معركة الخطاب الديني: فرنسا في مستقبل غائم

  على بُعد أمتار من مدرسة "بوا دون" الواقعة بمنطقة كونفلان سانت أنورين، شمال غربي العاصمة الفرنسية، سار حسن شغلومي وبونا جاكابي برفقة أئمة بعض المساجد بخطى ثقيلة، ممسكين بزهور بيضاء ليضعوها أسفل لوحة مدون عليها "أنا أستاذ.. أنا صامويل"، وهو المكان الذي شهد حادث ذبح مدرس التاريخ الفرنسي صامويل باتي على يد طالب شيشاني، واصفين "باتي" بأنه شهيد حرية التعبير، وأن الدين الإسلامي يُنزل المُعلم منزلة الرُسل. مشهد لم يزد على الدقيقتين تسبب في الهجوم، لفظيًّا، على الأئمة، وقد اعتبرهم البعض مفرطين في الدين، في حين اتهمهم آخرون بـ"الكفر"، لكن خطباء المساجد الفرنسية الكبيرة واصلوا دفاعهم عن الدين بأن الرسم المسيء للنبي لا يُقابَل بالذبح، قائلين: إنهم ليسوا أطفالاً مسلمين هؤلاء الذين يرتكبون الجرائم ولا يحترمون مدرسة الجمهورية، لذا نطلب الصفح منكم لأن مدرسًا قُطِع رأسه باسم ديننا ومات. ظُهر الجمعة 30 أكتوبر/ تشرين الأول المنصرم، كانت باريس على موعد مع حدث جديد، حين انتهى إمام مسجد باريس الكبير من خطبة صلاة الجمعة، وطلب من المصلين عدم الانصراف، قبل أن يقف ويردد عليهم عبارات من "لاماسييز" (النشيد الوطني للجمهورية الفرنسية)، الأمر الذي اعتبره وزير الداخلية جيرالد درمانين "خطوة رمزية قوية". [caption id="" align="aligncenter" width="1000"] حادث مقتل مدرس التاريخ الفرنسي صامويل باتي[/caption] لم تكن الأحداث السابقة، والتي تطورت على نحو سريع، سوى محفز إضافي للسلطات الفرنسية التي مضت قدمًا لإعادة طرح مشروعها المعروف بـ"مواجهة الانعزالية الإسلامية"، فمساء الأربعاء 18 نوفمبر/ تشرين الثاني الحالي، التقى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، مسؤولي الديانة الإسلامية بقصر الإليزيه، وطلب منهم تشكيل مجلس وطني للأئمة يكون مسؤولاً عن إصدار الاعتمادات لرجال الدين المسلمين في فرنسا وسحبها منهم عند الاقتضاء. وبحسب ما أعلنته الرئاسة الفرنسية، طلب ماكرون أيضًا من مسؤولي مجلس الديانة الإسلامية وضع ميثاق للقيم الجمهورية، خلال 15 يومًا، يحدّد أن الإسلام في فرنسا هو دين وليس حركة سياسية، وأن ينص على إنهاء التدخل أو الانتماء إلى دول أجنبية، مؤكدًا أنه سيكون إلزاميًّا على أعضاء المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية والاتحادات التسعة التي يتألف منها الالتزام به. بدا واضحًا من مخرجات هذا الاجتماع أن الرئيس الفرنسي يُصر على مشروعه المناهض للإسلام السياسي، تحت غطاء مواجهة "الانعزالية الإسلامية" وخلق جيل جديد من الدعاة الإسلاميين الذين يتفقون مع رؤية السلطة الفرنسية للدين الإسلامي، فقد أصر ماكرون على أن يتضمن المشروع المذكور نصوصًا تعزز ملاحقة تمويل المساجد والمدارس الدينية الأجنبية الخاصة، ونقابة الأئمة الأجانب، وزيادة المراقبة على الجمعيات والأفراد المشتبه في محاولة الانفصال عن الدولة الفرنسية، بما في ذلك مجالات القطاع العام والألعاب الرياضية، وحظر الجهود التي تهدد المساواة بين الجنسين. [caption id="" align="aligncenter" width="1000"] ماكرون[/caption]

