محمود سلطان يكتب: "الثالوث" الغامض.. «الوطن - المواطن - المواطنة.. !!»

الكاتب محمود سلطان
الكاتب محمود سلطان

يقول عنتر بن شداد، الذي عاش في الربع الأول من القرن السادس الميلادي (525مـ ) ومات بعد 8 سنوات من بداية القرن السابع الميلادي 608( مـ) :

"يُنادونَني في السِلمِ يا اِبنَ زَبيبَةٍ

وَعِندَ صِدامِ الخَيلِ يا اِبنَ الأَطايِبِ"

ويقول الشاعر السوري محمد الماغوط الذي عاش ما بين ( 1934 و 2006 )

"عندما يُبتلى الوطن بالحرب ينادون الفقراء ليدافعوا عنه .. 

وعندما تنتهي الحرب ينادون الأغنياء ليتقاسموا الغنائم"..أ.هـ

تقريبا ذات المعني الذي قاله عنترة في القرن السابع الميلادي.. فهل ثمة ما تغير في "علاقات السلطة" داخل المجتمع العربي سياسيا وثقافيا وقانونيا؟!

ما قاله "عنتر"..و"الماغوط"، يناقش جدل العلاقة بين هذا الثالوث "الغامض" والمتناقض في بلاد العرب: "المواطن، الوطن، المواطنة".. وهو الثالوث الذي يستخدم في خدمة عنصر رابع "السلطة" وتبرير القمع ومصادرة الحريات بحيث لا يبقى في نهاية الأمر لا مواطن ولا وطن ولا مواطنة!!. 

في فيلم "عسل أسود".. إنتاج عام 2010، بطولة أحمد حلمي وإدوارد وإنعام سالوسة وإيمي سمير غانم.. القصة التي كتبها خالد دياب، انتهت بانتصار "المرمطة/الوطن" على " الإنسان/المواطنة"!!

كانت الأغنية التي غنتها ريهام عبد الحكيم، من كلمات نور عبد الله وألحان وليد منير.. قد لخصت جدل العلاقة بين هذه المتناقضات الثلاث داخل الحالة المصرية: الوطن،المواطن والمواطنة.

الأغنية تُستهل بهذه الفقرة:

"بالورقة والقلم خدتيني ميت قلم

انا شوفت فيكي مرمطة

وعرفت مين اللي اتظلم"

وفي إشارة صريحة إلى "حقوق المواطنة".. ترى الأغنية أنها تمنح لذوي "الشعر الأشقر والعيون الزرقاء/ الأجانب" وليس للمصريين.. تقول الكلمات في هذا الصدد:

"ليه اللي جايلك اجنبي

عارفة عليه تطبطبي

وتركبي الوش الخشب

وعلى اللي منك تقلبي"

ثم تنتهي بهذه الفقرة "المراوغة" التي عادة ما تكتب للإفلات من تهمة "خيانة الوطن"

"طرداك وهي بتحضنك

وهو ده اللي يجننك" أ.هـ

والفيلم من أوله لآخره.. سردية .. وسيرة ذاتية للمواطن "مصري/أحمد حلمي"، الذي رأى من "المرمطة" ما يحمله على الهرب من جحيم البيرواقراطية المصرية العجوز إلى أي بلد آخر يحترم حقوق الإنسان والمواطنة.. مع ذلك فإن المواطن "مصري/ أحمد حلمي".. يدَّعي المرض وهو على متن الطائرة التي تقله من مصر إلى الولايات المتحدة الأمريكية التي يحمل جنسيتها لتعود به بعد إقلاعها إلى مطار القاهرة في إشارة إلى أن "نار" الوطن انتصرت في النهاية على "جنة" المواطنة!!

وينسب إلى الراحل جلال عامر قوله " لا نختلف مع الوطن.. حتى لو كان الوطن مجرد مكان ننام على رصيفه ليلاً"! أ.هـ

النص ـ هنا ـ أيضا "مراوغ".. فالنوم على الأرصفة يعني أن "المواطن" فقدَ جميع حقوقه كمواطن وتحول إلى "متسوِّل" لا يجد "عِشَّة" فوق السطوح تأويه وتحفظ كرامته وتستر عورته.. ومع ذلك ـ بحسب كلام جلال عامرـ يمكن إسالة المقولة إلى : "عِشْ مثل الكلاب أو الحيوانات في الشوارع وعلى الأرصفة "ولا تختلف مع الوطن"!!  كما لو كان الوطن كائنا حيا نختلف ونتفق معه!!

