حرب بلا خطة.. لعبة "الاغتيالات النوعية".. "القاعدة" لا يزال فائزًا

  منذ إعلانها حربها الكونية على الإرهاب، ركزت الولايات المتحدة الأمريكية على استهداف قيادات التنظيمات الجهادية، في إطار سعيها لتقويض هياكل القيادة والسيطرة التنظيمية، وتفكيك الشبكة التشغيلية للإرهابيين. وبالفعل نجحت الإستراتيجية الأمريكية، في تحقيق بعض الإنجازات الجزئية في هذا الصدد، لكن في المقابل أبدت التنظيمات الجهادية قدرة على التكيف والصمود، وتمكنت من إعادة تصدير صورة مغايرة عن مقتل قادتها، وتقديمه كدليل على صدق دعوتها. وخلال فترة حكم الإدارة الديمقراطية (فترتي حكم باراك أوباما ونائبه جو بايدن)، تبنت الولايات المتحدة إستراتيجية "قطع رأس القيادة" لمواجهة تنظيمي "القاعدة" و"داعش" والتي يُشكل برنامج الاغتيالات النوعية، أحد مرتكزاتها الرئيسة، بحسب وثيقة سرية لوكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية سربها موقع ويكليكيس في وقت سابق. ويبدو أن الاستخبارات الأمريكية عمدت، خلال الأشهر الماضية، إلى اتباع نفس النهج السابق، في مواجهة تنظيم القاعدة، إذ نفذت سلسلة من الاغتيالات النوعية ضد شبكة "القاعدة" القيادية، ونجحت في تحييد عدد من القادة الفاعلين منهم أبو محمد المصري الرجل الثاني في القاعدة (قتل في إيران)، وأبو القسام الأردني (قتل في سوريا)، عضو مجلس الشورى العالمي والذي يُمثل المجلس القيادي لتنظيم القاعدة، وأبوهريرة الصنعاني أمير فرع التنظيم باليمن، وعضو مجلس الشورى أيضًا. ورغم أن سلسلة العمليات السابقة، التي تمت بشكل منسق، تؤثر على الأداء الروتيني للتنظيم، فإنه لا تمكن معرفة حجم تأثيرها على "القاعدة" بدقة حتى الآن. [caption id="" align="aligncenter" width="1000"] أبو محمد المصري[/caption]

تقييم فاعلية الاغتيالات النوعية

على مدار سنوات، أبدى تنظيم القاعدة قدرًا كبيرًا من المرونة والمقدرة على التكيف في مواجهة الضربات الأمريكية وخصوصًا التي تستهدف قيادته العليا، ويمكن اعتباره نموذجًا عمليًّا لقدرة تنظيمات الجهاد المعولم على الصمود في مواجهة حملات مكافحة الإرهاب. وفى هذا السياق، لا يمكن تقييم فاعلية إستراتيجية "قطع رأس القيادة" وبرنامج الاغتيالات النوعية دون النظر إلى تاريخ عمليات مكافحة الإرهاب. واستنادًا إلى الخبرة السابقة، يمكن القول إن فاعلية هذه الإستراتيجية تكون محدودة نسبيًّا، إذا لم تُنَفَّذ في إطار شامل، لأن الاكتفاء بمحاولة خلخلة القيادة التنظيمية لن يكون ذا أهمية كبيرة، حال عدم استغلال وتعظيم المكاسب المتحققة في مواجهة التنظيمات الإرهابية. [caption id="" align="aligncenter" width="800"] مقاتلو القاعدة في اليمن[/caption] وبالنظر إلى طبيعة الأوضاع السياسية الحالية في الولايات المتحدة (قائدة معسكر مكافحة الإرهاب) والتي تقود بالتأكيد موقفها الاستخباري والعسكري، فإنه من المتوقع أن يكون تأثير عمليات الاغتيال الأخيرة محدود نسبيًّا على تنظيم القاعدة، خاصة أن أمريكا تحاول تحقيق نصر إستراتيجي بأقل كلفة ممكنة دون أن تنخرط في مواجهة شاملة حاليًّا. الآثار الإيجابية لعمليات الاغتيال النوعي لم تتحقق بالصورة المطلوبة، حتى الآن، فمثلاً لم يغير تنظيم القاعدة في إستراتيجيته، أو ضعفت إرادة مقاتليه بقدر ملحوظ، ومع ذلك لا يمكن إنكار أن هناك مكاسب تكتيكية حصلت بالفعل كتضائل فاعلية تنظيم القاعدة نسبيًّا، ووقوع انقسام في داخل فرعه اليمني وهو الأمر الذي ما زال مؤثرًا فيه حتى الآن، بعد أن كان هذا الفرع رأس حربة التنظيم القاتلة. إن تعظيم الاستفادة من المكاسب التي حصلت لن يكون ممكنًا دون إرادة حقيقية لذلك، وهو الأمر الذي يبدو بعيدًا حاليًّا، لعدة اعتبارات منها الصراع السياسي في الولايات المتحدة، وانشغالها بمواجهة خصومها التقليديين كروسيا والصين، إضافةً إلى أن ملف الإرهاب لم يكن من أولويات الرئيس الأمريكي المنتخب "جو بايدن"، والذي وعد سابقًا بإعادة "أبناء أمريكا" إلى الوطن في إشارة منه إلى القوات العسكرية خارج البلاد، وبالتالي يمكن توقع انسحاب أمريكي مرتقب من أفغانستان وسوريا، وخفض لأعداد الجنود في القواعد الأمريكية في العراق، وهذا بالتأكيد سيمثل فرصة قد تستغلها التنظيمات الجهادية وعلى رأسها القاعدة وغريمه الأبرز داعش.

