"فرانكفونية.. استعمارية".. وجهان لخلاف واحد بين فرنسا وتركيا

ذات مصر
  في مشهد سينمائي، وقف الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، وسط عشرات اللبنانيين، مشمرًا أكمام قميصه، مزيحًا كمامته لأسفل كي تظهر تعابير وجهه، تلتقط عدسات الكاميرات صوره متأثرًا بما يقوله المتضررون من انفجار مرفأ بيروت في الرابع من أغسطس/آب الماضي، مع صور أخرى يحضن فيها الشباب حينًا ويشد على سواعدهم، ويومئ برأسه متضامنًا أحيانًا كثيرة. وفي صبيحة اليوم التالي، كان ماكرون في منزل السيدة فيروز، (جارة القمر) كما يلقبها محبوها، ليكمل سيناريو بدأه منذ أن حضر إلى الأراضي اللبنانية، كأنما يقول "نحن أقرب إليكم منهم". [caption id="" align="aligncenter" width="1000"] ماكرون وسط المواطنين اللبنانيين في انفجار بيروت[/caption] هذا الوجود البسيط والسلس وسط الشارع اللبناني، ليس مجرد تحرك عفوي من الرئيس الفرنسي الشاب من أجل ممارسة ضغوط الإصلاح والسعي نحو حلحلة الوضع السياسي والاقتصادي المتفاقم في لبنان، بل فسره مراقبون بأنه خطوة نحو توجهه "الاستعماري" في الدول العربية والإفريقية، خاصة مع ربطه بتطلعه نحو المغرب العربي منذ وصوله الحكم في مايو/ أيار 2017، وجهوده نحو "فرنسة" اللغة في الجزائر، واتخاذ تونس مقرًّا جديدًا لإحياء الفرانكفونية. عند المحطة اللبنانية ومن بعدها المحطة الليبية، ومن قبلها محطات في إقليم شرق المتوسط وجنوب القوقاز، تصيدت تركيا، التي ترغب في بسط نفوذها إقليميًّا، لفرنسا كل تلك التحركات، وطفا الخلاف المبطن إلى السطح. من لبنان ونحو الغرب وجنوبًا حيث إفريقيا، حيث كان الوجود الفرنسي حاضرًا بقوة في المشهد السياسي، وتحديدًا في ليبيا وما يحيطها من صراعات إقليمية ودولية، تحولت المناوشات السياسية من تلميحات إلى تصريحات علنية واتهامات رسمية، وأخذت كل قوة إقليمية تذكِّر الأخرى بتاريخها الاستعماري، وتطلعات إحيائه مستقبلاً، وكان آخرها ما قاله ماكرون في مقابلة نشرتها مجلة "جون أفريك" في 20 نوفمبر/ تشرين الثاني الحالي، بأن "تركيا وروسيا تتبعان إستراتيجية تهدف إلى تأجيج مشاعر معادية لفرنسا في إفريقيا، مستغلة نغمة ما بعد حقبة الاستعمار، وهي إستراتيجية يتبعها وينفذها أحيانًا قادة أفارقة، لكن تتبعها بالأساس قوى أجنبية مثل روسيا وتركيا".

أطماع تمتد من إفريقيا إلى جنوب القوقاز

تنتهج فرنسا سياسة فاعلة لتطوير الفرنكفونية، ففي 20 مارس/ آذار 2018 عرض ماكرون الخطة الشاملة لترويج الفرنسية وتعدد اللغات في العالم، صبت تركيزها على اللغة الفرنسية باعتبارها أرضية مشتركة لمؤسسات الفرنكوفونية المتعددة الأطراف، خاصة المنظمة الدولية للفرانكفونية. [caption id="" align="aligncenter" width="1000"] ماكرون وفيروز خلال زيارة الأول للبنان قبل أشهر[/caption] وبينما تفتح الفرنكفونية لماكرون أبوابًا نحو غالبية البلدان الإفريقية والعربية، وتجعل فرنسا تنخرط أفضل في المشاريع الإنمائية والتعليمية والثقافية والبحثية في تلك البلدان، تفتح له أيضًا أبوابًا على الصراع الإقليمي في المنطقة، خاصة مع تركيا وروسيا. فالصراع ممتد منذ سنوات، لكنه ظهر للعلن مؤخرًا، ففرنسا عارضت انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي، وتختلف مع تركيا في المسألة الحقوقية، من حيث حجم الاعتقالات والسيطرة على الإعلام وقمع الصحفيين وغلق المؤسسات الصحفية، كما أن فرنسا تحارب "الذئاب الرمادية" التي تعد الذراع السياسية المسلحة لتركيا في الغرب وتحديدًا في فرنسا وألمانيا، والحديث هنا على لسان محمد الألفي، خبير الشؤون السياسية وأستاذ الاقتصاد السياسي بجامعة السوربون. وفي أكتوبر/ تشرين الأول عام 2010، ومع انعقاد القمة الفرنكفونية السابعة عشرة في يريفان عاصمة أرمينيا، كانت المنافسة حامية بين كل من فرنسا والنمسا على اختيار الأمين العام للمنظمة الفرنكفونية، بنحو حال حتى دون النظر في الملفات الهامة للبلدان الإفريقية المنخرطة في المنظمة، لأسباب فسرها مراقبون بأنها تخدمه في المعارك الدبلوماسية والسياسية التي تخوضها فرنسا في المحافل الدولية. ثم عاود الخلاف الفرنسي التركي الظهور علنًا مؤخرًا في أزمة الحرب بين أرمينيا وأذربيجان، التي انتهت بوساطة روسية. يقول الألفي إن أرمينيا دولة لها علاقات قديمة بروسيا، وفي نفس الوقت توجد جالية أرمينية كبيرة في فرنسا ولها ثقل كبير ونافذ في الدوائر السياسية والاقتصادية، ولذك تعتبر فرنسا أن لديه سلطة أو ولاية على أرمينيا مثلما تتعامل مع لبنان. وزاد الصراع بين فرنسا وتركيا في أرمينيا عندما لعبت روسيا دورًا هامًّا في وقف الحرب، وأشرفت على الاتفاق المبرم بين الطرفين، وفي نفس الوقت، فإن دولة تركيا لديها مصالح مع أذربيجان، وهي ليست دولة فقيرة بل تنتج نسبة محترمة من إجمالي النفط العالمي وعدد سكانها 10 ملايين نسمة فقط، وبالتالي خرجت فرنسا من الملف. وألمح خبير الشؤون السياسية إلى أن روسيا تريد العودة إلى ما قبل القسطنطينية -عاصمة الدولة العثمانية- وإلى جميع مناطق نفوذها وتقترب أكثر بوضع جنودها في أرمينيا، كما أن تركيا سترسل جنودًا إلى أذربيجان، بالتالي فإن روسيا وتركيا يعاندان معا وإن لم يظهر هذا للعلن، ما يُخرِج فرنسا من الملعب تمامًا. [caption id="" align="aligncenter" width="827"] شعار الفرانكفونية[/caption]