وكأن الشاعرالسوري محمد الماغوط كان يرد على كلام "عامر" .. يقول الماغوط: 

" من الغباء أن أدافع عن وطن لا أملك فيه بيتاً".. وفي موضع آخر يقول :" الوطن حيث تتوفر لي مقومات الحياة، لا مسببات الموت ثم يختتم كلامه بهذه العبارة المؤلمة: 

عليك أن تفهم أن في وطني تمتليء صدور الأبطال بالرصاص وتمتليء بطون الخونة بالأموال ..  ويموت من لا يستحق الموت على يد من لايستحق الحياة" ..

وهذا ليس بعيدا عن قول عنترة العبسي (القرن السابع الميلادي) أو أمل دنقل (في القرن العشرين).. يقول الأخير في "قصيدة البكاء بين يدي زرقاء اليمامة":

    قيل ليَ: اخرسْ..

   فخرستُ.. وعميت.. وائتممتُ بالخصيان!

   ظللتُ في عبيد (عبسٍ) أحرس القطعان

   وها أنا في ساعة الطعانْ

   ساعةَ أن تخاذل الكماةُ.. والرماةُ.. والفرسانْ

   دُعيت للميدان!

   أنا الذي أقصيت عن مجالس الفتيان،

   أدعى إلى الموت.. ولم أدع إلى المجالسة!

************

وفي "الكعكة الحجرية" يقول دنقل:

   دقت الساعة الخامسة

   ظهر الجند دائرة من دروع وخوذات حرب

   ها هم الآن يقتربون رويدا.. رويدا..

   يجيئون من كل صوب

   والمغنون - في الكعكة الحجرية - يَنقبضون

   وينفرجون

   كنبضة قلب!

   يشعلون الخناجر،

   يستدفئون من البرد والظلمة القارسة

   يرفعون الأناشيد في أوجه الحرسِ المقتربْ

   يشبكون أيديهم الغَضَّة البائسة

   لتصير سياجا يصد الرصاص!

   الرصاص..

   الرصاص..

   وآه…

   يغنون "نحن فداؤك يا مِصْرُ"

  "نحن فِداؤ…"

   وتسقط حنجرة مخرسة

   معها يسقط اسمُكِ يا مصرُ في الأرضِ

   لا يتبقى سوى الجسد المتهشم والصرخات

   على الساحة الدامسة

   دقت الساعة الخامسة

   دقت الخامسة

   دقت الخامسة

   وتفرَّقَ ماؤكَ - يا نهرُ- حين بلغت المصب!

يقول نزار قباني في رائعته "إلى أين يذهب موتي الوطن":

بلادٌ بِكَعْبِ الحذاءِ تُدارْ ..

فلا من حكيمٍ ..

ولا من نبيٍّ ..

ولا من كتابْ .

بلادٌ ..

بها الشعبُ يأخذُ شَكْلَ الذُبابْ!!

بلادٌ ..

بلادٌ .. يديرُ المسدس فيها شؤون الحوارْ

بلادٌ يُسيِّجُها الخوف،

حيثُ العُروبةُ تغدو عقاباً ..

وحيثُ الدَعَارةُ تصبح طُهْراً

وحيثُ الهزيمةُ تغدو انتصارْ ...

لا شك في أن "مركزية" الوطن كـ"رابطة روحية"، اهتزت كثيرا، بعدما باتت مناظق شاسعة من العالم العربي.. طارده لـ"المواطن" في اتجاه البحر والقوارب الفلين والموت.. وهي الظاهرة التي ربما قد أعادت النظر في هذا الثالوث، وإعادة طرح الأسئلة بشأن "الهوية" و"الوطن" على وجه التحديد، ونقل الأخير من مفهومه التقليدي "حيز الجغرافيا" بكل ما يحمله من عمليات قسر جماعي، لاخضاع الإنسان تلقائيا لـ"القمع" وتبريره أو التعايش معه باسم "الوطن" وإلا اتهم بـ"الخيانة".. ونقله إلى مفهوم أكثر انفتاحا واتساعا، قد يتماس تقريبا مع المفهوم القرآني " قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا".. حيث تتوفر شروط "الكرامة".. فلا وطن ولا مواطن ولا مواطنة بلا كرامة.