هشام النجار يكتب: أعرفكم بعمرو عبد الحافظ قائد مراجعات «الإخوان» بسجن الفيوم

هشام النجار
هشام النجار

عرفت عمرو عبد الحافظ قائد فريق المراجعات الذي يقضي عقوبة مدتها عشر سنوات في سجنه عن طريق شقيقه الذي صار باحثًا متميزًا وصديقًا مهذبًا عماد عبد الحافظ صاحب كتاب (في السجن عرفتُ الإخوان).

عندما خرج عماد من السجن معلنًا مفارقة جماعة الإخوان تنظيمًا وفكرًا ومنهجًا، عرفته وتعرفت من خلاله على شقيقه عمرو عبد الحافظ وعلى تجربته المثيرة وفكره الجديد المميز.

عمرو عبد الحافظ الذي درس الماجستير بكلية دار العلوم تخصص الأدب العربي لا يزال في سجنه بعد قضاء تسع سنوات تقريبًا من العقوبة ومدتها عشر سنوات، وقد اعتمد لإيصال تفاصيل تجربته وتحولاته الفكرية وما واجهه من تحديات ومصاعب ومعوقات على جهود شقيقه عماد الذي سبقه في الخروج من السجن، وعلى زوجته.

قاما الاثنان (شقيقه عماد وزوجته) بتدشين حساب له على «فيسبوك» لعرض خواطره وتعليقاته على الأحداث، وفقًا لقناعاته الجديدة بعد أن اعتزل جماعة الإخوان وأعلن انفصاله الكامل عنها.

عمرو الذي اطلع على مئات الكتب أثناء رحلة تحولاته الفكرية داخل السجن، ومن خلال التعمق في سير التاريخ وتجارب وخبرات المفكرين والرموز والاطلاع على مختلف الآراء والمدارس الفكرية القديمة والحديثة، تلمس طريقه (للخروج من سجن الجماعة) وهو عنوان لمخطوط كتاب له لم يرَ النور بعد، ويبدو أنه لن يستطيع نشره إلا بعد خروجه من السجن، ليخرجا معًا من العتمة إلى الضياء.

الشاب المثابر الذي قاده حظه العثر في السابق للوقوع في فخ جماعة الإخوان دافعًا فاتورة باهظة من أجمل سنوات عمره؛ حيث دُون اسمه كونه أحد عناصر الجماعة النشطة ضمن المتهمين في إحدى قضايا مرحلة الفوضى قبل عشر سنوات، نجح في تشكيل مجموعة تمرد على النهج والفكر الإخواني، يميزها أنها تسائل وتنقد جذور وأصول الأفكار والمفاهيم المُؤسِسَة، وليس فقط الأخطاء والخطايا السياسية.

عرفتُ من خلال مناقشاتي مع عماد عبد الحافظ أن فكرة المراجعة جاءته وشقيقه الأكبر عمرو بدافع ذاتي دون تدخل من أي طرف، وأنهما كونا مع زملائهما فريقًا بحثيًا ومائدة مستديرة تناقش كل تفاصيل المشروع، مستفيدين من مؤلفات لخالص جلبي وجودت سعيد وجاسم سلطان وسعد الدين العثماني وأسامة الأزهري، وغيرهم.

مراجعات عمرو عبد الحافظ ورفاقه هي مفاصلة كاملة لمنهجي حسن البنا وسيد قطب معًا، لذا أصبحت أفكارهم بعدها على النقيض من أفكار الإخوان، وصاروا في خلاف جذري مع الجماعة، حتى كأنهم لم يعتنقوا أفكارها يومًا، وهذا هو ما يميز تجربتهم عن تجارب البعض من المنشقين عن الجماعة.

ذلك لأن هناك من ترك جماعة الإخوان وظل وفيًا لأفكار حسن البنا رافضًا سيطرة القطبيين مثل كمال الهلباوي رحمه الله، وهناك من تركها لخلاف حول الوسائل والأدوات مثل عبد المنعم أبو الفتوح ومجموعة حزب الوسط، ممن رأوا ضرورة تنويع الوسائل لكنهم لم ينخلعوا عن أصل الفكرة الإخوانية.

