موجة الهجمات الإرهابية ضد القوات الأمريكية في العراق خلال عام 2004، والتي أسهمت في صعود أسطورة أبو مصعب الزرقاوي الأردني، ادعت وسائل إعلام غربية أن شخصية الزرقاوي، التي كانت حديث الساعة، مجرد أكذوبة خلقتها الاستخبارات الأمريكية للاستهلاك الإعلامي المحلي. [caption id="" align="aligncenter" width="600"] أبو مصعب الزرقاوي[/caption] وحتى مع التشكيك الأمريكي في شخصية الزرقاوي، الذي كان شخصية ملهمة للجهاديين في العراق، لم يظهر علنًا حتى إبريل/ نيسان 2006، في إصدار مرئي لمجلس شورى المجاهدين (تشكيل جهادي ضم القاعدة وحلفاءها في العراق)، وهو يتفقد إحدى قواطع تنظيم القاعدة في الصحراء العراقية، وخلال شهرين من هذا الهجوم، اغتيل أبو مصعب الزرقاوي في غارة أمريكية على بلدة هبهب (ناحية بعقوبة- مركز محافظة ديالى)، ما جعل خبراء يربطون بين ظهوره الإعلامي والوصول إلى مكانه، ثم قتله. وأسهمت عملية اغتيال الزرقاوي وأشباهها من العمليات، في صياغة العقل الإستراتيجي للجهاديين الذين ينظرون إلى الأخبار المتداولة عن قياداتهم وتنظيماتهم بقدر من الريبة، يدفعهم للتشكيك فيها، وانتظار التأكيد الرسمي من "الإعلام الجهادي". وفي إطار الخبرة السابقة، يمكن فهم حالة الزخم الجديدة التي صاحبت الأنباء الأخيرة المتداولة عن موت زعيم تنظيم القاعدة أيمن الظواهري، والتي تصدرت واجهة الأحداث على مدار الأيام الماضية، بالتزامن مع إعلان صحيفة "نيويورك تايمز" الأمريكية اللافت للنظر عن تفاصيل عملية اغتيال أبو محمد المصري الذي وصفته بالرجل الثاني في "القاعدة"، رغم مرور أكثر من 3 أشهر عليها، وتسرب تلك المعلومات إلى عدة وسائل إعلامية. [caption id="" align="aligncenter" width="1000"] أبومحمد المصري وصهره حمزة بن لادن[/caption] فمع أن الحديث عن خلخلة القيادة التنظيمية للقاعدة شغل حيزًا إعلاميًّا كبيرًا، على مدار الفترة الماضية، فإن أذرعه الإعلامية الرسمية، كمؤسسة السحاب للإنتاج الإعلامي، لم تعلق عليها بالتأكيد أو النفي، في ما يبدو كأنه تكتيك جديد من القاعدة التي بقيت ملتزمة بالإعلان عن مقتل/ موت قيادتها البارزة فور حدوث ذلك، كما حدث عندما اغتيل الرجل الثالث فيه سعيد المصري (مصطفى أبو اليزيد) في مايو/ أيار 2010، ومقتل مؤسسه وزعيمه الكاريزمي أسامة بن لادن في مايو/ أسار 2011.

