علي الصاوي يكتب: ثُنائي الغدر

ذات مصر

عندما يتمكّن الإنسان بحِيل ماكرة من أن يؤذي غيره نفسيا لإفساح الطريق لنفسه بلا قيود تُكبّله أو أصفاد تَحُول بينه وبين غايته، يتحول إلى مسخ بشري بأنياب ومخالب، جلده جلد إنسان وفعله فعل الشياطين، ويزداد الأمر سوءا إذا كان هذا الشخص وثيق الصلة بك رحما أو نسبا، وبدلا من أن يُقدّر ثقتك ويحفظ رحمك ويصون عشرتك، يبارد بانتهاكهم على صخرة مصلحته الخاصة وغايتة الرخيصة.

وظلم ذوي القربى أشد مضاضة

على النفس من وقع الحسام المهند.

وقصتنا اليوم مع ثلاثة أشخاص من رعايا المناطق النائية، تلك التي تعيش على هامش الحياة ثقافة وحضارة وحضورا، إلا أن أحدهما بلغ به الصيت مبلغه في غفلة من الزمن، وشقّ لنفسه بالمجهود تارة والمحسوبية تارة أخرى مكانة بين أقرانه من أبناء الطبقة الراقية بمدينة الألف مئذنة، اعتلى منبرا ثقافيا شكّل به صورة ذهنية جديدة لنفسه بين أهل قريته المهمشة، فكانوا يخلعون عليه من الصفات والمزايا النفسية ما ليس فيه تملقا في شخصه أو الإصابة من خيره، وهو بين هذا وذاك ينتفخ سَحره وتتعالى نفسه بين فئات اجتماعية أقل منه رتبة. 

لكن كعادة الأقدار لا يسلم الإنسان من فواجعها المفاجئة ولا سيناريوهاتها المكتوبة في عالم الغيب منذ أن خلق الله القلم، أصيب هذا اللامع الكبير بحادث أقعده في بيته مدة، وبدأ يتردد عليه صاحباه وكلٌ له غايته ومآربه، كان الأول صغيرا في العمر لكنه كبير القلب، يُكثر من زيارته ويقوم على بعض حاجاته وصلا للرحم والتزاما بالعُرف، دور إنساني أملته عليه القرابة المتجردة من المصالح والأهواء، لا يهمه سوى تمنى السلامة لصاحبه اللامع لينهص ويزداد لمعانا، كان يخدمه بحب لا تشوبه براجماتية فاسدة ولا مشاعر كاذبة، وكان الأقرب إليه رحما، وعندما أنجب بنتا جميلة واحتار في تسميتها اقترح اسما حديثا على الموضة الدارجة آنذاك فاستحسنه واعتمده. 

أما الثاني كان إنسانا متلونا بامتياز معبأ بالحقد يتصاغر أمام من يراه أفضل منه علما ومكانة في صورة وضيعة، تنطوي شخصيته على كومة من العُقد النفسية، أتاه الله من علم الوصولية ما أغناه عن باقي العلوم، جهله عليم بكل شيئ، كان هذا مبلغه من الثقافة في الحياة، يتسلل كالثعبان بين شقوق النفس الإنسانية وثغراتها ليزدها تصدعا واتساعا لينفث سمومه بُغية إصابه الهدف المرصود، وهذا ما فعله مع صاحبه اللامع طريح الفراش، كان يسعى لضرب عصفورين بحجر واحد، يريد أن يسيطر نفسيا وعقليا عليه متظاهرا بالحب والوفاء، ومنها يزيح من طريقه الشخص الأول البسيط مخموم القلب واصل الرحم الذي لا يعرف ما الذي يدبره له هذا الوصولي الحاقد، مرّت الأيام وصاحبهما اللامع بدأ يتماثل تدريجياً في الشفاء لكن الفجوة كانت تزداد بينه وبين الشاب الأصغر والأقرب من دون أن يعرف السبب، قدم معروفا ولم يحصد إلا منكرا، حتى بدأ تآمر الوصولي يؤتى ثماره.

