هشام النجار يكتب: «مصرنة الإخوان».. هدية عبد الناصر التي رفضتها الجماعة!

ذات مصر

الزعيم المصري جمال عبد الناصر هو ثاني رؤساء جمهورية مصر العربية وأحد أبرز قادة ثورة 23 يوليو عام 1952م التي قادها (الضباط الأحرار) للإطاحة بالحكم الملكي، وإعلان الجمهورية المصرية العربية. 

قدم الرجل العظيم ذو المكانة السامقة بالوجدان المصري نصيحة ذهبية لجماعة الإخوان المسلمين، كانت كفيلة لو قبلتها وعملت بها أن تنقذها من كل ما مر بها من أزمات ومحن، ولظلت في مسرح الأحداث دون إقصاء أو حظر، ولبقيت إلى يومنا هذا بمسيرة مختلفة كليًا عن التي نعلمها جميعًا، تلك المشحونة بالصراعات والمثخنة بالجراح والموشاة بالدم والمملوءة بقصص السجون والمنافي والتشتت والتيه. 

أرى أن الوقوف على دروس تجربة ناصر عمومًا مع تيار الإسلام السياسي واستخلاصها مهم وضروري، بجانب مختلف دروس تجربته العامة المُلهمة عربيًا وأفريقيًا، إصلاحيًا وحضاريًا، لكن الوقوف على تلك النصيحة تحديدًا أراه الأهم على الإطلاق. 

لكن –وللأسف- على عادة جماعة الإخوان المسلمين؛ فمن قدم لها طوق نجاتها حاولت إغراقه في دمه أكثر من 13 مرة (وفقًا لتوثيق المخابرات البريطانية)، فضلًا عن المرة التي حاولت فيها اغتياله في المنشية بالإسكندرية، ومن أراد لها الفلاح والاستمرار ودوام الحضور سعت لتغييبه تمامًا ليس من المشهد السياسي بل من مشهد الحياة، ومن أراد لها السمعة الطيبة والذكر الحسن عمدت لتشويه صورته والطعن في إيمانه ووطنيته. 

ناصر رجل استشرافي مثقف ذو رؤية مستقبلية وقارئ جيد للتاريخ والواقع وللتيارات السياسية والفكرية المصرية والعربية، لذلك نشعر ونحن نتأمل نصيحته تلك للإخوان أن ما فعله وما قاله هو المناسب تطبيقه والواجب القيام به وتحقيقه الآن وقبل سنوات خلال ذروة الأحداث التي شهدت موجة صعود تيار الإسلام السياسي ومحاولات فرضه لما سعى لفرضه خلال خمسينات القرن الماضي، وهذا لمصلحته هو ولمصلحة استمرار وبقاء أجنحته وفصائله في المشهد، قبل أن يكون في مصلحة البلاد. 

جمال عبد الناصر الذي وُلد في 15 يناير 1918م، في حي باكوس الشعبي بالإسكندرية، لأسرة تنتمي إلى قرية بني مر بمحافظة أسيوط في صعيد مصر، كان حريصًا على إنجاح الثورة لذلك لم يُعطِ جماعة الإخوان المسلمين كل ما تريد من السلطة، لعلمه بأن قادتها سيفشلون وسيتم إسقاطهم سريعًا. 

وبالنظر إلى التحديات الدولية والغليان داخل الجيش، فقد حرص (ناصر) رحمه الله على مهادنة الجماعة محاولًا ترويضها، وكانت رؤيته أن الدول الغربية لن تقبلَ بتصدر الإخوان للمشهد السياسي لذلك عرضَ عليهم العمل تحت عنوان (هيئة التحرير)، وهي تنظيم شعبي يضم كافة القوى الوطنية بديلًا عن الأحزاب. 

أرادَ عبد الناصر من وراء هذا الإجراء دمج الإخوان في الدولة بمنحهم الجانب الشعبي لخدمة الثقافة الإسلامية، ولذلك اختارَ لهم أيضًا حقيبة الأوقاف – واقتنع الشيخ الباقوري الذي كان وكيلًا لمرشد الإخوان فقبلها ففصلته الجماعة –. 

كان هدف عبد الناصر واضحًا للإخوان من وراء تلك القرارات والإجراءات؛ فهو يريد تذويب الإخوان في جسد الدولة وتفكيك التنظيم ولضمه في قماشة الوطن ليصير جزءًا منه، وفطنت الجماعة لمراده فخشيت على كيانها من الانهيار، ووضعت تنظيمها في الأولوية وكرسوا عزلتهم ومفاصلتهم وطلبوا (عودة الضباط إلى الثكنات صاغرين)! 

فشلَ عبد الناصر في إحراز التحالف مع قيادة الإخوان التي اختارت المناورة بعد أن رفضت حل تشكيلات الجماعة في الجيش وحل جهازها السري، وهو ما يدل على عمق رؤية عبد الناصر التوافقية، وقد أصر عليها رغم ضيق نظر الجماعة فكان تحالفه مع بعض رموز الجماعة الذين ساندوه في مشروعه. 

