قراءة في خُطَب بوش وأوباما وترامب: تأجيجُ المشاعر.. وشيطنة الأعداء!

ذات مصر
  "عندما تقع أحداث مأساوية، يلجأ الناس إلى قادة حكوماتهم من أجل الطمأنينة والمعلومات والتوجيه". هذه عبارة تلخص بنية ماكينة صناعة الرأي العام في الديمقراطية الأمريكية الأكثر تأثيرًا في العالم، رغم أنها ربما كانت مفاجئة لكثيرين ممن يتصورون أن وسائل الإعلام ومنظمات المجتمع المدني ومؤسسات البحث تحرك الديمقراطية الأمريكية. في ضوء العبارات السابقة يأتي كتاب جابرييل روبين، أستاذ مساعد بجامعة ولاية مونتاكلير الأمريكية، حاصل على دكتوراه في العلوم السياسية من معهد ماساتشوستس: "الخطاب الرئاسي الأمريكي حول الإرهاب في عهد بوش وأوباما وترامب: معايرة وتضخيم التهديدات بعد 11 سبتمبر (أيلول)" والذي صدر حديثًا عن دار نيتشر، سويسرا، 2020. يُسلط الكتاب الضوء على مركزية دور الخطاب الرئاسي حول الإرهاب، والكيفية التي يصك بها المصطلحات الرئيسة، وكيف يحدد الأطر التفسيرية الحاكمة، لاسيما أن الدراسات السابقة تؤكد أن الأزمات الخارجية يمكن أن تقود الناس إلى الالتفاف حول الرئيس لمجرد أنه المسؤول. وعلى سبيل المثال، لم يكن أندرو جونسون يجد مشكلة في توصيل رسائله من خلال الخطب والصحف والنشرات، وقد استُبدِل مكان هذه الأشكال القديمة YouTube وTwitter، ثم أصبح Facebook: "ساحة البلدة"! [tie_slideshow] [tie_slide] [/tie_slide] [tie_slide] [/tie_slide] [tie_slide] [/tie_slide] [tie_slide] [/tie_slide] [tie_slide]   [/tie_slide] [/tie_slideshow]

كتاب الخطاب الرئاسي الأمريكي حول الإرهاب

اللجوء إلى الرئيس

بُني الكتاب بصورة أساسية على تحليل محتوى الخطب الرئاسية بين سبتمبر/ أيلول 2001 وفبراير/ شباطط 2019. ويشير الكتاب إلى أن جورج واشنطن، الرئيس الأول، أسس "الممارسة الخطابية المباشرة"، والتي كانت أقل أهمية على مستوى الرؤساء الثلاثة الذين اتخذهم الكتاب كإطار موضوعي، في حين، بشَّر وودرو ويلسون بطريقة جديدة للنظر إلى الرئاسة، معتبرًا أن دور الرئيس هو "تفسير رغبات الناس". لكن في القرن العشرين، صارت الخطب الرئاسية ملهمة أو موجهة للسياسة وانتقل كثير منهم من التواصل الكتابي إلى الخطاب، ومنذ الرئيس وودرو ويلسون، صار الخطاب أداة رئيسة في الحكم، وفي تحول أساسي، أصبح الرؤساء أكثر نشاطًا في التحدث إلى الجمهور. والرئاسة يمكن أن تلهم الجمهور أو تثيره، ويمكنها شرح السياسة وتحريك الرأي العام، والتصريحات الرئاسية المتكررة يمكن أن تحرك الرأي العام من 5 إلى 10 نقاط مئوية خلال أشهر. والإقناع الرئاسي أمر بالغ الأهمية للديمقراطية الأمريكية، وبالنسبة إلى الحكومة الفيدرالية، فإن إدارة مجتمع كبير غير متجانس تتطلب أن يتكلم "البيت الأبيض"، لأن الخطاب الرئاسي أداة قوية، وهذا الخطاب يمكن أن يسعى إلى "تحفيز الجمهور وشيطنة العدو" لتحتشد الجماهير خلف القيادة خلال الأزمات. [caption id="" align="aligncenter" width="1000"] جورج بوش[/caption] و"عندما تقع أحداث مأساوية، يلجأ الناس إلى قادة حكوماتهم من أجل الطمأنينة والمعلومات والتوجيه"، وبعد المعلومات الأولية، سيرغب الناس في معرفة كيف ستمنع القيادة حدوث مآسٍ مماثلة في المستقبل. وتسمح فترة التعريف هذه بـ"التفسير" فالقادة يلونون ما سيشاهده الجمهور عن الحدث، وبالتالي يملون الكيفية التي ينظرون بها إلى المأساة. وكقادة رأي، يقدم الرؤساء "معنى للأحداث من خلال تفسيرها"، وهذا الدور التفسيري حاسم، والرؤساء لديهم سلطة السيطرة على الأساطير أو السرديات التي تغذي الفهم العام للموضوع، والقادة يمكنهم –ببساطة– صنع الحقائق عن طريق "الحديث عنها على أنها صحيحة". والسياسة العامة لا تتعلق بالأهداف بل بالأحرى بالتفسيرات المزعومة للمشكلات، التي تُقدَّم على أنها "حقيقة"، مدفوعة بالأيديولوجيات. وعندما يصنع الإرهابيون مأساة يكون لون الخطاب رماديًّا بسبب قضايا التعريف التي تحجب: من الإرهابي؟ وما الإرهاب؟ والعنف ذو الدوافع السياسية تعريف مقبول للإرهاب، وبعض الجماعات قد يصنف الأفعال التي يكرهها على أنها إرهابية.

