روسيا تُعيد صياغة حضورها: قدم في ليبيا.. وعيون على إفريقيا!

ذات مصر
  أثبتت الشركة العسكرية الخاصة التابعة للدولة الروسية والمعروفة باسم "مجموعة فاجنر" أنها بارعة في الاستفادة من حالات عدم الاستقرار أو ضعف المؤسسات من أجل تعزيز النفوذ الروسي في الخارج. فقد عملت روسيا الاتحادية ومجموعة فاجنر طيلة عام 2020 على دعم وتمكين الجنرال خليفة حفتر، الذي يقاتل حكومة الوفاق الوطني، الحكومة الليبية المُعترَف بها في الأمم المتحدة، من أجل السيطرة على الأراضي الليبية. وعلى غرار ممارساتها في جمهورية إفريقيا الوسطى والسودان، أنشأت مجموعة فاجنر قواعد لها ونشرت القوات التي تساعد حفتر على تعزيز المصالح الروسية في شمال إفريقيا. وفي الوقت الذي يتراجع فيه الدور الأمريكي في المنطقة، سيسمح موقع حفتر في ليبيا لفاجنر وللدولة الروسية بالاستفادة من حالة عدم الاستقرار التي تضرب المنطقة، وتحديدًا منطقة الساحل الإفريقي، وقد يؤدي إلى إنشاء قاعدة بحرية روسية على البحر الأبيض المتوسط. [caption id="" align="aligncenter" width="1000"] قوات روسية[/caption]

الحرب الأهلية الليبية

اندلعت الحرب الأهلية في ليبيا منذ العام 2014، في أعقاب تدخل حلف الناتو عام 2011 الذي أدى إلى الإطاحة بمعمر القذافي. وسرعان ما جذب الصراع الليبي انتباه مختلف القوى الإقليمية، فدعمت المملكة العربية السعودية ومصر والإمارات العربية المتحدة حفتر، في الشرق الليبي الغني بالنفط، بالسلاح والمال، ورأت فيه مناهضًا قويًّا للإسلاميين. في غضون ذلك، ظهرت تركيا في المشهد كداعم قوي لحكومة الوفاق الوطني في طرابلس، متظاهرةً بأنها تريد دعم حكومة صديقة من الإخوان المسلمين، ولكنها مدفوعة في الحقيقة باحتياطيات الطاقة الكامنة في أعماق المتوسط. لكن روسيا نظرت من زاوية أخرى، فباستخدام حفتر لتقوية نفوذها في شمال إفريقيا، عززت الشركات الروسية صفقات الطاقة في شرق ليبيا، وقدم فلاديمير بوتين مقترحات لحفتر بشأن إنشاء ميناء روسي في بنغازي. وبالتالي، استضافت روسيا حفتر في زيارة دبلوماسية عام 2015 وبدأت في تقديم مساعدات صغيرة له. في عام 2018، ظهرت شائعات عن تقديم المخابرات الروسية المال والأسلحة والتدريب لقوات حفتر. وفي عام 2020، افتتحت مجموعة فاجنر قواعد لدعم حفتر تحتوي على دفاعات جوية روسية الصنع من طراز SA-22 وطائرة شحن عسكرية روسية IL-76 و1200 عنصرًا من مقاتلي فاجنر. تصدّر مقاتلو فاجنر جهود حفتر في أوائل عام 2019، ما يشير إلى أهمية فاجنر في حملته العسكرية. ومع ذلك، أدى دعم فاجنر إلى زيادة التدخل التركي، ما أدى في نهاية الأمر إلى كسر حصار حفتر لطرابلس وتجميد الصراع. [caption id="" align="aligncenter" width="1000"] الجيش الليبي[/caption] وعلى الرغم من فشل حفتر في الاستيلاء على طرابلس، بسبب تدفق الأسلحة وطائرات الدرونز التركية والمقاتلين السوريين المدعومين من تركيا، فقد أدى اتفاق وقف إطلاق النار في 23 أكتوبر/ تشرين الأول 2020 إلى تعزيز مكاسب أطراف الصراع، وأبقى على وجود حكومة الوفاق الوطني في الغرب (تسيطر على طرابلس)، وسيطرة حفتر على الشرق. لم يفرض حفتر سيطرته الكاملة على ليبيا، بسبب الجهود التركية، لكنه لا يزال يسيطر على محيط واسع من شرق ووسط ليبيا. وعلى الرغم من أن هذه النتيجة ليست هي المفضلة لدى حفتر، فإنها تمكّن روسيا من الحفاظ على وجود نشط لها، خاصة الآن بعد أن حدد اتفاق وقف إطلاق النار مناطق نفوذ الجانبين. كما سيطرت فاجنر مؤخرًا على مطار سرت ونشرت فيه منظومة الدفاعات الجوية، وهو أمر بالغ الأهمية للخدمات اللوجستية في وسط ليبيا. وبصرف النظر عما إذا كان حفتر يسيطر على ليبيا كلها أم لا، فإن فاجنر تمتلك إمكانية الوصول إلى القواعد في الشرق والوسط الليبي، وتسيطر الآن على مطار مهم، ما يُسهِّل القدرات اللوجستية المتزايدة في جميع أنحاء شمال إفريقيا. لقد نفّذت الدولة الروسية بالفعل تدخلات عبر حدود الساحل المليئة بالثغرات من مالي إلى النيجر وبوركينا فاسو. فمن خلال استخدام قواعدها الأساسية ونفوذها في ليبيا واتباع نموذجها القائم على العمل السري في مناطق عدم الاستقرار، تجد فاجنر نفسها الآن في وضع يسمح لها بتمكين روسيا من منطقة الساحل، ما يزيد الوجود الروسي في منطقة أخرى تتجاهلها الولايات المتحدة.

