حكايات الفارّين من الجحيم الإثيوبية: سلامٌ على سمائنا الرصاصية

  هنا شرق السودان المُتاخم لإقليمي أمهرا وتيجراي الإثيوبيين، حيث تدور معارك طاحنة بين الجيش الفيدرالي الإثيوبي، وحكومة الإقليم التي وصفها رئيس الوزراء الإثيوبي، آبي أحمد، بأنها "خرجت عن مؤسسات الدولة بعد أن خرقت الدستور وتمرّدت على السلطة المركزّية وهددّت الأمن القومي". إلى ذلك الحين، كان المواطنون من قوميّة التيجراي الإثيوبية آمنين في قُراهم.. يذهبون إلى مزارعهم صباحًا ليعودوا منها عشيّةً مُنهكين فيغطون في نومٍ عميق لا أحلام فيه إلا "قوت الأولاد".. نومٌ لا يُقلقه إلا طنين البعوض في الليالي الممطرة أو هزيم الرعود.. هكذا كانت تجري أيامهم وتمضي سنواتهم، إلى أن انقلبت رأسًا على عقب عندما صدر قرار سياسي من العاصمة، أديس أبابا، التي تبعد عن عاصمة إقليمهم (مقلي) بنحو 780 كيلومترًا، بشن الحرب على "التيجراي" من أجل وقوف 39 شخصًا ممن صنّفتهم مراكز صناعة القرار كمُجرمين، أمام عدالة حامل جائزة نوبل للسلام لعام 2019، آبي أحمد. ومن أجل حفنة من المطلوبين من القادة السياسيين والعسكريين للجبهة الشعبية لتحرير تيجراي، المناوئة للحكومة الفيدرالية على خلفيّات فكرية وسياسية، أُقحِمت الأعراق، وحُشِرت القبائل، وحُشِدت الميليشيات في حرب لا هوادة فيها. [caption id="" align="aligncenter" width="1000"] طفل يبحث عن لقمة تحت الرماد لكنه يرى حرباً[/caption]

إيقاع الموت/ موسيقى الرصاص

هذه ولاية القضارف السودانية، التي فرّ إليها المدنيون العُزّل من قومية التيجراي الإثيوبية. وبينما هم حفاة، وبعضهم عارٍ، تلاحقهم جحافل من الميليشيات الشعبية المسلحة الموالية لرئيس الوزراء الإثيوبي، وقوامها من قومية الأمهرا، التي انتزعت منها الجبهة الشعبية لتحرير تيجراي وحلفاؤها عام 1991، سُلطة حصريّة امتدت لما يقرب من ربع قرن. في مثلث مدينة "الحُمرا"، حيثُ ميدان الحرب، على الحدود السودانية الإثيوبية الإريترية، وفي بلدة "ماي خضرا" الإثيوبية المجاورة لحدود السودان، وفي بلدات وقرى أخرى، كانت طائرات الجيش الفيدرالي ترسل نيرانًا لا تطفئها مياه أنهار سيتيت وباسلام وعطبرة، المنحدرة من الهضبة الإثيوبية إلى السهول السودانية، مخترقة الحدود بلا تأشيرة دخول. في تلك البقاع المنسية من جغرافيا العالم، انحسر ليلة الخميس، 5 نوفمبر/ تشرين الثاني الحالي، صوت إيقاعات الطبول، مُجْبِرًا آذان الريفيين على سماع إيقاعات من نوعٍ آخر، هجين من أزيز الطائرات والرصاص ودوي المدافع. [caption id="" align="aligncenter" width="828"] تنظر في عيني طفلتها الوليدة[/caption]

حفاة عراة وجوعى

سيولٌ من البشرِ حُفاة عُراة جوعى، أطفال ونساء حوامل وشباب غضّ وصبايا يانعات، وشيوخ مسنون لا تقوى أقدامهم على حملهم، ناهيك بالسير عبر الحقول والوديان الوعرة والغابات إلى بلد آخر. نحو 34 ألف لاجئ حتى اللحظة، بحسب معتمدية اللاجئين بالسودان، وصلوا إلى البلاد فرارًا بأنفسهم من جحيم الحرب الأهلية الإثيوبية، بعضهم جريح وعاجز، ونحو 200 امرأة تنتفخ بطونهن بأجنّةٍ، إذا قدّر لها الخروج إلى هذا العالم الفظ، سترى نورًا يماثل العتمة في مخيم فقير وبائس بشرق السودان. من مخيّم أم راكوبة للاجئين الإثيوبيين بمنطقة القلابات الشرقيّة التابعة لولاية القضارف السودانية المُتاخمة للحدود الإثيوبية، أتاني صوتها عبر الهاتف كأنه صرير فأر مذعور، قالت متحدثة إلى "ذات مصر" بعربيِّة لا تقل صريرًا، إنّها لم تر في حياتها أهوالاً كتلك التي رأتها الأسبوع المنصرم في بلدة ماي خضرا الإثيوبية، بحيث أجهضت هولها جنينها في شهره الثالث، حين كانت تركض في الخلاء ضمن مفرزة من الفارين إلى السودان. "كِدت أموت".. تبكي، "لكّن كتب الله لي عمرًا جديدًا.. ليتني مت!". تواصل الثلاثينية آستير كيداني: "كان رجال قبيلة الأمهرا يهاجموننا بالسلاح الناري وبالمناجل والسكاكين، والجيش الحكومي المتواطئ ينظر إليهم بإعجاب ولا يحرك ساكنًا.. فقدت كل دمي بعد الإجهاض، لم تتبق في شراييني قطرة واحدة، وعندما وصلت إلى الحدود السودانية، تعهدتني امرأة سودانية فاضلة اسمها (نفيسة) بالرعاية والغذاء والحماية، وبعد 5 أيام استطعت الوقوف على قدمي، فرافقني ابنها عثمان إلى معسكر أم راكوبة، حيثُ أنا الآن". تستطرد آستير: "الشعب السوداني طيِّب وعظيم، وأنا..."، وقبل أن تكمل ينقطع الاتصال تمامًا، أو ربما انقطع صوتها، أو مات في قاع حنجرتها، فلم تقوَ على الكلام. [caption id="" align="aligncenter" width="1000"] لاجئون تيغراويون لدى وصولهم بلدة حمداييت الحدودية السودانية[/caption]

هنري بريجسون الإثيوبي!