وتراجع كثيرون ممن انضموا لتيار مراجعات سجن الفيوم في منتصف الطريق إما لضغوط أو لرهبة مساءلة قناعات باتت لديهم في عداد المقدسات، لذا قل المتحمسون في المراحل النهائية ولم يستمر إلا من هم أكثر جرأة وعمقًا وإخلاصًا للفكرة وإدراكًا للرؤية، وهم من قرروا مغادرة الجماعة واكتمل لديهم مشروع فكري متماسك.

برأيي يعود النجاح النسبي لتجربة مراجعات الجماعة الإسلامية المصرية في تسعينيات القرن الماضي لمساندة الجهاز الأمني لها بعدما وثق البعض من قادته فيمن أطلقوها (جناح الشيخ كرم زهدي والدكتور ناجح إبراهيم)، ولكونها صادرة عن قادة الجماعة التاريخيين وليسوا أفرادًا عاديين قد يصفهم البعض بالمنشقين ضعيفي التأثير.

اختلف الحال بالنسبة لجماعة الإخوان التي يرفض قادتها فكرة المراجعات والاعتراف بارتكاب أخطاء ومن ثم تصويبها، وهو ما يعدونه من المحرمات، وهؤلاء يتبعهم أعضاء عقولهم متوقفة عن التفكير داخل أطر تنظيمية لا يبرحونها، معتقدين أن الجماعة هي الحق المطلق وأن المخالفين خصوم للإسلام وأن النقاش غرضه فتنتهم عن (طريق الحق).

هناك تيار داخل الجماعة لا يزال تنظيميًا يؤمن بأفكارها لكنه مقتنع بأن قيادة الجماعة فشلت في إدارتها وتسببت بأخطائها في أزمتها الحالية.

هؤلاء أصبحوا أكثر قناعة بأن هذه الجولة ليست لهم، وأن الدولة قد سيطرت تمامًا، لذا باتوا أشد قناعة بتقديم تنازلات والتراجع خطوات للوراء لعل وعسى تقبل الدولة دعوتهم للمصالحة، وهؤلاء لا يشغلهم الآن إلا إنقاذ أنفسهم سواء من التشتت والتشرد والتيه بين دول العالم أو من غياهب السجون والخروج بأمان.

يحدث هذا كله في ظل فقدان قيادة قوية موحدة لجماعة الإخوان، قادرة على اتخاذ قرار مراجعات شاملة؛ والعائق الرئيسي بعد عدم ميل الإخوان عمومًا للاعتراف بالخطأ والمراجعة والتصويب، هو انقسامها وتشرذمها وصراعاتها الداخلية وتوزع قرارها بين أكثر من رأس.

ويظل تأثير تيار المراجعات ضعيفًا في توجيه مسار الجماعة وتحديد خياراتها المستقبلية، بالمقارنة بالتعامل مع الكتلة التنظيمية التي تعارض القيادات سياسيًا وترى ضرورة إصلاح التنظيم وإقناع شبابه بالتخلي عن العنف والنشاط السري ومراجعة المواقف السياسية الحادة التي تبنتها الجماعة منذ يونيو 2013م. 

قال عمرو عبد الحافظ أن هناك من يسير معه إلى نهاية مرحلة تقييم الأداء السياسي لقادة الجماعة ونقد مواقف الجماعة السياسية منذ يناير 2011م وحتى الآن، لكنهم يرفضون الانتقال للمرحلة التالية التي يعالجون خلالها المنطلقات التأسيسية لفكر الجماعة منذ أسسها حسن البنا في العام 1928م.

ولفت إلى أن الأقرب لتجربتهم هي تجربة الإسلاميين في المغرب واصفًا إياها بالملهمة لهم؛ لأنهم بعد تبنيهم أفكار الإخوان قدموا في ثمانينات القرن العشرين مراجعات جريئة وأطروحات تجديدية باعدت المسافة بينهم وبين الفكرة الإخوانية (وفقًا لتصوره).