المبادرات الروسية في الساحل

سمح سقوط القذافي لمرتزقة قبيلة الطوارق بالانتشار عبر شمال إفريقيا بأسلحة من ترسانة القذافي وإعلانهم "دولة أزواد المستقلة" في شمال مالي. بعد أن تحالفت بعض عناصر الطوارق مع جماعة أنصار الدين التابعة لتنظيم القاعدة، تدخلت فرنسا بناء على طلب من الحكومة المالية في عملية "برخان". ومع ذلك، انتشرت الجماعات الإرهابية أكثر، واندمجت في نهاية المطاف إمّا في مجموعة تابعة للقاعدة: جماعة نصر الإسلام والمسلمين (JNIM) وإما في تنظيم الدولة الإسلامية في الصحراء الكبرى (ISGS). [caption id="" align="aligncenter" width="1000"] بوتين ووزير الدفاع الروسي[/caption] وفي منطقة الحدود الثلاثية بين مالي وبوركينا فاسو والنيجر، سيطرت هذه التنظيمات على مناجم الذهب وقطعان الماشية والموارد المحلية في أثناء القتال بعضها ضد بعض، وضد قوات الأمن الحكومية وبعثة الأمم المتحدة لحفظ السلام وقوات عملية برخان التي لا تحظى بدعم شعبي والمكونة من 5100 جندي فرنسي. عزّزت روسيا أيضًا الجهود الثنائية مع دول الساحل، بعد أن وافقت على اتفاقيات مكافحة الإرهاب وجهود التدريب العسكري مع كلٍّ من النيجر وبوركينا فاسو ومالي في الفترة من 2017 إلى 2019. وفي أغسطس/ آب 2020، لم تتردد روسيا في تأييد حكومة ما بعد الانقلاب في مالي، حيث اجتمعت مع قادة انقلاب أغسطس/ آب 2020 بعد أيام قليلة من نجاحهم، ووافقت على إمداد جيشهم بالسلاح. يأتي النشاط الروسي المتزايد في المنطقة في الوقت الذي تلمّح فيه الولايات المتحدة إلى تقليص دعم عمليات الاستخبارات والمراقبة والاستطلاع لعملية برخان. وبحسب العقيدة التي كانت تُمارس سابقًا، تقوم روسيا بإبرام صفقات أسلحة ثنائية لملء فراغ النفوذ، ومن خلال قوات حفتر وفاجنر، يمكن لروسيا الوصول إلى مطار الخادم في شمال شرق ليبيا ومطار سرت والقواعد والشبكات اللوجستية في وسط ليبيا. بموجب اتفاق وقف إطلاق النار، احتفظ حفتر بهذه المناطق، ما وفر لفاجنر والدولة الروسية منصة انطلاق تنطلق منها إلى منطقة الساحل.