خطوة جديدة ومستقبل غائم

عقب انقضاء اللقاء بين الطرفين، سرّب بعض الحاضرين كواليسه لوسائل إعلامية مقربة من تيارات الإسلام السياسي، التي روّجت بدورها أن مشروع مواجهة الانعزالية الذي يتبناه ماكرون سيفشل ولن يحقق النتائج المرجوة لأنه "ضد مسلمي فرنسا"، البالغ عددهم نحو 8 ملايين مسلم. في المقابل، اعتبر طارق أبو النور، أستاذ علم الأديان ومدرس الفقه بالمعهد العالي للدراسات الإسلامية في باريس، والأمين العام للمجمع الفقهي الأوروبي المستقل للصيرفة الإسلامية، أن "فرنسا محايدة تجاه جميع الديانات ولا تود أن يكون لها دين رسمي، سواء الإسلام وغيره، ما يعني أن الإشكالية هنا ليست مع الإسلام أو معتنقيه، والدليل أنه عقب كل صلاة جمعة يأتي إلينا شباب يشهرون إسلامهم دون تضييق من الدولة أو أسرهم". وأضاف إمام مسجد التقوى بالضاحية الجنوبية بباريس لـ"ذات مصر" أن قرار إنشاء مجلس للأئمة سبقته محاولات عديدة لتنظيم مسألة صعود المنابر والفصل بين ما هو ديني وما هو سياسي، موضحًا أن مسألة الإمامة ليس لها تعريف دستوري أو شرعي في فرنسا، لذا صار كل من هب ودب يصعد المنبر، في غياب كل الشروط لاختيار الإمام، بالتالي شهد بعض المساجد خطابًا متشددًا. وأردف: "هذه الحرية في الإمامة تحولت إلى تسيُّب، فنجد أشخاصًا من دول عربية مثلاً محكومًا عليهم بالإعدام في قضايا إرهاب وتطرف، يفرون إلى فرنسا ويجدون فيها مرتعًا لهم ومقرًا آمنًا يبثون فيه سمومهم دون عقاب، ويفعلون ذلك باسم حرية التعبير أيضًا". [caption id="" align="aligncenter" width="1000"] مسجد في فرنسا[/caption] وتابع: "مشروع قانون الانعزالية الإسلامية يؤكد أن الفتاوى الواردة من الخارج تتصادم مع طبيعة الحياة بفرنسا، وهذا يُحدث فجوة بين المتدينين والمجتمع، فيشعرون أن الإسلام ومبادئ الجمهورية شيئان متناقضان، فإما الانعزالية وإما الهجرة إلى الدول الإسلامية"، مشددًا على أن مشروع القانون هو ردّة فعل على الممارسات التي جعلت المسلمين في الضواحي أعداءً للمجتمع مستعدين أن يركبوا مراكب الإرهاب متى سنحت لهم الفرصة، قائلًا: "صار من الصعب أن نتكلم عن السلام والتعايش، فهؤلاء يرونه مستحيلاً". يتفق طرح أبو النور إلى حد كبير مع الطرح الذي تتبناه السلطات الفرنسية التي ترى أن جزءًا جوهريًّا من أزمة "الانعزالية الإسلامية" مرتبط بالخطاب الدعوي الذي يروّجه بعض الأئمة والدعاة المسلمين في البلاد، وهو ما حدا بالرئيس الفرنسي ماكرون إلى اللجوء إلى القاهرة ومخاطبة مؤسسة الأزهر الشريف، لتلعب دورًا فاعلاً في ضبط الخطاب الديني في بلاده. في يناير/ كانون الثاني 2019، التقى الرئيس الفرنسي الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب، شيخ الأزهر الشريف، وأعرب خلال لقائه عن رغبته في أن يتلقى جميع الأئمة والدعاة الفرنسيين تدريبًا في الأزهر، وأن يتلقى الطلاب الفرنسيون تعليمهم الديني في جامعة الأزهر، ليكونوا ضمانًا للاستقرار ولاحترام قواعد المواطنة، مؤكدًا أهمية استعادة العلاقات الثقافية بين المؤسسة الدينية وفرنسا من خلال تبادل المنح والعلاقات الأكاديمية بين الجانبين. لاقت مبادرة ماكرون قبولاً لدى الطيب، الذي أوضح أن العلاقات القوية تحتم على الأزهر مساعدة فرنسا في التغلب على الإرهاب، ومواجهة الذين يقتلون الآخرين باسم الدين، موضحًا استعداد الأزهر لدعم فرنسا من خلال برنامج لتدريب الأئمة على مواجهة الفكر الإرهابي، بالإضافة إلى تقديم منح للطلاب الفرنسيين للدراسة في الأزهر الشريف، لتكون فرنسا مركزًا لنشر الفكر الوسطي في أوروبا. غير أن الجهود السابقة لم تتمكن إلى الآن من وضع حل جذري للمسألة في فرنسا التي بدت كأنها "دولة في أزمة" وغير قادرة على السير بخطى ثابتة في الاتجاه الصحيح. [caption id="" align="aligncenter" width="1000"] الرئيس ماكرون في استضافة شيخ الأزهر[/caption]