ثلاثية الإثارة والتحفظ والعداء

يعمل الخطاب الرئاسي عن الإرهاب على تأطير كيفية النظر إلى القضية، أي أنه "المايسترو". وبرشاقة يُلخص "روبين" السمة المميزة لخطاب 3 رؤساء بالقول: خطاب بوش استهدف إثارة حروب، وخطاب أوباما تحفَّظ، وخطاب ترامب ربط الموضوع بالهجرة، وبالإسلام كدين. وفي انتقاد ضمني، أورد مؤلف الكتاب وصف أحد الباحثين عن الرئاسة الأمريكية قائلاً: "حكومتنا الدستورية، الآن تحركها البلاغة التي تهدف إلى تأجيج المشاعر".

تحولات المفاهيم والوسائط.. والخطاب

الرئيسان جورج دبليو بوش ورونالد ريجان كان رد فعلهما متشابهًا على تهديد الإرهاب، وركزا على "الحرب الاستباقية"، وسعى كلاهما لربط الإرهاب بدولٍ راعية، وسعَيا للانتقام من الأعداء، وحاولا سرًا زعزعة استقرار الأنظمة المناوئة، وبالتالي فإن ريجان وجورج دبليو بوش زادا "ضبابية الخط الفاصل بين الهجوم والدفاع"، وعملا على "نزع الصفة الإنسانية عن الآخر الإرهابي". التحولات في الوزن النسبي لتأثير الوسائط، وصولاً إلى تغوُّل السوشيال ميديا، أسهمت بقوة في تحوُّل منصات الخطاب الرئاسي، وقد يكون هذا سبب اختيار ترامب وسائل التواصل الاجتماعي للتواصل مع أنصاره. وإحدى المفاجآت التي يحملها الكتاب، أن الإعلام ليس له تأثير مستقل في الأحداث، بل هو وسيط (حرفيًّا) دوره تيسير التواصل بين الحكومة والجمهور. ويؤخذ في الاعتبار أن الجمهور على نحو متزايد يعتمد على وسائل التواصل الاجتماعي لاستقاء الأخبار، وهي "مصادر أولية". والوصول إلى المعلومات المتعلقة بالإرهاب أمر بالغ الأهمية وهي مقيدة من الحكومة، ما يجبر الجمهور على الاعتماد على أقوال الحكومة وافتراضاتها. [caption id="" align="aligncenter" width="1000"] رونالد ريجان[/caption]