نشاط فاجنر السابق في منطقة الساحل

أثبت النشاط والتمركز الروسي في ليبيا وجمهورية إفريقيا الوسطى والسودان أهميته للعمليات الروسية في منطقة الساحل. في جمهورية إفريقيا الوسطى، تفاوض يفجيني بريجوجين، رئيس شركة فاجنر، على إبرام عقود تعدين مناجم ألماس مع كل من الحكومة والجماعات المتمردة، ووظّف عناصر فاجنر لتأمين المناجم، وساعد في تعيين ضابط المخابرات العسكرية الروسي السابق، فاليري زاخاروف، كمستشار للأمن القومي للرئيس فوستين توديرا. وبالمثل، ساعدت فاجنر في دعم نظام عمر البشير المحكوم عليه بالفشل في السودان مع تقديم الخدمات الأمنية لشركة تعدين الذهب M-Invest المملوكة لبريجوجين. وأخيرًا، دعت روسيا الاتحادية لتحقيق السلام في ليبيا، مع توجيه الدعم اللوجستي لفاجنر وحفتر، وهو تناقض كبير يُظهِر كيف تسمح فاجنر للدولة الروسية باستغلال حالات عدم الاستقرار. [caption id="" align="aligncenter" width="1000"] الفاغنر الروسي[/caption] أظهرت المناطق غير الخاضعة للحكم حول حدود النيجر ومالي أنها ساحات خصبة لمخططات بريجوجين لتعزيز السياسة الخارجية الروسية سرًّا. فعن طريق توظيف مكافحة الإرهاب وتقديم الأمن لشركات التعدين كمبررات، يمكن لفاجنر أن تنقل المقاتلين بسهولة من ليبيا إلى الساحل، عبر مطار سرت أو غيره من المراكز اللوجستية في شمال إفريقيا. ومن ثَمَّ، يمكن لمنتسبي فاجنر العثور على وظائف في مجال الأمن لبعض شركات تعدين الذهب التابعة لبريجوجين في شمال مالي أو النيجر. بالتزامن مع ذلك، فإن وجود فاجنر سيسمح لها بالمشاركة في خوض عمليات تحقيق الاستقرار ضد جماعة نصرة الإسلام والمسلمين أو تنظيم الدولة الإسلامية في الصحراء الكبرى، وفي تدريب القوات المحلية على الأسلحة الروسية، وهي الجهود التي نفّذتها فاجنر بالفعل في جمهورية إفريقيا الوسطى. ولأن الماليين ينتقدون على نحو متزايد عملية برخان، ويرون أنها وسيلة جديدة لتحقيق الطموح الكولونيالي الفرنسي، فقد اصطفت روسيا بنحو ملحوظ إلى جانب شعور الشعب المالي. وعلى الرغم من هذا الاصطفاف، فقد أعلنت روسيا وفرنسا في شهر أكتوبر/ تشرين الأول 2020 رغبتهما في تكثيف التعاون بينهما في مجال مكافحة الإرهاب. ولأن الماليين ينظرون إلى عملية برخان على اعتبارها استعمارًا جديدًا، فإن المساعدة في شكل وجود قوات روسية هناك ستكون مبادرة مُرحَّبًا به من جانب الحكومة الفرنسية، وستكون وسيلة لتحقيق المزيد من النفوذ الروسي. وبعد أن أثبتت بالفعل نفوذها وعززت صفقات الموارد من خلال ديناميكيات الدولة الروسية وفاجنر في ليبيا وجمهورية إفريقيا الوسطى، تجد روسيا نفسها في وضع مماثل مع دولة مالي وغيرها من الدول الساحلية الأخرى. [caption id="" align="aligncenter" width="1000"] بوتين[/caption]

