محمد حماد يكتب: الرئيس الذي أمنحه صوتي

ذات مصر

مشكلة مصر المزمنة: «حكامها»، وهم أزمتها المستحكمة، حل المشكلة وتجاوز الأزمة شرطُه يكمن في: «إخراج مصر من جعبة الحاكم».

هذا التشخيص لأزمة مصر ومشكلتها ليس من عندياتي، ولكنه تشخيص العبقري جمال حمدان في رائعته الكبرى «شخصية مصر». 

كلمة واحدة شخصت المشكلة، وخمس كلمات صاغت لنا الحل الذي لا خروج من الأزمة من دون تحققه.

هذا الحل في كل البلدان المتقدمة تحمله النصوص الدستورية التي تحكم علاقة الحاكم بالمحكومين، وهي كفيلة إذا ما طبقت عندنا أن تضع مصر في موقع سيدة الحاكم لا خادمته المطيعة، وأن تجعل المواطن مصدر كل سلطة، وتخرجه من موقع المقهور من كل سلطة.

«إخراج مصر من جعبة الحاكم» مشوار طويل يبدأ بإنزال الحاكم من مصاف الآلهة، وإعادته إلى صفوف البشر، أن يكون واحدًا من الناس، يختاره الشعب بالانتخاب الحر المباشر، يحكمه بهذه الصفة، صفة الرئيس المنتخب، وليس بصفته هبة من السماء أرسلتها العناية الإلهية لمهمة إنقاذنا.

إخراج مصر من أزمتها ينبني على أساس متين من التوافق الوطني الجامع على أن يتولى أمرها من لا يغير ثوابت الجغرافيا، ولا يتلاعب بحقائق التاريخ.

أن يرأسها من لا ينزعها من موقع هي مؤهلة له، ويحبسها عن دور هي مرشحة للقيام به، ويقذف بها إلى موضع مهين لها ولتاريخها وحجمها وقيمها وقيمتها.

أول الخروج من الأزمة أن يتم التوافق المجتمعي على إقرار مبدأ تداول السلطة، بدون رجعة فيه، ولا انقلاب عليه، وأن يجري الاتفاق على أسلوب وأدوات وطريقة انتقال السلطة سلميًا، وأن تستقر المبادئ التي تؤكد الحقوق المدنية والسياسية للجميع، وتحكيم صندوق الانتخابات، وأن توضع الحدود الفاصلة بين السلطات جميعًا، لا تجور سلطة على أخرى، أن تتكامل سلطات الدولة كلها، وأن تقوم كل منها بمهمتها دون الافتئات على مهمات وصلاحيات سلطة أخرى.

«إخراج مصر من جعبة الحاكم» هي مهمة فوق أي مهمة أخرى، وهي واجب الوقت حتى تتحقق، لا يكفي لتحققها أن ينص على مفرداتها في الدساتير التي توضع في الأدراج المغلقة، ولا تساوي قيمة الأحبار التي كُتبت بها.

رغم كل الدساتير ـ كما هي العادة في مصر ـ سرعان ما يتحول الرئيس الى رب العائلة وكبيرها، الآمر الناهي في كل شئونها، صاحب الحل والعقد، المتصرف في شئون البلاد والعباد كما يحلو له بلا رقيب ولا حسيب.

«إخراج مصر من جعبة الحاكم» يجعل منه حاكمًا يدير شئون البلاد عبر مؤسسات حاكمة، ومجتمع واع، ومشاركة شعبية لا تحدها حدود غير حدود الدستور والقانون.

إخراج مصر من أزماتها المتراكمة وأزمتها الراهنة يتطلب أول ما يتطلب أن تتحول الأحزاب ومنظمات المجتمع المدني والمؤسسات الدستورية من مجرد واجهات أو ديكور لزوم الضحك على الذقون، يؤدي فيها الجميع أدوار «الكومبارس» ليبقى الحاكم هو البطل الفرد الذي يُملي إرادته فلا راد لها، ويقرر فلا معقب على ما يصدر من قرارات، باعتبارها كلها قرارات تاريخية لا يجوز مجرد التعليق عليها.

أول شروط نجاح مهمة إخراج مصر من جعبة الحاكم تبدأ من أن تزرع في أرضها فكرة «الرئيس السابق» الذي أدى مهمته بنزاهة وتفانٍ، وخرج من السلطة في الموعد المقرر، ولم يفكر يومًا في أنه مؤبد فيها، مخلد فوق كراسيها.

