عمار علي حسن يكتب: فيلم أبيض وأسود.. هروب من الواقع أم حنين إلى الماضي؟

ذات مصر

أبيض وأسود، يكاد الرمادي يغلبهما. هكذا تظهر المشاهد في الأفلام القديمة. مشاهد لم يعد لها وجود لدى أولادي الآن في زحمة الصور الملونة العابرة، والضحكات العابثة، والحوار الركيك إلا قليلا.

أتركهم غارقين في صخب الألعاب الإلكترونية، وأختلي بنفسي، لتتهادى إلى أذنيّ من الذاكرة موسيقى تصويرية عذبة صافية لأفلام قديمة، يرقص لها القلب، وتهيم الروح، وأنا أرى أبطاله كأنهم قد نحتوا من جبال راسية، وأنصت إلى ما يقولونه كأنه يرسم معالم طريقي في قابل الأيام.

أفلام هي بنت أيام الصبا، ظننت أنني سأفارقها بتقدم العمر، فإذا بها تزداد حضورًا كلما مرت السنين، كأنها محفورة في نفسي.

ـ أيها الفيلم المنتصر على أيامي.. كيف صرت ملاذًا غارقًا في الحنين؟

هكذا أسأله، وهو يسمعني، لكنه لا يرد، ويرد عنه كل من أقابلهم من أصحابي، وأسألهم عنهم فيقولون جميعًا:

ـ من ينسى خدشًا في روحه.

ـ خدش؟!

ـ خدش لا ينزف، ولا يؤلم، بل ينير، وإن رآه المتعجلون نارًا.

نار هي تدفئ، فهو فيلم يدور في رحاب أرض ضيقة تتسع في نفسي قداستها إلى مدى لا أعرفه أين يبدأ؟ وأين ينتهي؟ لكنني أعرف في هذه اللحظة أنه صار ملاذًا لكثيرين من ضحايا السياسة، والمتعبين من توعك الاقتصاد.

أنظر إلى أول واحد يصادفني بعد مشاهدة الفيلم مرات ومرات، وأقول له:

ـ هل تسمع مني شيئًا، يعلمه الله، ولا أعرف سره. ـ 

يرفع رأسه إليَّ، فيراني، لكنه لا يسمع ما يتردد داخلي، ذاهبا إلى غيره:

ـ مع الأفلام القديمة يأتيني شيء من الهيام، وانهمار المحبة، والرغبة العارمة في مفارقة ما بين الناس إلى ما هو سابح في الملكوت الأعلى. حال تشبه تلك التي تأتيني في رحاب مسجدي الحسين والسيدة زينب بالقاهرة، ولم أشعر بها في أي مكان آخر. ربما هي البركة، أو الانتماء، أو الحنين، أو شيء خفي لا أعلمه، لكني أحبه، وأستريح له.

يتطابق الإحساس إن كان الفيلم يدور في رحاب المسجدين العتيقين، فبه أحببتهما، قبل أن أراهما، وحين جئت إلى القاهرة بحثت عنهما مدفوعًا بما تركته الأفلام القديمة في نفسي، لكني رأيت وسمعت أشياء أخرى لم تخطر لي على بال، ولم يشملها الأفلام.

على باب السيدة، تذكرت أبطال الأفلام التي أفضلها، لكن شيئًا ما جذبني إلى الألوان، رغم أنها لا تساوي عندي سوى البهرجة الخادعة وربما الزيف، بما جعل من حولي يصفونني بكل ما يجذبني إلى الخلف في نظرهم، حتى أن شابًا كان يصطحبني إلى المسجد العريق، قال لي بلا مواربة، وعينيه في عينيّ:

ـ أنت تعيش في الماضي.

توهم هذا الشاب أنني مخلص فقط لغير الأحمر والأصفر والأخضر والأزرق، لا سيما بعد أن قدمت له كراسة متآكلة، سجلت فيها انطباعاتي عن الأفلام القديمة.

حين وقعت عينيه على عبارة: "لو عاد أبطال السينما المصرية في أيام تمكنها إلى الحياة فلن يجدوا لهم مكانا"، ضحك وقال لي:

ـ أحمد زكي لم يظهر في أي فيلم قديم، ومع هذا نشاهد تمثيله بشغف، ونحب أفلام سعاد حسني الملونة، كما نحبها بالأبيض والأسود.

أجبته، وأنا أقهقه، ناظرًا إلى البعيد:

ـ الأبيض والأسود ليسا لونين.

قهقه، وواصل أسئلته:

ـ ما هما؟

لم أجبه في حينها، لكني عرفت فيما بعد أنه زمان ومكان وناس غير الذين صاروا يجثمون على صدورنا.

