هزيمة "حواضن الإرهاب" أصعب: الجزائر تتبنى إستراتيجية الحصار الخانق

  مع أنّ المعركة لم تنته على الخارطة الجزائرية (في سياقات اجتماعية وسياسية راهنة/ وحسّاسة للغاية)، طالعنا الأسبوع الماضي ما صُدِّرَ على أنه نجاح لقوات الجيش والأمن الجزائري في القضاء على مجموعة إرهابية في منطقة وادي بوعايش (شرق الجزائر). الإعلان جاء من وزارة الدفاع التي أعلنت تصفية "سلوس مدني" المعروف بـ"عاصم أبو حيان" رئيس اللجنة الشرعية لأحد التنظيمات الإرهابية (التحق بالجماعات الإرهابية في 1994)، وهريدة عبد المجيد المكنى بـ"أبي موسى الحسن" (التحق بالجماعات الإرهابية سنة 1995) في عملية عسكرية داخل الوادي. الحدث السابق، واحد من سلسلة نجاحات أحرزتها الدولة الجزائرية في مواجهة التنظيمات الإرهابية منذ أواخر العشرية السوداء في البلاد (ديسمبر/ كانون الأول 1991: فبراير/ شباط 2002)، إذ لجأت أجهزة الأمن والجيش إلى اتباع منهجية/ إستراتيجية الخنق وتجفيف موارد الحياة للجماعات المسلحة، وهو ما أدى في نهاية المطاف إلى إجبار أعداد من الإرهابيين على تسليم أنفسهم للسلطات في البلاد. ومن تجاربها السابقة، تمكن ملاحظة أن الدولة الجزائرية تتكتم، عادةً، على آليات ومنهجيات عملها في التصدي للجماعات الإرهابية، خصوصًا خلال العقد الماضي الذي شهد انهيار أنظمة سياسية في دول الشمال الإفريقي ولا سيما ليبيا وتونس، وهو ما وفر مساحات كبيرة من الحركة والدعم والتمويل لهذه الجماعات التي تمكنت من توثيق علاقتها بجماعات مسلحة أخرى كالجماعة الليبية المقاتلة بقيادة عبدالكريم بلحاج، ومجموعة سيف بن حسين الإرهابية التي نشطت في تونس حتى عام 2016. وتحصلت التنظيمات والجماعات المسلحة في تلك البقعة الجغرافية على إمكانيات عسكرية كبيرة، ومبالغ مالية ضخمة مستفيدةً من الفوضى بين البلدين (تونس- ليبيا) وحالة فوضى السلاح الخفيف والمتوسط التي أعقبت نهب مخازن الجيش الليبي السابق، وهو الأمر الذي سهل وصول كميات كبيرة من هذا السلاح إلى قبضة الجماعات الإرهابية في الجزائر، والتي بدورها وثقت علاقتها بالجماعات المتمركزة في المناطق الجبلية بتونس، وبدا واضحًا هذا التنسيق في عديد من العمليات الإرهابية التي نُفِّذَت ضد الجيشين التونسي والجزائري في تلك الفترة. [caption id="" align="aligncenter" width="1180"] الجيش الجزائري[/caption]

