لـ"فهم العنف الديني": عفوًا "نيتشه": الله لم يمت

ذات مصر
  للأشخاص الذين درسوا موضوع الإرهاب بجدية، يبدو غالبًا أنه يوجد جهل فاضح بطبيعة الأديان المختلفة ودورها، في كل من الخطاب العام والخطاب السياسي، ما قد يكون متوقعًا إلى حد ما.. الأمر الأكثر إثارة للقلق هو الجهل الجسيم في كثير من الأحيان بالموضوع في الأوساط الأكاديمية، وبخاصة في مجال العلاقات الدولية والدراسات الأمنية، والأخير يتعامل بالأساس مع مشكلة العنف الديني، وعلى سبيل المثال، اضطلع متدرب أمريكي (شون هيرمان) يعمل مع جيمس دينجلي (أحد محرري كتاب فهم العنف الديني) في جامعة كوينز بلفاست في 2016 بمراجعة جميع المقالات المنشورة في أهم المجلات الأمنية الدولية في دراسات الإرهاب حول موضوع الأصولية والإرهاب في الإسلام منذ عام 2001. [caption id="" align="aligncenter" width="1000"] جهاديون[/caption]

نمط حياتنا الـمُهدَّد

يضم كتاب "فهم العنف الديني" مجموعة دراسات تستهدف تصحيح بعض المفاهيم، وفي مقدمتها "التركيز بنحو خاص على الشرق الأوسط والعالم الإسلامي، لجعل القارئ يحاول أن يتبنى منظورًا أقل توجهًا نحو الغرب وتحميله مسؤولية المشكلة". وعلى المستوى العام يعيد تقييم مقولة نيتشه "موت الإله"، فهو "يبدو على قيد الحياة بنحو ملحوظ ويقاتل في أجزاء كثيرة من العالم". وقد يحتاج الغرب إلى إعادة اكتشاف الله ومدى نشاطه في العالم، وليس ببساطة نبذ دين "الآخرين". والغرب، يلجأ عمومًا إلى "العلم" وإرث التنوير على اعتباره أساسًا شرعيًّا لنظامنا القيمي، وفي الغرب أيضًا ميل إلى "نسيان أن الخلط بين العلم والدين في الأصل كان في العالم المسيحي"، ولفهم قوانين الله أفضل وبالتالي الاقتراب من مشيئته، ربما لم نعد قادرين على استيعاب أمر ديني. يهيمن الإرهاب حاليًّا على عناوين وسائل الإعلام، وغالبًا يُطرَح كتهديد وشيك للغرب الذي يشعر بأنه مضطر لخوض حرب عالمية ضده، وبعض سياسيينا يقولون إنه يمثل تهديدًا وجوديًّا، أو على الأقل تهديدًا لطريقتنا (الغربية) في الحياة. والمصطلحات المستخدمة للإشارة إلى هذا الخطر: التطرف الإسلامي، الأصولية، الإرهاب، الراديكالية، تفتقر غالبًا إلى تعريف دقيق. وهناك ميل إلى افتراض أن الإسلام يمثل تهديدًا، مع افتراضات ضمنية (سلبية) حوله كدين، وهنا يكون تجاهل تاريخ العنف والإرهاب المسيحيين. وللأسف يحدث كثيرًا أن نفشل في فهم أسباب العنف، وبخاصة دور الدين، وغالبًا "يفشل العقل الأمني ​​الغربي في فهم عقل الجناة (الدينيين)" وتحديد ما يقودهم إلى العنف، لكن الأجهزة الأمنية استفادت من هذا الواقع، فعلى سبيل المثال ارتفعت كلفة صناعة الأمن الدولي إلى 100 مليار دولار في 2011. وفي 2016 زادت ميزانية وزارة الأمن الداخلي الأمريكية (كانت غير موجودة في 2001) عن 40 مليار دولار، ووظفت 240 ألف شخص، و"قد لا ترحب صناعة كهذه بالتشكيك في حقيقة الإرهاب أو التهديد الإسلامي". [caption id="" align="aligncenter" width="800"] قوات مكافحة الإرهاب[/caption] بنحو أكثر تحديدًا، يعود الإرهاب الحديث إلى منتصف القرن التاسع عشر كجزء من الاستجابة، لذلك كان ظهور علم الاجتماع الحديث والأنثروبولوجيا، حيث كانت "الثورات تنطلق مثل البنادق!"، وفكر القرن التاسع عشر عاد، مرارًا وتكرارًا، إلى شبح الثورة الفرنسية وطاقات الغوغاء اليائسة: ثورات، عنف شوارع، غوغاء، اغتيالات سياسية، اعتداءات إرهابية و... ولمدة 200 عام سيطرت الدول على السياسة في العالم، وهي بدورها ساعدت في تحفيز العلوم الاجتماعية لتحل محل الدين كحكم للنظام الاجتماعي، ما يعكس الاهتمام بالنظام (الاجتماعي والاقتصادي والسياسي)، بوصفه الوجه الآخر للاهتمام بالفوضى المرتبطة بالعنف السياسي. وفي الغرب قناعة بأن النظام المستقر الحديث استبعد العنف والصراع، ما جعله محور تركيز العلوم الاجتماعية. ومن الأهمية بمكان فهم الكيفية التي صار بها الدين مصدر قلق رئيسًا في محاولة العنف في النظرية الاجتماعية الكلاسيكية، ومن المفاهيم الرئيسة التي يتبناها الكتاب أن تاريخ الإسلام "مرصّع بالعنف، ولا سيما ضد الكفار والزنادقة"، ولم تخلُ تواريخ أديان ومذاهب أخرى من ذلك، وفي هذه التواريخ كان الإرهاب عاملاً رئيسًا في السيطرة الدينية السياسية.