اجتاز عمرو عبد الحافظ أثناء إنجازه لمشروع تحولاته الفكرية عقبة الانفعالات الذاتية التي صاحبت فشل تجربة الحكم الإخوانية، حيث وجد ألا مفر من التجرد منها وأن يبدأ بنفسه وينتقدها دون حرج.

وواجهته عقبة رفقاء السجن حيث لم تكن استجابتهم لفكرة المراجعة سهلة، فقد وقفوا ضدها مدعومين من قيادة الإخوان داخل السجن، ووصلته تهديدات تنذره إن أصر على الاستمرار وحاولوا تنفيذ بعضها؛ وشملت الاعتداء بالألسنة والأيدي، إضافة إلى خطة تشهير محكمة هدفت لدفعه إلى التراجع.

اقتنع البعض من شباب الإخوان المحبوسين بسجن الفيوم بمرور الوقت بالمراجعات وآزروا عمرو وساندوه، لكنهم جميعًا ظلوا في حاجة لمن يقف بجانبهم ويحميهم ويروج لتجربتهم، كما انتظروا لسنوات أن يلمسوا ويجدوا إجراءًا تجاههم يشعرهم فعليًا أنهم باتوا خارج أسوار جماعة الإخوان وإن ظلوا داخل أسوار السجن.

إذن نحن أمام تجربة مهمة وثرية ينبغي تسليط الضوء عليها ولفت النظر إلى أن هناك مجموعة شباب يقودهم عمرو عبد الحافظ بسجن الفيوم لم يعلنوا فحسب الخروج من سجن جماعة الإخوان، لكنهم كذلك نقدوا نظام الجماعة ومناهجها وأصولها الفكرية.

كثيرون دخلوا السجن ولم يتعلموا من التجربة شديدة الوطأة شيئًا مفيدًا، وأهم دروس السجن كونه يربي الإنسان على التواضع، وفي حوار قديم لنيلسون مانديلا مع أوبرا وينفري، قال كنت مغرورًا في بدايات شبابي؛ لكن السجن ساعدني للتخلص من الغرور الذي لم يجلب لي شيئًا إلا الأعداء.

تلك أتعس صفات بعض قادة تيار الإسلام السياسي في عمومه؛ حيث تستمع إلى الواحد منهم –خاصة القيادات- وهو يكاد ينفجر بالتكبر والاستعلاء والانتفاخ، لكنه منفوخ بمخزون من التصورات الخائبة الخيالية التي لا أصل لها في دين ولا معقولية لها في سياسة.

كأني وأنا جالس مع عماد عبد الحافظ (شقيق عمرو الأصغر) عندما قابلته بمعرض الكتاب الماضي وقبل الماضي، كأني أقرأ لموباسان روايته "صديقي الجميل"، وفيها يلبي دعوة صديق قديم للعشاء وبما أنه فقير فقد اكترى كسوة مناسبة، وعندما وصل منزل صديقه نظر في المرآة فشاهد شخصًا مختلفًا أنيقًا كأنه ينظر لشخص غريب لم يره من قبل، ثم أدرك بعدها أنه هو نفسه، متمتمًا "ما أجمل هذا الابتكار".

لقد اكتشف في نفسه أيضًا أنه يتحدث بلباقة ويبهر الضيوف، إنه وجد ذاته أخيرًا بعيدًا عن مشاهد الماضي الحزينة الكئيبة التي عزلته عن الحياة.

وعمرو عبد الحافظ كذلك وأفراد مجموعته بسجن الفيوم.. لقد صاروا شخصيات مختلفة تمامًا وأظنهم صادقين ومخلصين في توجههم الجديد.. أفلا يستحقون تعاملًا مختلفًا؟

أتمنى أن ينظر المسؤولون والقائمون على لجنة العفو الرئاسي إلى هذه الحالة، ويدرسوا وضعية وظروف عمرو عبد الحافظ ومن معه، والنظر فيما إذا كانت تنطبق عليهم شروط الحصول على عفو رئاسي من عدمه، ليقضي السنة الأخيرة من عقوبته بين أهله وزوجته وأصدقائه... أتمنى ذلك من كل قلبي.