حديث "برخت"، الشهير ببركات عيسى، وهو إثيوبي من تيجراي مُقيم بصفةٍ شِبه دائمة في السودان، حيثُ يعمل بالتجارة والزراعة بمنطقة القلابات الشرقية (ولاية القضارف السودانية)، ذكّرني بمقولةِ الفيلسوف الفرنسي هنري بريجسون: "الحرب تسلية الزعماء الوحيدة التي يسمحون لبقيّة الشعب بالمشاركة فيها"، إذ قال "إنّ جُل لاجئي تيجراي، الذين عبروا إلى السودان، لا يعرف شيئًا عن أسباب الحرب، بل إن معظمهم لا يعرف من هو حاكم الإقليم الحالي، ومن هو رئيس وزراء إثيوبيا، ولماذا يحتربان، وعلى ماذا يتصارعان.. إن الحكام هم من يصنعون الحرب من أجل حماية مكتسباتهم، أما نحن فلا عداء لنا مع أحد، أُمي من قوميِّة ولقاييت وزوجتي من بحر دار من قومية الأمهرا، وجدتي لأمي إريترية.. إنّها حربي بامتياز! فنحو 13 شخصًا من أسرتي منخرطون فيها ضمن كل الفصائل المتحاربة بما فيها الجيش الإريتري، لا أعلم مصيرهم، ولا مصير عائلتي الكبيرة، التي تمنيت أن أجد منها أحدًا بين اللاجئين، لكن ذلك لم يحدث، للأسف، ما يعني أنهم معرضون للإبادة في أي لحظة". يصف "بركات" في حديثه إلى "ذات مصر" من تمكنوا من اللجوء إلى السودان بـ"المحظوظين"، فلو لم يهربوا لتعرضوا لحفلات القتل الجماعي والتشفّي والتطهير العرقي التي تشنها ميليشيات الأمهرا بحق مدنيي تيجراي، بحسب تعبيره. [caption id="" align="aligncenter" width="1000"] أم وطفلتها تستظلان بعربة في معسكر حمداييت - شرق السودان[/caption]

من الجحيم إلى الجحيم!

لاجئ شاب في السابعة عشرة من عمره وصف لـ"ذات مصر" مخيم الاستقبال ببلدة "حمداييت" بولاية كسلا السودانية، المتاخمة لإقليم تيجراي الإثيوبي، بـ"الجحيم الأخرى"، لكنّه يفضلها على جحيم آبي أحمد، على حد قوله. اللاجئ الذي رفض الإفصاح عن اسمه، لكونه يريد العودة إلى بلاده عندما تتحسن الأمور، قال إنه وصل إلى السودان عاريًا، بعد أن وضعته ميليشيات قبلية محددة (لم يذكر اسمها) أمام خيارين: الموت ذبحًا بالمنجل، أو خلع ملابسه مقابل السماح له بالهروب، فاختار الحياة كما ولدته أمه! قال محدثي: "كانوا يُمثِّلون بالجثثِ، ويبقُرون بطون النساء الحوامل!"، كفّ عن الكلام، انتحب، ثم اعتذر وانسحب. [caption id="" align="aligncenter" width="1000"] فارون من الموت[/caption]

أين العالم؟

إلى ذلك، قالت معتمدية اللاجئين السودانية إن أعداد اللاجئين تتزايد باطِّراد، وإنها لا تمتلك الإمكانية لإيواء وإعاشة وتطبيب ورعاية نحو 34 ألف لاجئ، وصلوا حتى الآن إلى البلاد، في حين أن المفوضية العليا لشؤون اللاجئين التابعة للأمم المتحدة قدرت عدد الذين عبروا إلى السودان من جراء الحرب الإثيوبية بـ27 ألف شخص، وهو حجم تدفق اللاجئين الأسوأ الذي يشهده السودان منذ أكثر من 20 عامًا. وقال بابار بالوش، المتحدث باسم المفوضية، في مؤتمر صحفي في جنيف الثلاثاء المنصرم: "عبرت النساء والرجال والأطفال الحدود بمعدل 4000 شخص يوميًّا، منذ 10 نوفمبر/ تشرين الثاني الحاليّ، ما أدّى إلى سرعة تجاوز قدرة الاستجابة الإنسانية على الأرض". وقال ينس هيسمان، مساعد ممثل مفوضية اللاجئين في بلدة حمداييت السودانية: "يصل اللاجئون الفارون من القتال مُنهكين من الرحلة الطويلة بحثًا عن الأمان"، وأضاف في تصريحات صحفية الاثنين الماضي: "الوضع سيئ للغاية.. نحو 15 ألف شخص في نقطة حمداييت الآن، ممن وصلوا خلال الأيام الخمسة الماضية، وقد بدأت المفوضيّة في تقديم المساعدات، مع جهات عديدة من بينها برنامج الأغذية العالمي، وجمعية الهلال الأحمر السوداني، ومنظمة المعونة الإسلامية.. هناك الكثير الذي يجب القيام به".