أسباب تدفع إيران إلى حضن واشنطن: أهمها "صفقة كبرى جديدة"

  من المتوقع أن يُدلي بايدن في الأسابيع التالية لتنصيبه في 20 يناير/ كانون الثاني 2021 رئيسًا للولايات المتحدة، بخطاب تفصيلي حول سياسات الولايات المتحدة تجاه الشرق الأوسط، وقد تصوغ مبادرة "الصفقة الكبرى"، التي طرحتها إيران سابقًا، الكثير من مصالح الدولتين، خاصة خلال أسابيع الفترة الانتقالية. ففي 4 مايو/ أيار 2003، طرحت إيران مدخلاً محتملاً لإعادة التقارب مع الولايات المتحدة، عبر مبادرة إعادة المفاوضات بشأن العلاقات الثنائية بين البلدين. [caption id="" align="aligncenter" width="864"] جو بايدن[/caption] تلك المبادرة البارزة، التي يُقال إنها انطلقت بموافقة القائد الأعلى الإيراني آية الله على خامنئي ورئيس الجمهورية المعتدل محمد خاتمي وبمشاركة خاصة من سفير إيران السابق لدى الأمم المتحدة ووزير الخارجية الحالي جواد ظريف، قد وضعت كل القضايا المحورية بين البلدين على طاولة المفاوضات، منها برنامج إيران النووي وتطوير الصواريخ وأنشطة إيران الإقليمية، إلا أنها لم تذكر أي تفاصيل حول الكيفية التي سيجرى بها التفاوض بشأن كل قضية على حدة. طُرح ذلك العرض عبر قناتي اتصال، أولهما فاكس رسمي يمكن تجاهله أرسله الإيرانيون إلى وزارة الخارجية الأمريكية مباشرةً، وثانيهما قناة اتصال منفصلة وغير رسمية أُرسلت إلى وزارة الخارجية الأمريكية عبر السفارة الإيرانية في سويسرا، والتي كانت في ذلك الوقت، وكما هي الحال الآن، ممثلاً للمصالح الإيرانية مع الولايات المتحدة، وأُطلق على ذلك العرض لاحقًا "الصفقة الكبرى". على الرغم من أن تلك المبادرة رُفضت بشكل صريح من المحافظين الجدد في إدارة بوش الابن، تبعًا للقاعدة الثابتة "نحن لا نتفاوض مع الإرهابيين"، فإن إيران وبنحو غير مُفاجئ أصُيبت بالإحباط برفض المبادرة. ففي عام 2001 وصلت إيران إلى ذروة خلافها مع الولايات المتحدة بتقديم الدعم السياسي واللوجيستي لأفغانستان في أعقاب الهجوم الإرهابي في 11 سبتمبر/ أيلول، وفي عام 2002 أضافت إدارة بوش إيران إلى العراق وكوريا الشمالية كـ"محور للشر". [caption id="" align="aligncenter" width="847"] أوباما وروحاني[/caption]

تحول كامل

حملت الـ17 عامًا اللاحقة رفضًا لـ"الصفقة الكبرى"، وشهدت حالة عميقة ومتبادلة من انعدام الثقة واتباع السياسات العدائية القاسية من كل من إدارة بوش ودونالد ترامب، ومن ناحية أخرى الرئيس الإيراني المحافظ محمود أحمدي نجاد. حملت الفترة بين 2013 و2017 بين الرئيس الأمريكي باراك أوباما وبين الرئيس الإيراني المعتدل حسن روحاني تحولاً كاملاً، حيث شهدت عملاً أكثر تعاونية بين الإدارتين، ما دفع باللمسات الأخيرة والمفاوضات الخاصة بالاتفاق النووي قدمًا، في ما عُرف بخطة العمل الشامل المشتركة "JCPOA". شكّلت الثقة المتزايدة وحسن النوايا بين أوباما وروحاني دفعة محتملة للمفاوضات حول بقية القضايا المحورية، كمسألة الصواريخ الإيرانية والأنشطة الإقليمية لطهران، لكن انتخاب ترامب لاحقًا أوقف ذلك كله. قدّم انتخاب بايدن فرصة زمنية لإيران لعرض صفقة كبرى جديدة، سيكون المسار الزمني مهمًّا للغاية بها، في ما يتعلق بشمولية العرض، كعرض 2003، وتقديمه لبايدن قبل تنصيبه رسميًّا وإعلان سياساته نحو الشرق الأوسط، فمن المحتمل أن يُشكِّل ذلك سياسة الولايات المتحدة الخارجية بغرض تحقيق السلام لكلا البلدين ولبلدان المنطقة. تستطيع إيران في الحقيقة تعزيز موقفها الحالي والبناء على النوايا الحسنة السابقة، عبر إعلان استعدادها الإفراج عن المزيد من المعتقلين الأجانب، مثل الأكاديمية الأسترالية كايلي مور جيلبرت، لكن ليس من الضروري ربط كل القضايا بمسألة مبادلة المعتقلين. سيكون من الحاسم دخول كلا الطرفين إلى طاولة المفاوضات حاملاً معه تصوره الواضح لمصالحه الإستراتيجية والفهم المشترك لما يعنيه "الأمن" و"الاستقرار" في السياق الإقليمي، وما هي الأمور القابلة للتفاوض والأمور غير القابلة للتفاوض. ستواجه المفاوضات المتعلقة بـ"خطة العمل الشامل المشتركة"، خصوصًا تلك الساعية إلى إلغاء العقوبات المفروضة على إيران بسبب أنشطتها الإقليمية، رياحًا معاكسة من أصحاب المصالح المتعارضة داخليًّا وخارجيًّا.