إذن وجد عبد الناصر أنه لا مبرر لبقاء التشكيلات العسكرية والسرية للإخوان بعد قيام الثورة، وعمل على احتواء من يشترك معه في الرؤية من قادة الجماعة للاستفادة من خبراتهم. 

وكان هناك قطاع داخل الإخوان مع فكرة التكامل مع عبد الناصر والثورة، وأعاقتهم إرادة القيادة المتمثلة في المستشار حسن الهضيبي، الذي اختار النزاعَ إلى النهاية. 

الثورة حسب قناعات عبد الناصر أكبر من أن ينجزها تنظيم واحد، لذلك شرع في تشكيل تنظيم الضباط الأحرار داخل الجيش مؤلفًا من عدة تنظيمات، ومخالفًا رغبة قادة الإخوان أن تظل الجماعة هي التنظيم الأوحد. 

ورؤية عبد الناصر تتمثل في أن حل الجماعة والاندماج في الدولة كانت ستقي الإخوان من السقوط وستدمج كوادرها في مؤسسات الدولة الشرعية وهيئاتها المختلفة خاصة تلك التي تقوم بمهام تربوية وتثقيفية ودعوية. 

حديثًا، بعدما أصر قادة جماعة الإخوان إثر صعودهم للسلطة على إدخال الدولة في التنظيم (وليس دمج التنظيم في الدولة)؛ وسادت قناعة بأن قصر الاتحادية كان يُدار من مقر الإخوان في المقطم، كان ذلك سببًا رئيسيًا من أسباب ثورة يونيو 2013م، ليكتشف العقلاء أن رفض عبد الناصر لطلب وصاية الإخوان على قرارات الدولة سابقًا كان في محله. 

تشبث الإخوان غير المبرر بالتنظيم والجماعة حتى بعد الوصول إلى السلطة وزعامة الدولة عام 2012م، أثار القلق والتخوفات والهواجس بأن التنظيم قائم لأبعد من الوصول إلى حكم مصر كشأن أي حزب أو حركة سياسية، وأنه باق لتحقيق غايات أكبر وأهداف أشمل وأخطر وأبعد من الحدود المصرية، وأن التنظيمَ صارَ غاية في حد ذاته. 

في الحالتين (بعد ثورة يوليو 52م وبعد حراك يناير 2011م وصعود الإخوان للسلطة) كان الحل الوحيد هو تفكيك التنظيم وهدم هياكل الجماعة والالتحاق بالدولة والشروع في عملية (مصرنة الإخوان) لتذوب الجماعة ويُعاد صياغتها على كافة المستويات ليصبح كوادرها أكثر شبهًا بمصر والمصريين من حيث الهوية والفكر والثقافة والأهداف والتحالفات والتصورات والرؤى وطبيعة الخطاب والأداء. 

وما حدث في الحالتين عكس ذلك تمامًا؛ حيث أدار قادة جماعة الإخوان ظهورهم لنصيحة ناصر الذهبية وأبقوا على التنظيم وخططوا أن يبلع هو مصر، لا أن يكون هو جزءًا منها وخططوا (لأخونة مصر، لا لمصرنة الإخوان). 

نسأل: ماذا استفادت جماعة الإخوان من استمرار تنظيمها طوال مائة عام تقريبًا؟ فيمَ ظل سر البقاء والاستمرار في المشهد هو تغييب التنظيم وحله ذاتيًا ومن ثم الذوبان في المشهد الثقافي والسياسي والفكري وتحقيق الإنجازات والإبداعات الفردية والجماعية فيه عبر الأحزاب والهيئات المشروعة تحت رقابة الدولة وأجهزتها، خاصة وأن الهدف من تشكيل كيان ما قد تحقق وهو التغيير وانتصار (الحركة المباركة) وتأسيس الجمهورية في الخمسينات، والوصول لقمة السلطة بعد 2011م. 

لا يفيد البكاء على اللبن المسكوب، لكن هذا الطرح موجه لمن لم يقرأ بعد هذه الإشارات الدقيقة، وهو مهيأ بالتأكيد لسكب أكواب لبن أخرى والبكاء عليها، وما يعفي من هذا كله هو الوقوف على دروس التاريخ المصري قديمه وحديثه. 

وباختصار فالواقع السياسي المصري لا يحتمل حضور كيانات مريبة مغلقة غامضة التوجه والأهداف وغير خاضعة للتدقيق والفحص والمراقبة ماليًا. 

ما دام التنظيم قائم فهو غير مستعد للتعامل معه، كونه كيان بشري يصيب ويخطئ ويصعد ويهبط ويفوز ويخسر، كما أن أهدافه ستظل متجاوزة للحدود المصرية ومخترقة السقف الوطني المصري. 

ولو صعد من هذا التنظيم أو ذاك يومًا ما بعد عمر طويل كادر ليصبح ثاني رئيس إسلامي بعد الدكتور محمد مرسي فسيفشل لا محالة وسيكرر تجربة الفشل نفسها؛ لأن جيناته وتكوينه الذهني والفكري وانتماءه التنظيمي يعوقه أن يكون رئيسًا لكل المصريين، وأن يكون خادمًا فقط للمصالح الوطنية المصرية.