قال لي:

ـ هل تهرب من واقع جديد أليم؟

أجبته في ثقة:

ـ الجدة ليست في أيام أخر تأتي، ووجوه تتبدل.

كنت أدرك جيدًا أننا في بلد ينسى الناس فساد من لا يودي بهم انحرافهم إلى السجن إنما إلى القمة. يراهم الناس في فخارهم الكذوب أهل الأبهة، ولا ينشغلون بما اقترفوه من ذنوب، فقلت له:

ـ في الأفلام القديمة لم تكن الجريمة تفيد.

ابتسم، وسألني:

ـ وما الحال الآن؟

أجبته:

ـ اللصوص والقتلة يجلسون فوق أعناق الناس.

ـ هذا هو الواقع.

ـ وفي الأفلام الجديدة أيضًا.

حاولت أن أجره إلى ما سمعته حيث يجلس المتعبون من التجارب المريرة، على أريكة تئن من طول الجلوس، يضغطون أزرة "الريموت" فيعبرون نشرات الأخبار الكاذبة، والبرامج التي تتوزع على دعايات وشكايات، ليصلوا إلى أول شاشة تتابع فيها الصور البيضاء والسوداء والرمادية. اقتربت منه، وقلت له:

ـ النكوص أفضل من الاكتئاب أو انفجار الشرايين من فرط الغيظ والضيق. 

هز رأسه، ثم قال:

ـ الأمر بالنسبة لي مختلف تمامًا، فما ينسيك أنت، يوقظ في نفسي أنا الغيظ والأسى.

تطلعت إليه في حيرة، لكنه لم يدع حيرتي تطول، فقال: 

ـ حين أجلس أمام فيلم قديم يجتاحني حزن، فإن طالت بي المشاهدة صار اكتئابًا.

سألته مندهشًا:

ـ كيف؟

ابتسم، وأجاب:

ـ في الأفلام القديمة أمل عظيم انتهى الآن إلى بوار. كل شيء كان واعدًا في هذا البلد، المدارس والشوارع ومكاتب والعمل والأسواق والمستشفيات. حين أرى كل هذا أتحسر على ما انتهينا إليه، وأفضل الانغماس في صور أيامنا، أتركها تنهمر على رأسي، لعلها تنسيني الوعد القديم، أو تحيلني إلى جزء مشوه من الحاضر، فلا يضنيني شيء.

وصمت برهة، ثم واصل:

ـ أفلام اليوم تشبهنا. هذا واقعنا الذي يجب أن نواجهه. أفلام الماضي كانت تحاول أن تجعل الحلم واقعًا.

ولاح لنا مريدون يلتفون حول شيخهم بحلقة ذكر في رحاب المسجد، يطوحون رؤوسهم غارقين في تمتمات وحمحمات راحت تتصاعد، حتى بلغت أسماع الجالسين. قام بعضهم والتحق بها. آخرون استمروا في قراءة القرآن. بعضهم تمدد تحت المراوح التي تهدي نسائم خفيفة في هذا القيظ الشديد. 

نظر الشاب إليهم، وعاد ينظر في عينيّ، وقال:

ـ هذا فيلم قديم أيضًا.

انزعجت لما قاله، إذ كنت قد عقدت العزم على أن أسعى نحوهم، وأنضم إليهم، لكنه خفف من انزعاجي حين قال:

ـ طلب المدد من الله ضرورة، لكن هؤلاء، في ظني، يشبهون المشدودين إلى فيلم قديم، يهربون فيه من أيامهم، أو يكتفون بالحسرة على ما فات، دون أن يكون لديهم أدنى استعداد لفعل شيء في سبيل الخروج من الضيق إلى البراح.

ابتسمت، وقلت:

ـ الوهم أرحم من العجز.

بادلني الابتسام، وقال:

ـ كلاهما مرض عضال، ولابد من شفاء.

ووجدته يمسك بدي، ويجذبني نحو الحضرة، حتى انخرطنا فيها. أغمضت عيني مستسلمًا للتمتمات والحمحمات، التي لم تلبث أن ذابت في إنشاد طلي. ووجدتني شاردًا إلى شاشة يتطوح فيها الذاكرون، بينما يقف بطل فيلم "اللص والكلاب" حائرًا أمام الشيخ وهو يقول له: "مرحى للدنيا إن اقتصر أوغادها على ثلاثة".

فتحت عيني خلسة، ونظرت إلى الشاب من بين قطرات الدمع التي تحدرت في مقلتيّ، فوجدته مفتوح العينين، يطالع الرسوم الملونة المفروشة في سقف المسجد، ويبتسم.