إسلام القنصليات والوضع المعقد

بدوره، اعتبر طارق أبو النور أن المشكلة الحقيقية في فرنسا تتلخص في ما يُسميه بـ"إسلام القنصليات"، وهو مصطلح يستخدمه للإشارة إلى الجهات التي يتبعها المسلمون في فرنسا، سواء على مستوى الأفكار والأيديولوجيا، وعلى مستوى تبعية الجاليات وارتباطاتها. وأوضح أبو النور أن فرنسا بها 4 تبعيات هي: إسلام المغرب، وإسلام الجزائر، والإسلام السلفي، وإسلام جماعة الإخوان، وكل مدرسة لها تابعوها، ويكون ولاء أئمتها للدول التي تمنح مساجدها العطايا ومساعدات تصل إليهم في صورة زكاة، الأمر الذي ينعكس على طبيعة الخطاب الدعوي ومضمونه، لذلك تسعى السلطة الفرنسية لإنهاء فوضى المساجد والتأكد من كفاءة الأئمة، بما يساعد على ضبط الخطاب الدعوي وبُعده عن التطرف والكراهية. ويتفق الطرح السابق نسبيًّا مع ما ذكره شريف سليماني، وهو إمام مغربي عمل في الخطابة داخل أوروبا لقرابة عقدين من الزمن، والذي وصف المساجد هناك بأنها تعيش "حالة من الفوضى" في ظل تعدد الاتجاهات والتباينات بين زوار المسجد، وتختلف دوافعها وأسبابها (سياسية- عرقية- فكرية) وتؤدي في الغالب إلى التعصب والفرقة والخصومة التي قد تتطور في بعض الأحيان إلى السب والشتم، وربما الضرب وإشهار السلاح الأبيض داخل المسجد. يقول سليماني إن بقاء أئمة المساجد في أوروبا يمثل إشكالية كبرى، حيث يحدث خلاف بين أهل المسجد، وقد تكون مواقف الإمام وخطبه مصدر خلاف كذلك، إضافة إلى إشكالية لجان تسيير المساجد، فبعضهم يُمضى فترة طويلة على رأس المسجد، في ظل عدم كفاءته، ما يسبب انفلاتًا وحالة من عدم النظام، مضيفًا أن بعض رؤساء المساجد انشقوا عن المؤسسة الدينية التي يتبع لها المسجد مع مجموعة من أتباعه ليؤسسوا مسجدًا جديدًا، فقط لأنهم أحسوا أن الرئاسة ستفلت من أيديهم أو قد أفلتت بالفعل. ويتفق الجميع على أن الأزمات السابقة تحول دون تحقيق أي إنجاز حقيقي في علاج أزمة الحالة الإسلامية في أوروبا، وبالتالي يعيق جهود ضبط الخطاب الديني ويقوض الجهود التي تقوم بها السلطات والمؤسسات غير الأوروبية كالأزهر الشريف. [caption id="" align="aligncenter" width="1000"] إسلاميون في فرنسا[/caption]

توافقي.. ليس وسطيًّا!

