لماذا يفشل التأمين الإيراني؟ ردّ طهران بين الممكن والمستحيل

  تثير عملية اغتيال العالم النووي الإيراني "محسن فخري زادة" عدة ملاحظات حول القدرة الاستخباراتية والأمنية لدى إيران. تشير هذه العمليات إلى قصور داخل البنية الأمنية الداخلية الإيرانية، وهو القصور الذي يمنح بعض الأطراف والفواعل مساحة حركة -لا بأس بها- داخل إيران، بالإضافة إلى التساؤل الأهم حاليًّا: كيف سيكون الرد الإيراني تجاه هذا الاختراق؟

أولاً: الاختراق الأمني الإيراني

لا تعد عملية اغتيال محسن زادة أول عملية اغتيال علماء بالبرنامج النووي الإيراني، فقد سبقت هذه العملية 5 عمليات اغتيال بأساليب متنوعة داخل العاصمة الإيرانية طهران، وهم: 1- مسعود علي محمدي: قُتل بتفجير قنبلة عن بعد يوم 12 يناير/ كانون الثاني 2010 في طهران. 2- مجيد شهرياري: قُتل وأصيبت زوجته في انفجار سيارة ملغومة في طهران يوم 29 نوفمبر/ تشرين الثاني 2010. 3- فريدون عباسي دواني: أُصيب هو وزوجته في انفجار سيارة ملغومة في اليوم نفسه الذي قتل فيه مجيد شهرياري. 4- داريوش رضائي: 35 عامًا، قتله مسلحون رميًا بالرصاص شرقي طهران يوم 23 يوليو/ تموز 2011. 5- مصطفى أحمدي روشن: مهندس كيميائي، 32 عامًا، لقي مصرعه في انفجار قنبلة لاصقة في سيارته، وضعها راكب دراجة نارية في طهران في يناير/ كانون الثاني 2012. [caption id="" align="aligncenter" width="1000"] تشييع جثمان زاده[/caption] ويمكن القول إن هناك عدة أسباب تقف خلف هذه الاختراقات الأمنية المتكررة، وإخفاق المؤسسات الأمنية الإيرانية في تأمين كبار علمائها داخل العاصمة نفسها: 1- التنوع الاثني والتعددية المذهبية داخل المجتمع الإيراني: وهو ما يوضحه الشكل رقم 1، 2. فالأمر لا يتوقف على التعددية الإثنية والمذهبية في ذاتها بل في تشكيل هذه المجموعات -على مدار تاريخ الجمهورية الإيرانية- لأحزاب وحركات انفصالية، وقد أدّى ذلك إلى نشوء كيانات وحركات مستقلّة تسعى إلى الانفصال عن الجمهورية الإيرانية مثل: مهاباد الكردية في عام 1945، والكيان التركي في أذربيجان في 1946، والجبهة الشعبية لتحرير الأحواز 1968، والجبهة القومية لتحرير عربستان والخليج العربي 1956، وحزب الديمقراطي الأحوازي 1998، وحزب النهضة الأحوازي، وحزب الحياة الكردستاني 2004، ومنظمة جند الله، ومنظمة جيش العدل، وجماعة أنصار الفرقان، وحركة أنصار إيران 2012-2013، وحركة تحرير تركمان الصحراء، ومنظمة مجاهدي خلق. هذه الحركات الانفصالية في غالبيتها من الأقلية السنية وتضم بالأخص الكرد والبلوش والتركمان، والعرب، وتجد صعوبة في تقبّل الهيمنة الشيعية عليها، والتي تسببت في تصديع الوحدة الوطنية والاجتماعية في إيران، كما تتنافس كل هذه الهويات الإثنية مع الهوية الفارسية، التي تشكّل خطوط الانقسام السياسي، والذي قد يتحوّل إلى مصدر لعدم الاستقرار الداخلي. من هنا تبرز أهمية النظرية الأمنية الإيرانية إلى على شمخاني، التي تشير إلى اعتماد إيران في مواجهة التهديدات المختلفة على إستراتيجية الردع، وذلك على مستوى التهديدات الداخلية والخارجية على حدٍّ سواء. [tie_slideshow] [tie_slide] [/tie_slide] [tie_slide] [/tie_slide] [/tie_slideshow]