فاعلية الخطاب الرئاسي

وبحسب نتائج روبين، فإن المصداقية أمر بالغ الأهمية لفاعلية الخطاب الرئاسي، وقد تقوض فاعلية هذا الخطاب. وبالتالي يجب أن يكون القادة جديرين بالثقة، وأكفاء، وأن تتسق كلماتهم مع الواقع كما يدركه الجمهور. وبعد 11 سبتمبر/ أيلول، تم شن حرب عالمية على الإرهاب، وبالنظر إلى طول فترة الدراسة البالغ 17 عامًا، هناك الكثير من التباينات. ويعود مؤلف الكتاب بالذاكرة إلى الرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلينتون (1996) الذي رسم خطًا فاصلاً بين الأصوليين الإسلاميين وبين المعتدلين، وهو ما روَّج له لاحقًا على نطاق واسع جون إسبوزيتو وآخرون بعد 11 سبتمبر/ أيلول، وكان مؤداه الوقوف ضد الإرهاب وضد الأصولية المدمرة، والوقوف مع أهل الإسلام الراغبين في أن يكونوا أعضاء في المجتمع العالمي، وفقًا للقواعد التي يجب على جميع المتحضرين اتباعها. إذًا، كان خطاب كلينتون يشبه إلى حد كبير خطاب أوباما. كما كان الرئيس الأمريكي جورج بوش حريصًا على الفصل بين الإرهابيين والإسلاميين المتطرفين من أولئك الذين يتمسكون بـ"تعاليم الإسلام السلمية". وبدأ بوش في أعقاب الهجمات مباشرة تحديد المواضيع التي سوف تتكرر طوال فترة رئاسته بخصوص الإرهاب والتي تضمنت: (الحرب معركة بين الخير والشر ولن تنتهي حتى "تهزم كل جماعة إرهابية ذات امتداد عالمي" وتاريخيًّا)، واستعار بوش رواية من "الحرب الباردة"، لتمثل الحرب على الإرهاب معركة أيديولوجية بين الحضارة و"الشر"، ونشبت "حرب ضد أيديولوجية شريرة" بدلاً من "حرب ضد جماعة مسلحة"، وفي 1 مايو/ أيار 2003، أعلن بوش أنه "من باكستان إلى الفلبين إلى القرن الإفريقي، نحن نطارد القتلة". وفي 47 خطابًا في 2001 و2002، وفي 45 خطابًا في عامي 2005 و2006، وفي 33 كلمة في عامي 2007 و2008/ 2009، وصف الإرهاب بـ "التهديد الوجودي". ومن الملاحظ أن دور الرئيس بوش حاسم لأنه أنشأ العناصر الموضوعية الرئيسة في ما يتعلق بالتهديد الإرهابي. ويمكن النظر إلى نهج أوباما على أنه نقيض نهج بوش، في حين يمكن النظر إلى نهج ترامب على أنه عودة لأطروحة بوش. ورغم أن التهديد كان حقيقة، فإن خطابات بوش (كما تظهر البيانات) ضخمت التهديد وعززت مشروعية شن حروب. وجرى ربط التهديد بالأنظمة المارقة، فحصل بوش على دعم جماهيري لخطط غزو العراق. والتهديد الإرهابي في خطاب بوش كان: "شريرًا ومرنًا ووجوديًّا"، وخطابه يفصل بين "المتحضرين وغير المتحضرين"، أولئك الذين يدافعون عن الحرية الاقتصادية وأولئك الذين يهاجمون أسلوب الحياة الأمريكي، أولئك الذين يدعمون الديمقراطية وأولئك الذين يرفضونها.