الدول ليست جمعيات خيرية في عالم جديد يتشكّل

رغم أن المنظمة الفرانكوفونية تعمل أساسًا على تعزيز السلام والديمقراطية وحقوق الإنسان ودعم سيادة القانون كمفاتيح للتنمية المستدامة، فإن انتقادات عدة وحادة تواجهها دائمًا بحيادها عن هذه الأهداف واعتمادها على معايير سياسية ودبلوماسية ظهرت بعد ازدياد أعداد الدول الأعضاء التابعة لها بقدر كبير بين عامي 1970م و2018م، ما أدى إلى خلق حالة من التوتر والقلق المتزايد خاصة أن دولاً بالمنظمة تنتهك وتتجاهل حقوق الإنسان والحريات الأساسية. لكن يبدو أن "مسألة حقوق الإنسان ما هي إلا نغمات مستخدمة، وعندما تظهر المصالح تختفي حقوق الإنسان"، حسب تعبير أستاذ الاقتصاد السياسي بجامعة السوربون، الذي أكد على أن الفرانكفونية مثل منظمات الأنجلوساكسون تمامًا، لكل منها منظماتها، كما أن أمريكا لها منظماتها بالتنسيق مع بريطانيا، الصين أيضًا أصبح لها منظمات تعمل حول العالم، والصين تمتلك تقريبًا 70% من الديون في إفريقيا ولديها مشروعات ضخمة. وبالتالي فإن هذا التحول الجيوستراتيجي والجيوسياسي للدول في مناطق النفوذ ليس له أي علاقة بالأهداف الإنسانية، حسب الألفي الذي قال: "الدول ليست جمعيات خيرية بل تبحث عن مصالح ونفوذ وأسواق وثروات.. هذا ما تفعله الصين وروسيا واليابان وأمريكا، وبالتالي العالم الجديد الذي يتشكل، والفائز والخاسر مسألة رهانات".

روسيا في قلب الصراع

الأمر لروسيا ليس بهدف فرض نفوذ بقدر ما هو أمر اقتصادي بحت، حسب الألفي، الذي قال إن روسيا تريد العودة لنفوذ ما قبل إسطنبول وتمتد للبوسفور مرة أخرى، وهذا يقلق الدول الغربية، خاصة مع دخول روسيا في معادلة الغاز في شرق المتوسط، بعدما مدت خط "ستريم" السيل الجنوبي، عبر تركيا لتصدير الغاز من نقطة إلى أخرى، لتدخل معادلة الصراع الكبير في أوكرانيا على خطوط الغاز، حيث لا توجد مصادر أخرى لأوروبا إلا من روسيا، وبالتالي ضمنت روسيا خطًّا آمنًا بعيدًا عن أوكرانيا، وهذا نفس منطق تدخل روسيا في القرم باعتبارها مدخل البحر الأسود، وحال سيطرة أوكرانيا على القرم سيُحبس الأسطول الروسي داخل البحر الأسود لا يخرج إلى المياه الدافعة، مصطلح يطلق على مناطق وصل البحار والمحيطات. [caption id="" align="aligncenter" width="1041"] ماكرون وأردوغان[/caption] وأشار الألفي كذلك إلى أن روسيا تحاول وضع قدم ثقيلة وعميقة في إفريقيا، وتركيا لديها نفس التوجه، وبالتالي فإن إخراج فرنسا من مناطق نفوذها ومصالحها المشتركة جاء على هوى الاتفاق التركي والروسي. الأمر نفسه ينطبق على المصالح الاقتصادية في شرق المتوسط، فيقول أستاذ الاقتصاد السياسي بجامعة السوربون، إن فرنسا تنقب عن الغاز في سواحل قبرص من خلال شركة توتال ولها أعمال في اليونان والشركات الفرنسية هي التي كانت تدير النفط الليبي، وبالتالي دخول تركيا على ليبيا ومحاولة فرض شركات تركية في مجال الغاز والنفط والتكرير، يبعد فرنسا عن الساحة ويؤجج الصراع بينهما.