هشام النجار يكتب: محفوظ نحناح ومحمد مرسي.. الحِنكَة والمظلومية

ذات مصر

يصلح هذا المقال كتتمة للمقال السابق المنشور لي بمنصة (ذات مصر) بتاريخ 9 أغسطس 2023م بعنوان (فض رابعة 14 أغسطس 2013م .. قفزة الجهاديين وكبوة الإخوان).. وأتت لي فكرته وأنا أتابع وقائع غرائبية بشأن استمرار جماعة الإخوان إلى اليوم في ارتداء ثوب المظلومية، عبر بث فيلم عن رابعة (وفقًا لرواية الجماعة) من لندن.
تجري أنهار السياسة وتهب أعاصيرها، وفي اليوم الذي تطرأ بالساعة الواحدة بل بالدقيقة آلاف المستجدات على الساحات المحلية والإقليمية والعالمية، وتنشب حروب وتهبط دول وتتفكك وتصعد أخرى وتقوى وتجرى تغييرات وتعقد تحالفات وتحصل تحولات كبرى.. لا تزال جماعة الإخوان جامدة عند لحظة رابعة تولول بمظلوميتها المزعومة.
كلنا يعلم تفاصيل تجربة الإخوان في مصر؛ دعوني أذكر بخطوطها العريضة؛ كونت قاعدة جماهيرية جيدة إلى 2010م وامتلكت بعض أدوات القوة والنفوذ الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، وما إن لاحت تجربة مشاركة حقيقية بعد 2011م لم تتطور منهجيًا وبنت حزبًا على (سِمِلات) الجماعة وارتدت بدلة فوق جلباب التنظيم، ولم تصنع منهجًا جديدًا يناسب نشاط حزبي وطني محلي بل ارتبطت بمشروع إقليمي وظلت أهداف إقامة دولة المرشد مترامية الأطراف بالمجال السني الإقليمي والفضاء الإسلامي العالمي هي السائدة، وافتقرت في تجربتها الأولى في الحكم للكوادر السياسية الحقيقية وللخبرات المبدعة المتخصصة في مختلف المجالات.
وعندما قيل لهم كفى فالتجربة فاشلة ونحتاج التغيير واستريحوا بعض الوقت ريثما تنضجوا وتكونوا رؤى أعمق وتمتلكوا برامج أكثر قابلية للتنفيذ وتربوا كوادر محترفة، قالوا لا لن نفارق مناصبنا ولن نبرح كراسينا التي هي منحة من الله لنا، وعندما خرج الشعب رافضًا والجيش والمؤسسات مُؤازِرَة، رفعوا أصواتهم على لحن كربلائي سقيم: (نحن مظلومون)، ولا يزالون يرددونها إلى اليوم من مدينة نصر إلى إسطنبول إلى كوالالامبور إلى لندن... مظلومون مظلومون مظلومون..
وكان الدكتور محمد مرسي رحمه الله هو أول من تلبس بهذه الحالة وبدلًا من أن يتعامل كسياسي محترف وينحني للعاصفة ويظل في المشهد ولو في مركز أقل إلى حين، ليقدر على الوقوف مجددًا ممتلكًا أدوات جديدة في واقع متغير، ارتضى واستسهل التلبس بالمظلومية المُدعَاة.
وفي الحقيقة أرى أن من يجمد على وضع ويسير عكس اتجاه سريان الأحداث ويصم أذنه عن سماع من تحدث عن الخلل والقصور بل والكوارث المُحدقة وأن هناك فشل وعجز وتواضع أداء وقلة خبرة زاعمًا بأن كل شيء على ما يرام، فهو من ظلم نفسه وتياره وأتباعه وجماهيره.