التوزيع المذهبي في إيران

تنوع الأقليات داخل إيران

2- تحديات الوضع الاقتصادي في إيران: يمر الاقتصاد الإيراني بفترة صعبة في ظل انسحاب الولايات المتحدة الأمريكية من الاتفاق النووي وتشديد العقوبات الاقتصادية على طهران مرة أخرى، إضافة إلى تداعيات أزمة كورونا التي أعجزت الاقتصاد الإيراني، الأمر الذي زاد حتمية الصدام السياسي الداخلي في إيران، وهو ظهر في الاحتجاجات التي اجتاحت المدن الإيرانية في ديسمبر/ كانون الأول 2017 وأغسطس/ آب 2018، ثم نوفمبر/ تشرين الثاني 2018، ويناير/ كانون الثاني 2020، علاوة على انخفاض المشاركة الشعبية في الانتخابات النيابية الإيرانية في فبراير/ شباط 2020 عن سابقتها، كما تعمل الأزمة الاقتصادية على استمرار الخلافات بين الحكومة والبرلمان بسبب رفض البرلمان لمخطط الحكومة لبيع النفط في سوق الأسهم ورفض الحكومة بالمقابل لبرامج برلمانية لتقديم الإعانات إلى الطبقات المتدنية من المجتمع. ومن المتوقع أن تستمر الخلافات بينهم حول معالجة الأزمة الاقتصادية إلى الانتخابات الرئاسية المقبلة التي يحاول المحافظون النجاح فيها، من خلال تأكيد فشل الحكومة في معالجة الأزمة الاقتصادية. كما من المتوقع أن يؤدي استمرار العقوبات الأمريكية إلى إفلاس العديد من الشركات الإيرانية، وانسحاب الكثير من الشركات الأجنبية عن الاقتصاد الإيراني، وبالتالي ستتضخَّم الهيمنة الاقتصادية للحرس الثوري، من خلال الاستحواذ على المشاريع الكبرى في قطاع النفط (من بينها عقود بقيمة 1.5 مليار يورو غالبها مع شركات تابعة للحرس الثوري لتطوير حقول نفط وغاز) وقطاع السيارات وقطاع النقل وقطاع بيع التجزئة. وفي المحصلة ستعاني إيران أكثر وأكثر من زيادة في نسبة الفقر وانحسار الطبقة الوسطى، وهي الظهير الشعبي للإصلاحيين داخل إيران، لتكون النتيجة على المدى القريب في صالح المحافظين المستفيدين من عزوف هذه الطبقة عن التصويت، في حين أن ذلك سيؤدي على المدى المتوسط إلى انحسار الحركات الإصلاحية، وزيادة احتمال صعود الحركات الاحتجاجية الراديكالية. 3- اتساع اهتمام المؤسسات الأمنية بالخارج على حساب الداخل: يؤدي تعدد الأجهزة الأمنية بين الجيش الإيراني والحرس الثوري إلى ما يشيبه تضارب المهام. فالحرس الثوري يلعب دورًا سياسيًّا وإستراتيجيًّا أبرز من الدور الذي يلعبه الجيش وذلك بسبب قرب قيادته من مكتب القائد الأعلى. هذا بالإضافة إلى اتساع نطاق عملياته خارج إيران، فالدستور الإيراني ينص على أنه لا توجد حدود جغرافية لمهام الحرس الثوري، وأن حدود الثورة الإسلامية هي حدوده، وهو يملك بذلك شبكة واسعة من العلاقات مع وكلاء في كل دول العالم الإسلامي، وتركيزًا في كل من لبنان والعراق ودول الخليج. الأمر الذي انعكس على جودة أدائه نتيجة تشتيته جهوده خارج حدود إيران. [caption id="" align="aligncenter" width="1000"] محسن زاده[/caption]