الإرهاب والنظام الكوني المقدس

يستخدم الإرهابيون أساليب العمل الإجرامية التقليدية: العنف والإكراه وجمع الأموال لتمويل أنفسهم، حتى لو عملوا في مناخ اجتماعي "متعاطف" فإنه يبقى غير فعال. والتشابه والتداخل بين الظواهر يجعل التعريفات مهمة لأسباب قانونية وفكرية، و"مجرد وجود شيء ما يصعب تعريفه لا يعني أنه غير موجود"، وقد كان الإرهاب السمة الواضحة لآخر 200 سنة من التاريخ الغربي، والكثير منه مستوحى دينيًّا، وهذا يجعل الإيمان الديني موضوعًا مهمًّا لدراسة العنف، فقد حدث في حالات كثيرة استخدام الأديان كصرخات حشد للعنف. [caption id="" align="aligncenter" width="800"] مسلحو داعش في جنوب الصحراء الأفريقية[/caption] وفي العنف المعاصر يحدث شيء قد يشبه "القربان المقدس"، إذ الموت يتجاوز الحياة، وسفك الدم يوفر حياة جديدة، وبهذا نكتسب نظرة ثاقبة إلى الانتحاري أو المضرب عن الطعام أو مسلح بروكسل، الذي كان يعلم أنه من شبه المؤكد سيُقتل، فالتضحية بالنفس والآخرين تجعل أفعالهم مقدسة، وهذه فكرة التضحية من أجل الخير الأعظم والوجود المتعالي. ما سبق يساعدنا على فهم شيء من طبيعة التهديد الإرهابي الحالي، أي الأصوليين الإسلاميين، فقد يكون العنف مدفوعًا بشيء عميق في الدين نفسه، وليس فقط الإسلام على وجه التحديد، وفي هذا الإطار جاء برنامج Horizon 2020 للاتحاد الأوروبي، هادفًا إلى مكافحة التطرف، وأي شيء يثير تجربة دينية، بعد أن صار هناك تيار يرى أن العقلانية المادية تؤدى إلى عالم أكثر سلمية، وأن المشكلة في الدين والأفكار متعالية النظام. الليبرالية الغربية الحديثة والتسامح في الغرب بُنيا على نظام جديد (اجتماعي، اقتصادي، سياسي، فلسفي) يمكن تلخيصه بوصف "علمي". وعلى عكس الغربيين الذين تم تكوينهم اجتماعيًّا، يجد المهاجرون أنفسهم غرباء تفتقر حياتهم إلى النظام المقدس والمعنى. وفي تناقض تام يرى علم الاجتماع الكلاسيكي أن المجتمعات الغربية الحديثة تجعل الفرد إلهًا، أما المجتمعات التقليدية فتجعل المجتمع إلهًا، وهذا التناقض في رأي كثيرين "جوهر المشكلة بين الإسلام والغرب"، فالتطرف والإرهاب الإسلامي رد على الاضطراب (تدنيس) مقدسات المسلمين. القضية، إذًا، أكثر إشكالية بكثير من مجرد نقل الديمقراطية إلى خارج الغرب، فالاندماج في النظام الغربي "ليس بالأمر السهل (أو الاختياري) ويتضمن التخلي عن الهوية"، وبالتالي قد يصير التغير جزءًا من معركة كونية، وفي قلب المعركة المحتملة أفكار مثل: "الفرد الموضوعي" و"القوانين العلمية" الدخيلة على الإسلام التقليدي. والنظام الغربي الحديث (منتج في الغالب في عصر التنوير خلال القرن 18)، وحتى الآن لا يزال يواجه التحدي، وعلى المرء ألا يقع في فخ التفكير بمنطق أن العنف الديني شيء جديد، فهو يتغلغل في تاريخ البشرية كله تقريبًا، والغرب الآن أيديولوجية علمانية لإضفاء الشرعية على عنفه، حتى إن البعض يعتبر أن "الله" مجرد اسم مستعار للنظام! [caption id="" align="aligncenter" width="1000"] عنصر داعشي[/caption]