تعالوا بالمقابل نتعرف على تجربة غائبة عن كثيرين، وهي لأحد القادة الإسلاميين القلائل الذين فطنوا لأهمية المشاركة والتحالف وامتلاك الحِنكَة والحِرْفَة السياسية والنَفَس السياسي الطويل، وتحصن ضد كارثية سلوك الاستعداء والاستعلاء على الواقع والقوى السياسية الأخرى وتكثير الخصوم، علاوة على نفوره من استسهال الانعزال السريع عن الواقع فور تلقي أول هزيمة سياسية والصياح خارج الحلبة (مظلومون مظلومون)، كان هذا هو الراحل القيادي الإسلامي الجزائري الكبير محفوظ نحناح رحمه الله الذى فارق دنيانا يوم 19 يونيو عام 2003م بعد معاناة مع المرض.
كان نحناح عضوًا بمجلس شورى التنظيم العالمي للإخوان، وقد عارض وناضل وسُجن وعُذب، ثم شارك فى انتخابات الرئاسة الجزائرية عام 1994م لكن تم تزوير الانتخابات لصالح الأمين زروال وكان الفائز الحقيقي بها هو محفوظ نحناح! 
الجميع كان يعلم من هو الفائز، لدرجة أنه عندما حدثت أزمة طارئة بين زروال وقادة الجيش قال (زروال) للجنرالات (ذات شمخة كاذبة): أنا الرئيس المنتخب، فذكروه بما قد كان فى أمر الانتخابات وقالوا له (احنا دافنينه سوا): أنت تعرف جيدًا من هو الرئيس المنتخب (يقصدون نحناح)، فابتلع لسانه ثم أطاحوا به.
محفوظ نحناح رحمه الله نموذج ديناميكى حيوي حاسم للإسلاميين، فهو عالم فقيه ناضج الفكر والرؤى لا يتحرك اعتباطًا ولا يتخذ قرارًا ولا يخطو خطوة الا بناءً على دراسة وتأمل واعتبار المصالح والمآلات، لكنه سريع وحاسم فى اتخاذ القرارات المصيرية.
يقدم محفوظ نحناح المشاركة على المفاصلة والحلول المرنة على تلك الحادة الباترة، حتى ولو أراد من هم في عِداد خصومه السياسيين جره إليها بالإمعان فى ظلمه سياسيًا، وكان من القلائل الذين حذروا من الوقوع فى هذا الفخ، مُقدمًا المصلحة العامة على حظوظه ومصلحته الشخصية، باحثًا عن نقاط التلاقى والقواسم المشتركة مع سائر أبناء الوطن، والأهم من كل ذلك أنه لا يستسهل ولا يستسلم لوهم المظلومية، بل يظل للنهاية في المشهد بخبراته وآرائه وطموحاته وبرامجه وحلوله البديلة ومعارضته البناءة ورؤاه المبدعة ومبادراته الناضجة، يعلو ويهبط ويلمع ويخفت ويُضرب تحت الحزام (سياسيًا) ويرد الضربة ويصمد ويناور كشأن أي سياسي متمرس.
كان نحناح رحمه الله دائمًا صاحب المبادرة وحتى فى أشد أحواله مظلومية لم يجلس ليولول (أنا مظلوم) دقيقة واحدة (فما ظنك بعشر سنوات؟)، لأنه كان يعي جيدًا أن بناء العلاقة الجيدة بين الاسلاميين والسلطة بالتوازن المطلوب على أساس المبادئ الوطنية المشتركة هو المُستهدَف، وأن ما تدبره وتريده بعض القوى ل (الحركة الإسلامية) أن تبقى شاردة خارجة عن الشرعية وإطار القانون مُتهمة بالعداء للحلول والشراكات الوطنية متلبسة بالعنف والعشوائية واللجوء للسلاح، مما يعطى المُسِوغ للانقضاض عليها بعد تشويهها واستباحتها.