موانئ البحر المتوسط والهجرة

يؤدي زيادة التوغل الروسي في ليبيا إلى إضعاف أمن جنوب أوروبا، وسط توترات تسود الاتحاد الأوروبي. فمن ناحية تمكّن فاجنر روسيا من إنشاء ميناء على البحر الأبيض المتوسط ​​بالمياه الدافئة. ومن نحية أخرى يمكن لروسيا أن تلعب دورًا في تسليح الهجرة الليبية إلى أوروبا. قدمت روسيا بالفعل مقترحات إلى حفتر بشأن إنشاء ميناء في بنغازي، بحيث يمكن أن يهدد الوجود الروسي حرية الحركة بالقرب من قناة السويس، التي تمر بها 12% من التجارة العالمية سنويًّا. وبعد أن رفضت الولايات المتحدة محاولة بناء ميناء في جيبوتي، اتجهت روسيا نحو السودان، مُعلنة افتتاح قاعدة بحرية للدعم اللوجستي في منتصف نوفمبر/ تشرين الثاني 2020. وكما هي الحال في ليبيا، أقامت روسيا علاقات وثيقة بالعديد من عناصر الحكومة السودانية في العشرين عامًا الماضية. ومن خلال النظر إلى شمال إفريقيا كبوابة لزيادة نفوذها الإقليمي، فإن ميناء بنغازي سيسمح لروسيا بفتح منفذ جديد على الحدود الجنوبية لحلف الناتو. حتى الآن، ركز الناتو على الحدود الغربية لروسيا بالأساس، ومن شأن وجود ميناء روسي على الجانب الجنوبي لأوروبا أن يُطوِّق اعتبارات الناتو هذه، ويُغيِّر من التفكير في المنافسة المحتملة بين القوى العظمى. وسيرًا على خطى القذافي، فإن نفوذ روسيا على حفتر قد يشهد أيضًا إعادة تسليح الهجرة الليبية. ففي عام 2010، صرح القذافي بأن "أوروبا سوف تصبح سوداء" ما لم تدفع له إيطاليا 6.3 مليار دولار سنويًّا. توقع القذافي أن الهجرة غير المُقيدة إلى أوروبا، والتي حدثت في نهاية المطاف في العام 2015، ستُثير ردود فعل أوروبية شديدة، حتى إنها صارت قضية حاسمة في تصويت بريكست عام 2016. ومن شأن تشجيع روسيا، أو فاجنر، على تدفق المهاجرين من ليبيا أن يؤدي مرة أخرى إلى إثارة الاضطرابات عبر الاتحاد الأوروبي. إن من شأن وجود اتحاد أوروبي يقوده زعماء قومويون، ويرفض الهجرة المتزايدة، أن يعمل لصالح روسيا، إذ يمكن لروسيا أن تستفيد من الانقسام المتزايد للاتحاد الأوروبي، كما تشهد بذلك مفاوضات خط أنابيب نورد ستريم 2. وربما تصوّرت فرنسا أن حفتر سيستأنف سياسات القذافي القاسية المناهضة للهجرة، لذلك اعتادت على تقديم دعم سري لحفتر. وعلى الرغم من أن روسيا وفرنسا وجدتا نفسيهما تدعمان نفس النظام المتمرد، كانت فرنسا تستهدف ضمان الأمن في جنوبها، في حين سعت روسيا للاستفادة من هذا الأمن لمصلحتها الخاصة.

التداعيات على الولايات المتحدة

يأتي الحراك الروسي الأخير في شمال إفريقيا بعد أن تجاهلت الولايات المتحدة المنطقة بعد دورها في سقوط القذافي. لم يجد النشاط الروسي في ليبيا رادعًا إلى حد كبير منذ العام 2016. كما قدمت روسيا مبادرات إلى المغرب وحافظت على علاقتها الوثيقة مع الجزائر، ولم تظهر أي علامات على إبطاء نشاطها. يبقى التوسع في منطقة الساحل وإنشاء قاعدة بحرية في ليبيا هما الخطوتان المنطقيتان التاليتان لروسيا. وبينما يتزايد النفوذ الروسي، ألمحت الولايات المتحدة إلى سحب قواتها من غرب إفريقيا. وفي الوقت الذي تساعد فيه روسيا فرنسا في عمليات مكافحة الإرهاب، وهو ما يعزز المصالح الأمريكية، تأتي المساعدة الروسية في عمليات مكافحة الإرهاب مصحوبة بشروط، مثل تدريب مرتزقة فاجنر للجنود الماليين بالأسلحة الروسية، وهو ما يأتي على حساب الولايات المتحدة في شمال وغرب إفريقيا. كما يمكن للتأثير الروسي غير المبرر على الجيش المالي أن يجذب مالي إلى مجال نفوذ روسي موسع في شمال إفريقيا، مما قد يؤدي إلى حرمان الولايات المتحدة من أسواق الموارد الطبيعية هناك. ستُشكِّل نجاحات فاجنر أيضًا حالة أخرى لروسيا تستفيد فيها بنحو غير قانوني من المرتزقة كوكيل لسلطة الدولة. إضافة إلى ذلك، ستمنح القاعدة البحرية الروسية في بنغازي روسيا منفذًا متوسطيًّا يهدد قناة السويس أو الجناح الجنوبي لحلف الناتو. وقد زار وزير الدفاع الأمريكي السابق مارك إسبر شمال إفريقيا مؤخرًا، في محاولة لتصحيح حالة التراخي الأمريكي في المنطقة، من خلال إبرام عدد قليل من اتفاقيات التعاون العسكري. ومع ذلك، سوف يتطلب الأمر مساعدة إنمائية أمريكية نشطة، وتعاونًا مع الحلفاء، واهتمامًا دبلوماسيًّا بشمال وغرب إفريقيا، حتى لا تستوعب روسيا شمال إفريقيا بالكامل.