تآمر الاثنان عليه بعد أن تجاوبت الشخصية اللامعة مع الوصولي الحاقد لاستعدادها الطبيعي وارتفاع الإيجو النفسي بداخلها، كان يراه أقل منه رغم أنه مِنه، تجاوب ببطء لكثرة الزن على أذنيه بكلام باطل على صاحبهما الأصغر الذي يعيش في عالم آخر، يُعطي فيه بحب ويخدم بشهامة، ويأكل معهما آمنا مطمئنا لا يتوقع منهما الغدر والنقيصة، حتى كشفت الخواتيم كل شيء، حين تغيّرت حياة الوصولي تماما وارتفع على ربوة عالية، وكان قبل ذلك ملتصقا بوحل الأرض لا يقوى حتى على أن يتجاوز ركبتيه مكانة وسموا، كان قبل إذا رأيته تذكرت شخصية "دياب" أخو محمد أفندي في فيلم "الأرض" رائعة العبقري صلاح أبو سيف، كانت الأرض عالمه قبل أن تنقله خصاله الوصولية إلى عالم آخر مكافأة لما قدم من خدمات جليلة لصاحبه اللامع من حَمل الشنطة وخلافه، أما الآخر طيب القلب صائن العشرة، فقد لفظاه بعيدا ولم يذكره صاحبه اللامع بصاع من معروف أو مُد من احترام، فقد أوغر الوصولي صدره بكلام كله كذب وتلفيق ليبعده عنه ويغنم هو كل شيء، ويجني ثمار لؤمه ومكره. 

عندما كان يخرجان من زيارة صاحبهما اللامع أثناء مرضه يسرح به الوصولي كثيرا ويتظاهر بحبه ويكذب عليه بلا مروءة أو تذمم، وهو الغارق في معروفه لكن الغادر له لواء يُعرف به في الدنيا قبل الآخرة، لا يردعه رادع ولا يُذكّره المعروف بأن يرجع عن غدره، مضت الأيام وصاحبهما الأصغر يسأل نفسه: لماذا كانا هكذا؟ مستحيل أن يكونا من الصحبة والرحم بمكان، هذان خصمان في الحقيقة! وتذكر أيام الخروجات والعزائم وجلسات السمر في الليل وسط مجاملات فاترة وود مصطنع، فأنشد يقول:

ما القرب إلا لمن صحّت مودته

ولم يخنك وليس القرب بالنسب.

لم يكترث أصغرهم  بكل ما حدث وانطلق وراء حلمه يبنى نفسه بعزم وجَلد متحديا انتظارهما الشماتة فيه، حتى رفع الله ذكره بين الناس، ولمع اسمه في عالم آخر أسمى من عالمهم، وكلما ارتفع درجة كان يشعر بهما يتميزان من الغيظ ويفيضان حقدا وحسدا من عند أنفسهم لنجاحه في نفس ميدانهم بل وأكثر من ذلك، اكتشف حقيقتهما متأخرا، فكان الأقرب إليه هم الأكثر كراهية له والأبعد مكانة عنه، لكن الأسوء من ذلك أن صاحبهما المغدور كفر بالرحم وأهله ولم يعد يثق في أحد، وتلك ثمرة مرة تقتل أسمى خَلاق ركبه الله في الإنسان وهو صلة الرحم، ولو أحسّ المؤذي هذه الحقيقة لما هان عليه، لكن لا يحسّ إلا من كان له قلب أو ألقى السمع.

قد تكون أرحامك أقرب عدو لك وأنت لا تشعر، لن يحبوك أبدا مهما أسديت لهم، فإذا ابتليت بهم في حياتك، اعتزلهم وما يعبدون من شهوات وأنانية وأحقاد من دون الله، كرامة لك وحماية من شرهم.