أنا أسأل هنا الجميع سؤالًا سألته لنفسي مرارًا وأراه السؤال الأهم على الإطلاق في مسيرة تيار الإسلام السياسي منذ نشأته لليوم بل وإلى الأبد: (هل الدول والأنظمة العربية تكره الأحزاب والجماعات الإسلامية، ولماذا تكرهها؟ وماذا تجني من عدائها ومحاولة إقصائها واستئصالها (راجعوا تجربة ناصر والسادات ولم يأتِ رئيس لمصر إلا وهواه عربي إسلامي)... أم أن المشكلة هي لدى فصائل هذا التيار بأمور وأفكار وممارسات لا تُحتَمل في وطن؟ وهل من يسعى لاستئصالها المؤسسات أم تيارات سياسية منافسة تستفز الإسلاميين فيقعون في أخطائهم الوجودية فتضطر الدول والحكومات للتعامل معهم بما يقتضيه القانون؟).
محفوظ نحناح من خلال استقرائي لتجربته الثرية أظنه كان يعلم جيدًا إجابة هذا السؤال؛ كان يدرك أنها مؤامرة من قوى سياسية لا تريد للإسلاميين الحضور والاستمرار في المشهد (ليست الدولة ولا مؤسساتها ولا الشعب بدليل أن هؤلاء جميعًا قبلوا بجماعة الإخوان شريكة في المشهد السياسي بعد 2011م وقبلها –رغم الماضي الدموي-، بل وطرفًا في السلطة على رأس كرسي الرئاسة والبرلمان والحكومة في كل البلاد العربية تقريبًا).
رآها نحناح كما رأيتها أنها محاولة من قوى سياسية منافسة لاستفزازهم ليتورطوا ويرتكبوا أغلاطهم المكررة، لدرجة أنني قلت لبعض القادة الإسلاميين في مصر أثناء ذروة أحداث العام 2012م ممازحًا وجادًا (تنحنحوا أي كونوا كنحناح الجزائر)، لكن يحول الإسلاميون عادة محاولة خصومهم السياسيين لمؤامرة ناجحة بإدهاش الخصوم بالتلبس بتفاصيلها وأحداثها ومواقفها حتى النهاية بدلًا من إجهاضها، كأن يقول الآخرون لأبناء تيار الإسلام السياسي: كونوا إرهابيين ومارسوا العنف والاغتيالات، فيستجيب الاسلاميون على الفور (سمعًا وطاعة فنحن أحق بوصف الإرهاب وأهله)! فهل هذا يُعقل؟ وما هذه الخفة وتلك السذاجة؟
كان محفوظ نحناح رحمه الله هو صوت الحكمة خلال عشرية الدم الجزائرية، وحاول منع وقوع الكارثة بعد أن فقد الجميع الرشد وطغت فتاوى الثأر وصارت الجزائر تصحو وتنام على مجزرة، وسقط أكثر من مائة ألف قتيل وأصبحت الدولة الجزائرية مُهددة بالسقوط أو التقسيم.
اتهمته الجبهة الإسلامية للانقاذ (FIS) وقطاع واسع من الإسلاميين الجزائريين حتى داخل حركته "حركة مجتمع السلم" بالخيانة والعمالة والتخاذل والتواطؤ مع الجيش – كالعادة -.
لكنهم لاحقاً أيقنوا مدى صوابية رؤيته ومدى حنكته السياسية ومدى تجرده ومصداقيته وحرصه على ألا يُستأصل التيار الاسلامى بحجة الحفاظ على الدولة وألا يكون مجرد ترس فى آلة استهداف الإسلاميين وإقصائهم.
ورغم ما فعله الجيش عندما زور الانتخابات وحرم محفوظ نحناح من كرسي الرئاسة الذي يستحقه، لم يغادر ولم ينعزل ويتقوقع ولم ينفصل مُوَلوِلًا (أنا مظلوم)، بل اختار السياسي المحنك الاستمرار في المشهد والمشاركة بمستوى أقل من الحضور والنفوذ للحفاظ على الدولة أولًا، وعلى بقاء تياره في المشهد ثانيًا ليدور مع عجلة السياسة علوًا وهبوطًا وفقًا لطبيعتها وسننها.