خطاب هادئ ومزيد من الدم

ترشح باراك أوباما عام  للرئاسة الأمريكية عام 2008 ببرنامج مناهض لبوش ولحرب العراق. وقد كُرِّمه بجائزة نوبل للسلام مع الإشادة بمقاربته الأكثر تسامحًا مع المسلمين، وأبرز ملامحها: "خطاب القاهرة" (4 يونيو/ حزيران 2009). حين قلَّل من أهمية التهديد الإرهابي، وألقى خطابات أقل بكثير عن الإرهاب مما فعل بوش، وكان مضمون خطاباته أكثر صراحة وتحديدًا. وهدوء أوباما النسبي بشأن التهديد الإرهابي قاد سلوكه بوضوح، وقد كان أكثر حرصًا وكانت كلماته عن الإرهابيين أكثر دقة، وبذلك انحرف خطابه عن خطاب بوش في نواحٍ عديدة. [caption id="" align="aligncenter" width="1000"] أوباما[/caption] وقدم أوباما رؤية جديدة للحرب على الإرهاب، وكان "الموقف الأكثر شهرة في السياسة الخارجية" لأوباما معارضته الشديدة لحرب العراق، وأشار إلى أن الفقر في البلدان الأخرى يمكن أن يؤدي إلى ظهور التطرف والإرهاب. وفي مقابل تحريض جورج دبليو بوش على حملة صليبية كان خيار أوباما: ضبط النفس. وفي الحقيقة فإن قصة الرئيس الذي أحدث تحولاً في حرب الإرهاب في الاتجاه المعاكس تمامًا لسلفه غير صحيحة. ففي الواقع، انتهى الأمر بأوباما إلى الحفاظ على جزء كبير من سياسات جورج دبليو بوش وممارساته، وضمن ذلك "جوانتانامو"، وبعد أن أنهى العراق انجر إلى الحرب مرة أخرى بـ"داعش". وبين عامي 2011 و2014، ألقى أوباما 45 خطابًا فقط عن الإرهاب، وأعلن أن تنظيم القاعدة "في الطريق إلى الهزيمة" وأن أحداث 11 سبتمبر/ أيلول أخرى غير مرجحة، وقد ألقى أوباما 15 خطابًا عن الإرهاب في عام 2011، و9 في عام 2012، و10 خطابات في عام 2013، و11 عام 2014. وألقى 22 خطابًا في عام 2015 و18 خطابًا في عام 2016. والتغير الأكبر بين أوباما وبوش أن أوباما لم يعد يصف الإرهابيين بأنهم "أشرار" أو "قتلة" أو "برابرة". بدلاً من ذلك، تمسك إلى حد كبير بتعبيرات محددة مثل: القاعدة وجبهة النصرة وطالبان. لكن في عام 2015، كانت المرة الوحيدة التي أشار فيها أوباما إلى الإرهابيين بـالقتلة" واصفًا أيديولوجية داعش بـ"عبادة نهاية العالم".

خطاب كراهية الأجانب

صعود ترامب واستخدامه تويتر منصة لـلتواصل مع الجمهور، قلب الخطاب الرئاسي رأسًا على عقب، وكان أقل صقلاً وأكثر مباشرة، وتخطَّى في خطابه كل ما صرح به أوباما أو بوش. وقلب الخطاب الذي تبناه ترامب عقودًا من اللياقة الرئاسية لتحل محلها طريقة فجة، وقد كان من ملامحها كراهية ترامب للمسلمين، وكان يساوي بينهم وبين الإرهابيين. وفي هذا السبيل دمج ترامب التهديد الإرهابي بـ"كراهية الأجانب"، وعلى سبيل المثال، ادعى أن 27% من مسلمي العالم "متشددون للغاية"، واقتبس استطلاع لرأي عبر الإنترنت لـ600 من المسلمين، وجاء في النتائج أن 25% من المسلمين الأمريكيين يبررون استخدام العنف كجزء من الجهاد العالمي، وأن 51% منهم يوافقون على منح مسلمي أمريكا خيار أن  يُحكموا بالشريعة. والأرقام التي يقتبسها ترامب، مستقاة من عينة غير علمية. [caption id="" align="aligncenter" width="1000"] دونالد ترامب[/caption] ترامب كان يعتقد أن الإسلام الراديكالي السبب الوحيد للإرهاب، ومثل هذا الرأي يتجاهل العوامل الكامنة وراء الإرهاب. وقد قدم ترامب 39 خطابًا في 2017 و43 في 2018 حول الإرهاب، أعاد فيها تقديم خطاب الخوف الذي أسسه بوش، لكنه أضاف إليه عنصر مناهضة المهاجرين. في عام 2017، كان ترامب يصف خصوم أمريكا بـ"الإسلاميين الراديكاليين الإرهابيين" (6 خطب)، و"الأشرار" (3 خطب)، أو ربطهم بالمهاجرين (6 خطب). وأعاد ترامب تقديم مصطلح "الشر"، وكان بوش شدَّد عليه في وقت مبكر، ثم تخلى عنه أوباما تمامًا.