تأثيرات عكسية

في المقابل، قد يؤدي النهج الأمريكي الحالي إلى نتائج عكسية منها لجوء "القاعدة" إلى تغيير إستراتيجيتها وتكتيكاتها، لتتلافى الجهود الاستخبارية الأمريكية الرامية إلى القضاء عليها، وقد تسهم في صعود تيار أكثر أصولية داخل القاعدة، وهو المتوقع في حال غياب أيمن الظواهري عن قيادة التنظيم. [caption id="" align="aligncenter" width="720"] وثيقة خلفاء الظواهري[/caption] فبحسب وثائق تنظيمية سابقة، نشرها نشطاء جهاديون من داخل سوريا، فإن عناصر وقادة التنظيم تعهدوا بمبايعة 4 قيادات حال مقتل/ وفاة الظواهري، وهم: أبو الخير المصري، وأبو محمد المصري، وسيف العدل، وأبو بصير الوحيشي. لكن 3 من خلفاء زعيم القاعدة المحتملين قد قتلوا بالفعل خلال السنوات الماضية، ولم يتبق سوى "سيف العدل" الذي يمثل زعيمًا محتملاً للتنظيم وأملاً أخيرًا لحرسه القديم (جيل القيادات التاريخية) لاستمرار حالة اتصال الأجيال داخليًّا، والبقاء على تواصل فعال مع جيل الشباب الذي سيتولى حتمًا مقاليد الأمور داخل التنظيم خلال الفترة المقبلة. ومن المعلومات المتاحة عن شخصية "سيف العدل" يمكن استنتاج أنه سيتبع نهجًا متريثًا وسيركز على إعادة بناء وتعزيز شبكات القاعدة ولن يُخاطر بتنفيذ هجمات كبرى ضد الولايات المتحدة والدول الغربية على غرار هجمات 11 سبتمبر/ أيلول، التي عارضها هو قبل تنفيذها، كما أن سيف العدل يُمثل شخصية كاريزمية ومحورية في العقل الجمعي لعناصر التنظيمي، وهذه ميزة إضافية تُرجح كفته داخليًّا. وعلى ذات الصعيد، من المحتمل أن يستثمر تنظيم "داعش" حملة الاغتيالات الأخيرة في صراعه مع "القاعدة"، فالأول يسعى لاستقطاب مقاتلي التنظيم وإثبات أنه ما زال متربعًا على قيادة الجهاد العالمي، رغم انهيار خلافته المكانية في مارس/ آذار 2019، ومقتل زعيمه الكاريزمي أبو بكر البغدادي. [caption id="" align="aligncenter" width="800"] أيمن الظواهري وأسامة بن لادن[/caption] وسيستفيد "داعش" بالتأكيد من غياب قادة القاعدة التاريخيين، وسيتثمر المعلومات المتداولة عن علاقتهم بالنظام الإيراني في ضرب الرمزية التي يمثلونها، وتشويههم بتهمة التعاون مع "الصفويين" (الوصف الذي يسبغه على الشيعة الإيرانيين) وهي الدعاوى التي تلقى رواجًا لدى عموم أبناء تنظيمات الجهاد المعولم. ونجح تنظيم داعش، سابقًا، في استقطاب عدد من قيادات وعناصر، وأنصار القاعدة، في أفغانستان وسوريا واليمن، وعلى رأسهم أبو عبيدة اللبناني الذي يصفه بالمسؤول الأمني السابق لقاعدة خراسان (القيادة المركزية/ العامة للتنظيم).

نظرة مستقبلية

ووفقًا المعطيات السابقة، يمكن التأكيد على أن سلسلة العمليات الأخيرة التي استهدفت قيادات تنظيم القاعدة، ستؤدي بلا شك إلى الحد من فاعلية شبكاته القيادية، لكن من غير المرجح أن تؤدي لتعطيله بالكامل، إذ إنها تُنفذ دون تضافر بقية العوامل لتحقيق إستراتيجية شاملة في مواجهة التنظيم. [caption id="" align="aligncenter" width="1000"] وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية[/caption] وسيتمكن التنظيم، بعد فترة، من تعويض القيادات المقتولة والعودة للعمل بنفس الروتين السابق، وقد يسعى أيضًا لتنفيذ هجمات إرهابية، مستقبلاً، للانتقام لمقتل قادته وإثبات أنه ما زال فاعلاً على الساحة العالمية. ومن المتوقع أيضًا، أن يبقى "القاعدة" على نفس نهجه السابق: الصبر الإستراتيجي والتركيز على الهدف النهائي، ومواصلة العمل على تعزيز أفرعه الخارجية والاستفادة من الارتباك الأمريكي الحالي في زيادة فاعليته، وهو الأمر الذي يشكل تهديدًا عالي القيمة للأمن العالمي.