إخراج مصر من جعبة الحاكم يعني أول ما يعني أن يتولى أمرها رئيس له ثروة معروفة المصادر، ومقيمة ومثبتة في إقرار الذمة المالية لحظة ينتخبه الشعب وقبل أن يخطو خطوته الأولى إلى الباب الخارجي للبيت الرئاسي، وأن تتم مراجعتها لحظة خروجه من السلطة، فإذا زادت فالزيادة لنا، وإن نقصت فالنقصان عليه.

مصر تتطلع إلى رئيس يدخل البيت الرئاسي لمدة محددة ولا تتضخم ثروته فتصبح هي ثروة البلاد، تريد رئيسًا يعمل عند الشعب، يدفع له الشعب راتبه من قروشه القليلة، لا أن يكون الشعب عبيد احساناته.

مصر تريد رئيسًا يسهر على رعاية مصالحها، ومصالح المواطنين جميعًا بلا تفريق، ولا تمييز، بين فئات المجتمع وقواه وكل مكوناته.

مصر في حاجة ماسة إلى حاكم يوفر المناخ الملائم لنمو الأعمال، لا حاكمًا يكون شريكًا لكل رجال الأعمال.

الإصلاح الحقيقي في مصر يبدأ بأن يصعد إلى كرسي الحكم رئيس يضرب بيدٍ من حديد على الخارجين على القانون، لا أن يكون هو وتابعوه أول العابثين بالقانون.

مصر لا تريد فخامة الرئيس، لكنها تتطلع إلى السيد الرئيس.

السيد الرئيس الذي تريده مصر الجديدة وظيفته حماية مصالح الناس، لا أن يكون هو والذين معه أول المضاربين على مصالح الناس.

الرئيس الذي نريده هو رأس الدولة، لا أن يكون هو الدولة.

الرئيس الذي نمنحه أصواتنا هو الرئيس الذي يسهر على تحقيق الأمن والاستقرار وحماية المواطن والحفاظ على كرامته، وحرياته وحقوقه، لا أن يسهر المواطنون على استقرار وحماية واستمرار نظامه.

مصر تريد رئيسًا هو ممثل السلطة، يمارسها باسم المجتمع، لا أن يكون هو السلطة نفسها، تندمج فيه، يفعل بها ما يشاء.

مصر تعبت كثيرًا، وأنَّت طويلًا من الحكام الذين يشيخون فوق مقاعدهم، أولئك الذين يسدون الطرق إلى التغيير، ولا يعملون إلا لبقائهم مدى الحياة فوق كل الرؤوس.

أكثر ما تريده مصر في الرئيس الجديد أن يكون قابلاً للمناقشة، قابلاً للأخذ والرد، الأخذ مما يقول، والرد على ما يقول، قابلاً للمحاكمة إذا أخطأ، مصر شبعت من الحكام الذين هم فوق النقد، وفوق المساءلة.

الرئيس الذي تريده مصر اليوم هو حاكم المدد المحددة والمحدودة، لا المدد المؤبدة التي بلا نهاية، مصر شبعت وأتخمت من الرئاسات الأبدية، وسئمت من التواجد في المسئولية حتى آخر نفس يتردد، وآخر نبض يتجدد.

مصر تريد حاكمًا تعرف متى وكيف يأتي إلى الحكم، وتعرف أيضًا اليوم والساعة والدقيقة التي يترك فيها الحكم.

مصر تريد رئيسًا هي القيِّمة عليه، لا أن يكون هو القيِّم عليها، المتصرف في أمرها، كأنها شأن يخصه وحده، ولا يخص ما فوق المائة مليون من المواطنين.

مصر تريد حاكمًا يتبنى مشروعًا وطنيًا كبيرًا ينقل مصر من عالم التخلف إلى عالم تستحق أن تكون فيه بجدارة وعن استحقاق.

مصر تريد أن يكون الرئيس القادم مؤهلاً وقادرًا على تحقيق طموحاتها، وهي لا تريد بكل تأكيد رئيسًا يكون على شاكلة أكثر المرشحين المحتملين اليوم، خاصة الذين يأتون من رحم النظام، يتسابقون اليوم من أجل تحقيق طموحاتهم الخاصة.

مصر تتطلع إلى رئيس يخدم الشعب لا سيدًا عليه، وتتشوق إلى يوم تتحقق فيه مقولة دستورها عن الشعب السيد في الوطن السيد. 

مصر دفعت أثمانًا باهظة من الرئيس الذي هو فوق الجميع.