فراج إسماعيل يكتب: جامعاتنا الخاصة والدفع بالدولار

ذات مصر

سوق الصرف لا يستقر  أو يهتز من تلقاء نفسه، لكن بفعل تدخلات اقتصادية. ولأن الدولار هو القوة الأعظم في سوق الصرف وأداة سيطرة العظماء على العالم والممر الذي يسلكه الفقر والجوع والعوز إلى ملايين البشر، فسيظل صداعا في رأس الدول التي تعاني التوترات الاجتماعية والسياسية ونقص السلع والخدمات.

النيجر دولة غنية باليورانيوم والذهب. 75% من الطاقة النووية في فرنسا تعتمد على يورانيوم النيجر، ومع ذلك تقبع في ذيل الفقر العالمي بسبب ندرة الدولار.

المنظمات الاقتصادية المنافسة للأسواق الأمريكية والأوروبية تكافح لتقوية عملاتها المحلية وجعلها عملة التبادل التجاري بينها. حاولت وفشلت إلا قليلا جدا.

روسيا كدولة عظمى معادية لهيمنة الدولار، استغاثت من جبال الروبية الهندية التي تكومت لديها بلا تصريف، ما يعني أن تبادلها التجاري مع الهند الذي انتقل من الدولار إلى عملتيهما المحليتين كبديل عن الدولار انتهى بترليونات من الأوراق التي لا تسمن ولا تغني من جوع.

اليوان الصيني الذي يمثل امبراطورية صناعية واقتصادية تنافس الولايات المتحدة على المركز الأول عالميا، لم يستطع مناطحة الدولار. حقق نجاحات نادرة مع اقتصاديات فقيرة، لكنه بعيد جدا عن أن يكون بديلا أو منافسا.

أمريكا تعرف إمكانيات ورقتها الخضراء جيدا ولذلك تعاقب بها الخارجين عن السرب. جمدت أموال روسيا وإيران التي حصلت باتفاقية تبادل السجناء مؤخرا على جزء يسير من مليارات الدولارات المجمدة من مبيعاتها النفطية، ومع ذلك ستُودع في حسابات خاصة إيرانية في قطر، لا تصرف منه إلا لسلع وخدمات غير خاضعة للعقوبات الأمريكية.

نحن هنا في مصر، نعاني أزمة دولارية كبيرة. نحتاج الدولار لنستورد القمح والأرز اللذين لا بديل عنهما لاستمرار الحياة. كل السلع الضرورية بدءا من لقمة العيش حتى الأدوية، لا سبيل إليها إلا بالدولار.

هناك من يتساءل ساخرا: وهل يدخل الدولار في حزمة الجرجير والبصل والطماطم والخيار التي ضربها الغلاء مع أننا نزرعها على أرضنا؟!..

الواقع أننا نطعمها ونسقيها من مكونات نشتريها بالدولار، وهذه أزمة تسببت فيها أخطاء حكومات شلت قدرتنا الصناعية، فلم نعد نصنع إلا الفتات، ونعجز عن صناعة الإبرة والدبوس وماكينة الري والأسمدة وآلات الحصاد والحرث، فنستوردها بمليارات الأوراق الأمريكية الخضراء.

وهذا هو سر العلاقة الحميمة بين حزمة الجرجير والدولار، فإذا قالت لك البائعة الفقيرة مبررة ارتفاع سعرها أو سعر حزمة النعناع "الدولار غالي يا بيه" فلا تضحك منها!

نحن نتحدث عن أدنى سلعة وأرخصها وعلاقتها بالعملة الصعبة، لكن لا نجد مبررا واحدا لأن تفرض الجامعات الخاصة على الملتحقين بها من المصريين دفع مبلغ سنوي بالدولار بالإضافة إلى قيمة المصروفات بالجنيه.

جامعة شهيرة في القاهرة الجديدة حددت في لائحة الرسوم نحو 1700 دولار سنويا تدفع مناصفة مع الترم الأول والثاني، بالإضافة إلى مصروفاتها بالجنيه المصري. ظننت أن الدولارات تقيم بالسعر الرسمي ويدفع الطالب مقابلها بالجنيه، لكن الموظفة صعقتني بأن القيمة الدولارية تدفع بالدولار!

هذه الجامعة يملكها رجل أعمال مصري، وجميع موظفيها وهيئة تدريسها من المصريين الذين يتقاضون رواتبهم بالجنيه.. فما سر علاقتها الحميمة بالدولار؟!..

ظللت ليلة بنهارها أبحث عن السر، كبحث المرحوم الممثل حسن عابدين عن سر شويبس. عثرت على مبررات عديدة لعلاقة حزمة الجرجير بالدولار، ولم أجد مبررا واحدا للجامعة الخاصة.

ليست تلك حالة فريدة. ملأت طلبا إلكترونيا لجامعة خاصة في مدينة أكتوبر، أعلنت أسعارها بالجنيه المصري بالنسبة للمصريين.

بعد عدة أيام وصلتني رسالة بقبول طلبي، ويجب الحضور لمقر الجامعة قبل 15 أغسطس ومعي 33100 جنيه مصري كاش و440 دولارا أو 320 جنيها استرلينيا، قيمة الدفعة الأولى، والدفع نقدا، ولا يتم قبول الفيزا أو التحويل البنكي. الدفعة الثانية 49620 جنيها مصريا.

هذه الجامعة أيضا صاحبها مصري.. وينطبق عليها السؤال نفسه عن علاقة الدولار بها!

حل اقتصادي ذكي تسير عليه الأكاديمية العربية للعلوم والتكنولوجيا والنقل البحري التابعة لجامعة الدول العربية، وهي أكاديمية عريقة بدأت بمقرها الرئيس في الإسكندرية، وحاليا لها مقرات في مصر الجديدة والقرية الذكية والعلمين وبورسعيد وأسوان، واللاذقية في سوريا.

الدراسة الرفيعة والتنوع الأكاديمي الذي تقدمه هذه الأكاديمية وتبعيتها لجامعة الدول العربية ووجود مقرات خارج مصر، والتحاق طلاب غير مصريين بها، جعلها ذات علاقة حتمية مع الدولار، لكنها وضعت سعرا خاصا له، حوالي 14 جنيها هذا العام، ولا يزيد السعر سنويا على 10% مهما ارتفع سعره في السوق الرسمية والموازية. 
يدفع المصريون قيمة الدراسة بالجنيه المصري، فإذا كانت مصروفات إحدى الكليات مثلا 3000 دولار،  سيدفع الطالب المصري حاصل ضرب ذلك المبلغ في 14 جنيها.

والمحصلة أن الطالب المصري ليس مضطرا للنزول إلى سوق الصرف، وطرق باب سماسرة السوق السوداء ليشتري الدولارات التي تطلبها الجامعات الخاصة الأخرى، مما يشكل ضغطا على الجنيه وحربا شعواء على قدرته على البقاء والتنفس، ويضاعف من أزمة البلاد الدولارية.

فإذا كانت الدول الأخرى تحاول الخروج من الاستعمار الدولاري بواسطة تقوية عملاتها المحلية وجعلها عملة تبادلها التجاري مع الآخرين، فإن ثلة من جامعاتنا الخاصة تفعل العكس وتضرب رؤوسنا في الحيط!