فرص وعراقيل الصفقة الجديدة

كانت حادثة اغتيال كبير العلماء النوويين الإيرانيين "محسن فخري زاده" - بحسب ما وصفته جريدة النيويورك تايمز- مُدبَّرًا له من رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بدعم من ترامب، وذلك لتقويض أي توافق بين الولايات المتحدة وإيران. ستُمثِّل المثابرة في خلق حالة التقارب تحديًا لكلا الجانبين، خاصة إذا استمرت الاستفزازات الخارجية المتطرفة. [caption id="" align="aligncenter" width="640"] مقتل محسن زاده[/caption] رغم ذلك فإن المفاوضات لن تحصل على بداية باردة، فكل من روحاني وظريف يعرفان بايدن منذ أن كان نائبًا للرئيس الأمريكي، بل إن ظريف يعرفه من قبل ذلك، كما يعرف المرشح لمنصب مستشار الأمن القومي "جاك سوليفان"، وبما أن روحاني لن يُعاد انتخابه مُجددًا في منتصف 2021، ومن غير المُرجَّح أن يستمر ظريف في منصبه كوزير للخارجية بعد ذلك، فجُل ما لديهم هو 7 أشهر أو أقل في الحقيقة لإتمام الصفقة. ومن غير المعروف حتى الآن مَن سيخلف روحاني، لكن التوصل إلى اتفاق سريع لتحسين وضع الاقتصاد الإيراني قد يؤثر في اختيار من يخلف روحاني، بل وقد يُشكِّل مستقبل المفاوضات. ثمة أسباب اقتصادية وسياسية قهرية تدفع إيران لتقديم ذلك العرض، منها الضرورة الملحة لإحياء الاقتصاد الإيراني، خاصة في ما يتعلق باستئناف ممرات التجارة الدولية للنفط، وسيكون المفتاح لذلك هو التوافق المبكر مع بايدن على الشروط المشتركة للدخول في خطة العمل الشامل المشتركة. فمن المفترض أن يوقف ذلك العقوبات الأممية التي أعاد ترامب فرضها على إيران، رغم أن بايدن قد يضع شرطًا أمام الدخول في خطة العمل الشامل المشتركة بفرض قيود على تطوير الصواريخ الباليستية الإيرانية. ورغم تداعيات اغتيال فخري زاده، فإن الطرفين يمكنهما تحقيق كل ذلك إذا التزما بالشروط، وقد أشارت إيران إلى ذلك بالفعل. أمّا عن الأسباب السياسية لذلك العرض فهي ذات شقين:
  1. توقع الجماهير الإيرانية حدوث انفراجة اقتصادية بوصول بايدن إلى منصبه. فاستعدادهم لتحمل المعاناة والوقوف بجانب الحكومة في مواجهة "الضغوط القاسية" من ترامب لن يستمر، خصوصًا إذا صارت الانفراجة الاقتصادية واقعًا ملموسًا. فالحكومة الإيرانية، خصوصًا المتشددين داخل النظام الإيراني، لا يمكنها تجاهل تلك التوقعات.
  2. هذه هي فرصة إيران للخروج من حالة المواجهة الباردة مع الولايات المتحدة، والتأكد من أن مبادرتها متوافقة مع سياسة بايدن لتعزيز حالة الاستقرار والأمن الإقليمي.
تمتلك إيران والولايات المتحدة مصالح استراتيجية متداخلة مع جيران إيران المباشرين -العراق وأفغانستان- كما أن تحقيق الأمن والاستقرار تُعتبر أهدافًا مشتركة في كل سوريا ولبنان واليمن، وبالنسبة إلى أصحاب المصالح الآخرين، كالمملكة العربية السعودية وإسرائيل، فتحديد المصالح المشتركة ونقاط الاختلاف وتحديد طريقة استيعابها سيكون تحديًا هامًّا للغاية. [caption id="" align="aligncenter" width="740"] المرشد الإيراني[/caption] أمّا بالنسبة إلى بايدن، الذي صرّح بأن رئاسته ستمثل عودة للقيادة الأمريكية للعالم، فإن معالجة المسألة الإيرانية سيكون تحديًا هامًّا ورئيسًا. وبالنظر إلى الانقسامات العميقة في إيران، فإن ذلك سيكون اختبارًا صعبًا للقيادة الإيرانية، وقد يلعب ذلك دورًا في تشكيل إرث خامنئي. كيف يمكن لإيران أن تُعلِن عن "صفقة كبرى" جديدة للولايات المتحدة وأصحاب المصالح الإقليميين وللشعب الإيراني نفسه؟ أولاً يجب التأكد من موافقة بايدن غير الرسمية على شروط المبادرة وذلك عبر قنوات الاتصال الخلفية، ومن ثَمَّ إعلان المبادرة على الملأ في خطاب رسمي موجه للجماهير في الداخل والخارج لإعادة التأكيد على التزام إيران بأمن ورفاهية شعبها، وإعادة التزام القيادة بتحقيق الأمن والاستقرار الإقليميين، واستعداد طهران للعمل مع بايدن ومع غيره لتحقيق ذلك الهدف. ويجب أن يخرج ذلك الإعلان عبر خامنئي نفسه، لتأكيد الالتزام الوطني الإيراني بتنفيذ تلك السياسة، بصرف النظر عمّن يُنتَخب رئيسًا لإيران في منتصف 2021.