كواليس الصمت

إلى ذلك، ما زالت حالة الصمت المسيطرة على "إعلام القاعدة" تمثل أرضًا خصبةً لنمو التكهنات والتخمينات حول وضع قياداتها الحالية، خصوصًا وأنه خسر فعليًّا عددًا من قياداته الفاعلة على مدار السنوات الماضية في أفغانستان وسوريا وإيران، والصحراء الإفريقية الكبرى وغيرها. ومن الواضح أن التنظيم يعيش أوضاعًا صعبة، أصابته بارتباك داخلي أدى لخلخل في عملية الاتصال التنظيمي، والمرتبطة على نحو وثيق بالأداء الإعلامي، ويعزز هذا الطرح معلومات حصلت عليها "ذات مصر" عبر مصادر مطلعة على شؤون تنظيم القاعدة. [caption id="" align="aligncenter" width="1000"] مقاتلو القاعدة[/caption] ووفقًا للمصدر، الذي رفض الإفصاح عن هويته، فإن حادثة اغتيال أبو محمد المصري ليست سوى واحدة من سلسلة عمليات استهدفت قيادة التنظيم داخل معاقلهم في إيران وأفغانستان، وتميزت تلك العمليات بتغيرات نوعية في تكتيكات الاغتيال، إذ نفذت مجموعة مسلحين أكراد، جندتهم الاستخبارات الإسرائيلية، الموساد، ووجهتهم الاستخبارات الأمريكية، حادثة اغتيال أبو محمد المصري في إحدى ضواحي العاصمة الإيرانية طهران، على حد تعبيره. وأعقبت هذا الحادثة محاولات أخرى لاغتيال عدد من قيادات "القاعدة" البارزين، منهم نجل مصطفى حامد أبو الوليد، المعروف بقربه من قيادتي طالبان والقاعدة، إضافةً إلى محاولة اغتيال نجل أحمد حسن أبو الخير (نجل أبو الخير المصري، الرجل الثاني في القاعدة، وصهر أبو محمد المصري سابقًا)، وكانت المحاولة الأخطر استهداف مقر محتمل لإقامة أيمن الظواهري والتي أدت إلى مقتل "الساعي" (المراسل الشخصي) الخاص به، ما أدى إلى انقطاع الاتصال بينه وبين تنظيم أنصار حراس الدين، فرع القاعدة في سوريا، وهو الأمر الذي أسهم في تعزيز الشكوك حول موت الظواهري الذي تدهورت حالته الصحية بصورة ملحوظة خلال السنوات القليلة الماضية. ويبدو أن محاولات الاغتيال الأخيرة لها علاقة وثيقة بالاتفاقات المبرمة بين الولايات المتحدة الأمريكية وحركة طالبان الأفغانية، إذ ترفض القيادة التاريخية للقاعدة هذه الاتفاقيات، ويؤيد موقفها هذا شبكة "حقاني" التي تُشكل جزءًا لا يتجزأ من حركة طالبان، فاستهداف نجل مصطفى حامد كان بسبب حمله إحدى الرسائل السرية المرسلة لقيادات الشبكة، على حد قول المصدر، الذي أكد أنه نجا من الهجوم الذي نُفذ بنفس الطريقة التي اغتيل بها أبو محمد المصري. [caption id="" align="aligncenter" width="800"] أيمن الظواهري وأسامة بن لادن[/caption] ودفعت سلسلة الاغتيالات النوعية قيادات الصف الأول بالقاعدة، إلى الكمون والاختفاء، والتوقف عن استعمال الهواتف وأجهزة الاتصال الإلكترونية، إذ اختفى محمد صلاح الدين زيدان "سيف العدل" وغيره من قيادات القاعدة، وتوقفوا عن التواصل الروتيني مع "شبكة القاعدة"، في حين ظل مصير أيمن الظواهري مجهولاً، لكن المصدر الذي تحدث إلى "ذات مصر" أكد أنه ما زال على قيد الحياة، وأن اختفاءه ليس إلا هروبًا من الملاحقة، وبقي التنظيم يعمل بنفس النمط المتبع في حالات الطوارئ.

بقاء التنظيم

تشير التجارب السابقة إلى نجاح تنظيم القاعدة في التكيف مع مقتل قياداته البازرين، إذ أثبت التنظيم سابقًا قدرته على البقاء حتى في ظل تلقيه ضربات قوية وقتل أو اعتقال نشطائه البارزين. [caption id="" align="aligncenter" width="1000"] أيمن الظواهري[/caption] وتمثل حملة الاغتيالات الأخيرة واحدة من أخطر الحملات التي تعرض لها التنظيم على مدى تاريخه، ويبدو أنها تهدف لخلخلة القيادة التنظيمية وقطع حالة اتصال الأجيال بين القيادات (جيل القيادات التاريخية) والعناصر الأحدث (جيل الشباب)، لكن من غير المتوقع أن تؤدي لإنهاء التنظيم أو القضاء على كامل قيادته الفاعلة، بل قد تكون لها نتائج عكسية وتؤدي لبروز تيار أكثر راديكالية داخل القاعدة، وهو ما سينعكس حتمًا على مستقبل السياقات التي يؤثر فيها التنظيم ويتأثر بها، وسيشكل ذلك تهديدًا خطيرًا للأمن العالمي.