ثانيًا: الأطراف الفاعلة/ المهددة للداخل الإيراني

تشير التقديرات الأولية بأصابع الاتهام في قتل علمائها إلى كل من الموساد الإسرائيلي والمخابرات الأمريكية، خاصة وأن الموساد أدار حملة اغتيالات لسبع سنوات ضد علماء إيرانيين كبار بهدف إبطاء التقدّم الذي أحرزته طهران، والذي تشعر إسرائيل بأنه يهدف إلى تطوير سلاح نووي، وردع العلماء الإيرانيين من المشاركة في برنامج البلاد النووي. وفي عام 2018، كشفت المخابرات الإسرائيلية أرشيفًا للوثائق المتعلقة بأنشطة إيران في مجال الأسلحة النووية، والتي ألقت مزيدًا من الضوء على الأنشطة التي يقودها فخري زادة. أما الجانب الأمريكي، فيستهدف عدم وصول إيران إلى برنامج نووي قوي يؤهلها إلي صنع السلاح النووي ومن ثَمَّ كانت عملية مرلين 2000، وهي عملية سرية للولايات المتحدة في ظل إدارة كلينتون لتزويد إيران بـ"تصميم فاشل" لرؤوس حربية نووية معيبة إلى المسؤولين الإيرانيين في محاولات لإبطاء برنامج الأسلحة النووية الإيرانية. وشاركت كل من إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية في عمليات نوعية منها عملية الألعاب الأولمبية التي استهدفت أجهزة الطرد المركزي للمفاعل النووي الإيراني في 2006، كما تشاركا في عملية فيروس ستوكسنت، وهو فيروس من صنع البلدين لاستهداف أجهزة الكمبيوتر المركزية في إيران، كما تعاونا في اغتيال علماء الذرة الإيرانية كما أوضحنا سابقًا. [caption id="" align="aligncenter" width="1000"] جنازة زاده[/caption]

ثالثًا: أساليب الرد المتوقع الإيراني

سيكون الرد الإيراني مختلفًا تمامًا عن الرد عقب اغتيال قاسم سليماني، أي أن السيناريو الأقرب وجود رد إيراني مباشر على القوات الأمريكية في الخليج أو استهداف المصالح الإسرائيلية في المنطقة ولكن بضوابط أعلى من الرد على مقتل سليماني، ويرجع ذلك إلى اعتبارين: 1- اغتيال محسن زادة حدث على الأراضي الإيرانية وليس خارجها في حالة سليماني. 2- الاقتصاد الإيراني في وضع متأزم، ويمكن -وفقًا لبعض المحللين- أن يمنح التصعيد العسكري دفعة شعبية للنظام الإيراني، وينقذه من أزمات الداخل ويُعلي من فرصه في الانتخابات الرئاسية المقبلة. وفي ما يخص العلاقة مع الولايات المتحدة، فمع تصاعد الضغط الأمريكي والإسرائيلي قد تجد القيادة الإيرانية صعوبة أكبر في الحفاظ على ضبط النفس النسبي، خاصةً بعدما نظم المتظاهرون المتشددون المطالبون بالحرب مع الولايات المتحدة مظاهرة في طهران خارج مقر إقامة الرئيس حسن روحاني، بعد ساعات من اغتيال العالم النووي الإيراني. وبالتالي، فان الرد الإيراني والسجال العسكري المحتمل -خاصة بعد تحرك حاملة الطائرات الأمريكية إلي الخليج- لن يمتد لأكثر من شهر واثنين، وسيكون الهدف من التصعيد العسكري جعل إيران الملف الأول على طاولة بايدن، وذلك قد يفيد إيران من جهتين: الأولى خفض زمن المفاوضات، والثانية جعل التنازلات الإيرانية المتوقعة والمطلوبة في حجمها الأدنى. احتمال الرد الإيراني مرتفع ولكنه ليس مؤكدًا بعد إلا بعد حساب عائد الرد، وذلك لأن عوائد هذا الرد اليوم مرتفعة، إضافةً إلى أن إيران الآن تنتظر أن تسمع -عبر سلطنة عمان أو قطر- رسالة جو بايدن حول نواياه تجاه العودة إلى الاتفاق النووي أم لا، وهو ما يؤكده تصريحات الرئيس حسن روحاني بأن بلاده سوف ترد في الوقت المناسب وأنها لن تقع في فخ المؤامرة.