أرشيف "جيش التحرير".. كلمة السر

وبنظرة تحليلية لطبيعة العمليات والجهد العسكري الذي قام به الجيش والدرك الجزائري في مواجهة التنظيمات الإرهابية، نُلاحظ أن إستراتيجية الخنق وتجفيف الموارد لها جذور قديمة منذ حرب التحرير الجزائرية (نوفمبر/ تشرين الثاني 1954: مارس/ آذار 1962)، ومن الواضح أن قيادات المؤسسة الأمنية والعسكرية الجزائرية اعتمدت على "أرشيف الحرب" الذي شكل مخزونًا تعبويًّا وتكتيكيًّا في أعمال مكافحة الإرهاب. وفي السابق، تمركزت قوات حرب التحرير في مناطق الحدود الشرقية المحاذية لتونس التي كانت بمنزلة القاعدة الخلفية لعمليات الدعم والإسناد اللوجستي للثوار الجزائريين، والتي استخدمت في تهريب السلاح والمقاتلين إلى داخل الجزائر. واستنادًا إلى أوجه التشابه بين نشاط مجموعات حرب العصابات في حرب التحرير، وبين المجموعات الإرهابية التي تنتهج نفس الأسلوب الحربي في مواجهة الجيش الجزائري، حاليًّا، أمكن صوغ مراجع أساسية للقوات العسكرية للتعامل مع التهديد الإرهابي، واختيار "الخنق وتجفيف الموارد" كمنهجية أمثل في مواجهة تلك المجموعات الإرهابية. ونجحت قوات الجيش والدرك الجزائرية في غلق منافذ/ مسارب كانت تسمح للإرهابيين بحرية الحركة والتزود بالاحتياجات الحياتية اليومية، والتواصل والتنسيق مع المجموعات الإرهابية الأخرى، وبالتالي حوصرت معاقل الإرهابيين بصورة خانقة، أدت لخلق حالة من اليأس والانهيار النفسي والمعنوي في صفوفهم، ودفع الكثير من تلك المجموعات إلى الدخول في مواجهات انتحارية مع القوات الجزائرية، اختارت فيها المواجهة والموت بعدما صارت سبل البقاء على قيد الحياة صعبة ويسيرة. [caption id="" align="aligncenter" width="1600"] القاعدة في المغرب الإسلامي[/caption] وفي نفس الإطار، اختارت مجموعات إرهابية أخرى القيام بعمليات انتقال تكتيكي إلى مناطق أخرى على الحدود مع تونس، لكن تلك التحركات كانت تراقبها بدقة القوات العسكرية في الجزائر وتونس على حد سواء، وخصوصًا في مناطق جبال الشعانبي (الوسط الغربي التونسي) التي كان الإرهابيون فيها تحت السيطرة النارية للوحدات العسكرية التونسية. وحاولت مجموعات من تنظيم "جند الخلافة" المبايع لداعش وكتيبة "عقبة بن نافع" المبايعة للقاعدة في بلاد المغرب الإسلامي، بنحو منفصل، القيام بعمليات توسع وتمدد داخل الأراضي التونسية في اتجاه مناطق الوسط والشمال الغربي أو باتجاه مناطق الجنوب الغربي لكنها تلقت ضربات موجعة وقُتِل عدد كبير من عناصرها في كمائن محكمة نفذتها القوات التونسية ضدها في الفترات الماضية، وهو ما أسفر في نهاية المطاف عن تعطيل قدرتها على التحرك، وأُجبرت مرة أخرى على الانكفاء باتجاه نقاط ارتكازها الأساسية. وكان لمحصلة هذه المواجهات الناجحة انعكاس هام على طبيعة التهديد الإرهابي في الجزائر، بعد أن تآكلت القدرات العملياتية للتنظيمات هناك، ولم تعد ذات تأثير كبير في الوضع الأمني داخليًّا، وتحولت إلى مجموعات معزولة ومطاردة تسعى فقط لضمان بقاء عناصرها على قيد الحياة وتجنب أي مواجهات مع القوات النظامية. [caption id="" align="aligncenter" width="1200"] جبال الشعانبي التونسية[/caption]

مقاربة البقاء

رغم أن المصالحة الوطنية التي أجرتها الدولة الجزائرية، نجحت في وضع حد لعشرية الدم السوداء في الجزائر، لا تزال مجموعات إرهابية موجودة ونشطة في البلاد، وترفض أن تُلقي عن كاهلها السلاح أو أن توقف العمل المسلح. ومع أن الإستراتيجية العسكرية الجزائرية في مواجهة الإرهاب أثبت فاعلية كبيرة، لجأت المجموعات الإرهابية في المقابل إلى اتباع مقاربة مراوغة للبقاء والانتشار، عبر استغلال أي نافذة متاحة لتسريب أفكارها إلى الشباب صغير السن الذي لم يحضر فترة العشرية السوداء ولم يكتوِ بنارها. وتكمن الأزمة الحقيقية في عدم تمكن أجهزة الدولة الجزائرية من تفكيك البِنَى الفكرية المؤسسة للمناهج المتشددة التي ينتهجها الإرهابيون، وهو ما ساهم في استقطاب عدد منهم وإن كانت نسب هذا الاستقطاب لا تزال في إطار محدود يتفاوت بين فترة وأخرى. ومن الملاحظ أيضًا في هذا الصدد، وجود حالة من رد الفعل المحافظ العائد للدين في مواجهة الأزمات الاقتصادية والاجتماعية في الجزائر، خاصة بعدما فشل نظام الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة في تحقيق التقدم الاقتصادي والاجتماعي وتحسين أوضاع المواطنين داخل البلاد. وساهمت السنوات الأخيرة من حكم "بوتفليقة" في تفشي الفساد بقدر كبير، بجانب إعطاء الجماعات الناشطة تحت ستار الحركات والجمعيات الإسلامية مساحة حركة، مكنتها من تعزيز شبكاتها في البلاد وتحقيق انتشار أكبر، وهو ما انعكس على طبيعة التهديد الإرهابي إذ ساهمت العوامل السابقة في الدفع ببعض الشباب لاعتناق أفكار الجماعات الإرهابية ومن ثم السير قُدمًا في طريق الانضمام التنظيمي إليهم، في ظل سهولة تحقيق الاتصال مع منسقي تلك الجماعات عبر منصات التواصل الاجتماعي والتطبيقات المحملة على الهواتف الحديثة. [caption id="" align="aligncenter" width="1600"] قوات الجيش الجزائري[/caption]