تمامًا مثل مباريات الكرة؛ فهل يصح للاعب أو فريق مغادرة المباراة قبل إكمالها لمجرد تلقي فاول أو الزعم باستحقاق ضربة جزاء لم يحتسبها الحكم، وهل يُحسب لاعبًا محترفًا أو فريقًا متمرسًا من يبرر إصابته بهدف بالظلم التحكيمي ليغادر المباراة ويجلس على الخط صائحًا: أنا مظلوم؟؟
ورغم يقين محفوظ نحناح بظلمه وبأنه الفائز فى انتخابات الرئاسة وبأن الانتخابات تم تزييفها لصالح مرشح الجيش، الا أن نحناح استمر ليقطع الطريق أمام المتربصين وسعيًا لإنهاء مسلسل الدم وحفاظًا على المكاسب القليلة التى حققها الاسلاميون على يديه فى هذا المناخ الثأرى الدموى الاستئصالي.
وبالفعل ثبت يقينًا أن نحناح كان على صواب وأن منهجه المشارك الصبور هو الأقرب للقبول والمعقولية والأكثر ملاءمة وفاعلية للتعامل مع المتغيرات والأحداث، واعترف بذلك كثير ممن هاجموه وتطاولوا عليه، لكن بعد فوات الأوان.
افتقد تيار الإسلام السياسي في مصر نموذجًا قويًا محترفًا محنكًا جسورًا كمحفوظ نحناح رحمه الله، يحميها من نفسها ومن خيارات قادتها المُهلكة ومن نَفَسِها القصير في مضمار السياسة الطويل ومن مكائد خصومهم السياسيين، ويحمي مكتسباتها القليلة التى تحققت على أرض الواقع.
لا أدري أكان الدكتور محمد مرسي رحمه الله واقعًا تحت ضغط جماهير تياره واختيارات قادة جماعته أم كان هذا هو اختياره الشخصي، لكنه اختيار لا صلة له بالشأن السياسي ولا ينتمي لأدبيات السياسة وأدواتها وينم عن استسهال ونَفَس قصير، والمشهدان لا يختلفان؛ فالدكتور مرسي تشبث رغم كل الكوارث والمخاطر والفشل بالكرسي، أما نحناح الذي ثبت أنه كان هو الرئيس الشرعي فقد تنازل عن هذا الحق، ولم يمنعه ذلك من المشاركة فى الحكومة وأن يرضى بالقليل من المناصب ليحمى حركته من التصفية والتهميش ويُسهِم فى الحفاظ على الدولة وجيشها.
السياسة يا سادة لعبة محترفين لا هواة ومن يُضرب فيها لا يتوجع ويقول (آه أنا مظلوم)، بل يكتم ألمه ويواصل ليقوى ويرد الضربة بأدوات السياسة ومناوراتها وخدعها، وهي أيضًا ليست خطًا مستقيمًا فلا يدرى أحد ما تخبئه الأيام من تطورات ومتغيرات على الساحة، وصديق الأمس قد تفقده اليوم وحلفاء اليوم أعداء الغد، والقوي غدًا قد يضعف والضعيف قد يقوى.
سألني صديق مؤخرًا عن محصلة العشر سنوات الماضية (2013-2023م) فقلت له: يا عزيزي الدول تتعلم وقد استوعبت مجمل تاريخ وتفاصيل ودروس الصراع، أما الإسلاميون فسرعان ما ينسون. 
يضر قادة الإسلاميين حركتهم باستمرار ويقدمون هدايا ذهبية لخصومهم ويظل تبنى خيار المواجهة والعنف والسلاح هو الهدية الأكبر التى تضاعف من أعداد الكارهين لهم وتقلب المعادلة الجماهيرية وتنقلهم من مربع الإنجاز والحضور القوى الى مربع العزلة واتهامهم بالإرهاب فيسهل ضربهم وتحييدهم وتسهل هزيمتهم.
ويظل خطؤهم الكبير كما ذكرت لهم قبل عقد من الزمان (أنهم لم يتنحنحوا)!