مشاهد شرق أوسطية

دراسات الحالة تكشف عن تاريخ مشترك للأقليات المضطهدة الهاربة، وقد عانى لبنان من عواقب الحرب المستمرة في الشرق الأوسط. ونسبة كبيرة من تدفق المهاجرين اللاجئين إليه نتيجة لعنف داعش والجماعات السلفية الجهادية، ونجمت عن اللجوء نتائج مختلفة ترجع في جزء كبير منها إلى التكوين الديني غير المتجانس بالفعل في لبنان. وفي حالات كثيرة أسهم اللاجئون بقدر كبير، ماديًّا وروحانيًّا وثقافيًّا، في المجتمعات المضيفة لهم. وقبلت مجموعات من الشتات وجهات النظر والهويات وحتى الرموز السلوكية للشعوب المضيفة. ومنذ 2013 اجتاح تنظيم داعش منطقة الهلال الخصيب. وفي منطقة البقاع على الحدود الشرقية مع سوريا، كان داعش قبل كل شيء مناهضًا للشيعة ومعاديًا لإيران، وهو يتبنى "عقيدة الحرب الشاملة"، ويكمن عنف داعش في العراق في تركيزه على الهوية والسياسات الطائفية، وقد استعان بخبرة القمع البعثية، وكانت المناطق الريفية القاعدة الداعمة للإسلاميين. وقد صار التدمير المنهجي للموارد والصناعات والنزاعات على الأراضي عوامل تعبئة لداعش، أسهمت في توفير المجندين من الجنرالات الفائضين عن الحاجة إلى المزارعين المعدمين، وبالنسبة إلى عدد كبير من عابري الحدود كانت الولاءات القائمة على الدين أقوى من أي ولاء وطني. وهناك نوع من رسالة الخلاص التي صورها أيديولوجيو داعش، ومن الأفكار الرئيسة في هذه الرسالة وجوب تطهير أراضيها من الكفار، وعلى مقاتلي داعش، بحسب أيديولوجيتهم، "واجب ديني" يتمثل في القضاء على الكفار بأي وسيلة متاحة، وقد دخلت تلك الأيديولوجيات ما وراء العراق وسوريا عبر الشبكات والمنظمات الدينية التي كانت أكثر فاعلية من الهياكل السياسية الوطنية في نقل الأفكار والمعتقدات. وبناءً على عمل ميداني أُجرِي في شمال العراق وتركيا مع الإيزيديين بين عامي 1999 و2015 في تركيا والعراق، فالعالم كما يراه الإسلاميون يقوم على تباين مزدوج بين: "دار الكفر" و"دار الإسلام"، والعالم مقسم إلى قسمين: "مسلمين" و"غير مسلمين"، و"الجهاد" هو الهدف الرئيس للإسلاميين، أي النضال من أجل نشر الإسلام في العالم أجمع، ويمكن تفسير النضال بعدة طرائق، أحدها الغزو العنيف والاستئصال، وعكس المسيحيين واليهود، فإن الإيزيديين "كفار"، بحسب الإسلاميين. حرره: جيمس دينجلي ومارسيلو موليكا، فهم العنف الديني،Springer Nature سويسرا.