القاعدة.. التهديد الأكبر

ويمكن الانطلاق من المقاربة السابقة، لتقييم التهديد الإرهابي المحتمل في الفترة الحالية/ المقبلة داخل الجزائر، وهنا يمكن التأكيد على أن تنظيم القاعدة وفرعه المحلي "القاعدة في المغرب الإسلامي" يُشكل التهديد الأمني الأبرز متفوقًا على تنظيم داعش غريمه الأبرز على الساحة الجهادية. وبقي تنظيم القاعدة فاعلاً أساسيًّا في المشهد الجزائري سواء أكان في المناطق الشرقية المحاذية لتونس أم المناطق الجنوبية المحاذية لمالي، في حين لم يتمكن تنظيم داعش -في مراحل بدايته أو مراحل اشتداده وانتشاره أو في مرحلة الانكسار الأخيرة وانهيار الخلافة المكانية- من تحقيق أي اختراق هام للساحة الجزائرية. كما نجح القاعدة في المغرب الإسلامي الذي تكون بالأساس من مجموعة جزائرية -قادها عبد الملك درودكال "أبو مصعب عبد الودود"- بايعت أسامة بن لادن في عام 2007، في الحفاظ على هيكليته التنظيمية التي تطورت بمرور الوقت لتأخذ صيغتها الحالية والتي لا يمكن لأي مجموعة أو فرد الارتباط بها دون المرور على منسق أو عراب من التنظيم يشرف على الاستقطاب والولاء والبيعة ثم الاختبار والتجربة والاستعداد للعمل، في حين تحول داعش بصورته الحالية إلى مجرد بيعة وانتماء أكثر من ارتباط تنظيمي هيكلي. كما أن للقاعدة في الجزائر مرتكزات قوية تعود لثمانينات القرن الماضي، عندما اندفع المئات من الشباب العاطل عن العمل والفاقد للأمل للالتحاق بركب ما عرف حينها بـ"المجاهدين العرب" في أفغانستان، بعد أن فتحت له الأبواب وكان لهؤلاء الشباب دور هام خلال الحرب ضد الاتحاد السوفييتي  هناك على المستوى العسكري وحتى على المستوى السياسي لتنظيم القاعدة، وهو ما أعطى لهم -لاحقًا- رمزية مميزة داخل المجتمع المحلي في الجزائر الذي ما زال يحتضن ويقدر القيادات التائبة من التنظيم -بعد أن ألقوا السلاح- ويعطيهم دورًا مجتمعيًّا ما زال مستمرًّا. وفي النهاية، يمكن اعتبار مقتل القياديين الإرهابيين في شرق الجزائر دليلاً على أن قدرات المتابعة والاستهداف المباشر للجيش والدرك الجزائري كبيرة ودقيقة ومؤثرة، لكن الحرب على الإرهاب لا تزال مستمرة ولم تنتهِ لأن الظروف السياسية والاجتماعية حساسة، وتجعل من إمكانية تجفيف المنابع الفكرية للجماعات السلفية المتشددة وحواضن الإسلام السياسي أمرًا صعبًا ومعقدًا، وهذا يجعل التركيز الأساسي منصبًّا على الجهد العسكري الهادف إلى خنق المجموعات الإرهابية ومحاصرتها والقضاء عليها.