من ناحيته، يحدد عبد العلي مأمون، مدير دار الثقافة الإسلامية بفرنسا وإمام وخطيب في مساجد باريس وضواحيها منذ 30 عامًا، الخطاب الديني الذي تحتاج إليه فرنسا والدول الأوروبية بـ"الخطاب التوافقي"، الذي ينسجم مع القيم التي غرستها قديمًا في ما يسمى بـ"قرون الأنوار"، مشيرًا إلى أن هذه القيم تتضمن عدم الانحياز لطائفة دينية أو عقائدية أو فكرية معينة، والدفاع عن حق الإنسان لأنه إنسان وليس لديانته أو جنسيته. وقال لـ"ذات مصر": ينقصنا الكثيرفي خطابنا الديني، وهناك حالة استقطاب واضحة يعززها الأئمة والخطباء الذي يتبنون خطابًا أحاديًّا يُظهر المسلم كصاحب حق على من حوله من أصحاب الديانات الأخرى، فلا يراعون أننا نعيش كأقلية وسط مجتمع توجد فيه نسبة أكبر من غير المسلمين. ولفت مأمون إلى أن بعض الخطباء لا يذكر عن رسول الله سوى الفتوحات والغزوات وقطع رؤوس الكفار أعداء الدين، وهذا الخطاب العنيف ينبغي أن يُزال من المنابر، ونستبدل به إظهار صورة الإسلام الحقيقية مثل الأحاديث "مًن غشّنا فليس منا" و"المسلم من سلم الناس من لسانه ويده"، فلم يقل النبي "مَن غشّ المسلمين"، ما يعني أن هذه الحقوق أيضًا للديانات الأخرى.

كتاب عبد العلي مأمون الإسلام ضد الراديكالية

ويبين مدير دار الثقافة الإسلامية بفرنسا، ومؤلف كتاب "الإسلام ضد الراديكالية"، أن التطرف الديني والراديكالية يبدآن من المنابر التي يعتليها خطباء يحضّون على الكراهية ضد أصحاب الديانات الأخرى، ولا يراعون فقه الواقع، وهذه الأزمة الحقيقية التي لن تُجدي معها الجهود الحالية، فلن تكون فائدة من إرسال الطلاب إلى مصر أو السعودية أو الجزائر إذا لم يكونوا سيتعلمون فقه الواقع، وكيفية إدماج الإسلام في المجتمع المعاصر، ولا بد من مراعاة المرجعيات التي يتبعها المسلمون في أوروبا عمومًا وفرنسا خصوصًا. وفي الإطار ذاته، يدافع الدكتور إبراهيم الهدهد، الرئيس السابق لجامعة الأزهر والمستشار العلمي للمنظمة العالمية لخريجي الأزهر، عن جهود المؤسسة الدينية في تصحيح الأفكار المغلوطة وتأهيل الدعاة في بلاد الغرب لمواجهة الفكر المتطرف. وأوضح الهدهد لـ"ذات مصر" أن الأزهر يركز على تصحيح المفاهيم، ويُركز في جزء كبير من برامجه التدريبية على قضايا الغلو والتكفير والحاكمية والجاهلية، التي يتبناها كثير من الجماعات الإسلامية المتشددة. [caption id="" align="aligncenter" width="800"] الدكتور إبراهيم الهدهد[/caption] وأضاف أن هؤلاء الأئمة يتدربون على كيفية مواجهة التطرف من جهتين، الأولى من يهاجم الإسلام من غير المسلمين، والثانية ممن يتبعون الدين ويخطئون تأويله، فكلاهما يحتاج إلى رد منضبط، كذلك من يستهزئون بالنبي من خلال الرسوم المسيئة ويثيرون حفيظة المسلمين، فالأزهر لم يتوقف عن تدريب الأئمة في غالب بقاع الأرض، حتى بعد تفشي جائحة كورونا صارت هذه الدورات "أونلاين"، مشيرًا إلى أن الأكاديمية العالمية لتدريب الدعاة أيضًا منوط بها تأهيل أئمة الدول الراغبة في إرسال أبنائها: "نتعامل مع الدول من خلال أفرع المنظمة التي أنشأها الأزهر في دول عدة وفق قوانينهم وبموافقة السلطات". وأكد حمد الله الصفتي، مدير إدارة الشؤون العلمية والثقافية بالمنظمة العالمية لخريجي الأزهر، أن الأزهر لديه بالفعل مبتعثون في فرنسا يتبعون مجمع البحوث الإسلامية، لكن لم يُفتتَح فرع للمنظمة العالمية هناك حتى الآن.