ماهر الشيال يكتب: صباح الخير أيها التضخم!

ذات مصر

قبل نحوٍ من سبعين عاما، كتبت الروائية الفرنسية فرنسواز ساجان روايتها الأولى "صباح الخير أيها الحزن" ورغم أن فرنسواز كانت لم تبلغ العشرين من عمرها بعد؛ إلا أن الرواية كانت قمة ما أبدعته ساجان عبر رحلتها الإبداعية التي استمرت نحوا من نصف قرن.. ويشير العنوان إلى ملازمة الحزن والألم لبطلة الرواية رغم تحقيقها لهدف سعت من أجله، وهو العودة إلى الحياة اللاهية العابثة التي كانت تحياها مع أبيها وصديقته؛ قبل ظهور سيدة كانت صديقة لوالدتها المتوفاة، استطاعت بقوة شخصيتها وإيمانها بالقيم والمثل العليا، أن تعيد الانضباط إلى حياة الأسرة، ولكن الفتاة الشابة تنسج خيوط مؤامرة تنتهي بانتحار السيدة الفاضلة.. ليصبح الحزن العميق والندم جزءا أساسيا من حياة الأسرة؛ حتى بعد العودة إلى حياة المجون والعبث.

إن ملازمة تلك المشاعر القاسية للإنسان لفترة طويلة- كفيل بأن يحوله إلى كائن بائس لا يطمئن إلى شيء، ولا يثق بأحد.. ويشير المتخصصون في علم النفس الاقتصادي إلى أن التضخم المستمر والمستدام في مستوى الأسعار - له تأثير بالغ السوء على الحالة النفسية للمواطنين، إذ يُسلمهم إلى السخط بسبب تراجع قدرتهم على مواجهة أعباء المعيشة، فيتصاعد لديهم الشعور بالقلق من المستقبل الذي لم يعد بإمكانهم ادخار شيء له، ويحد ذلك بشكل كبير من قدرتهم على الاستمتاع بما هو متاح لهم من وسائل السعادة والرفاهية.. لذلك يعتبر الاقتصاديون التضخم الجامح العدو الأكبر لاستقرار الدولة، التي ترسخ أركانها وتتوطد بتنامي حالة الرضاء العام لدى غالبية مواطنيها.. فإذا كانت السياسات المتبعة قاصرة عن مواجهة التضخم، وكبح جماحه على نحوٍ جاد- فإنه سيتحول إلى ضيف ثقيل؛ يحل في بيوت الطبقات الفقيرة والمتوسطة دون إذن؛ ليفرض وجوده السمج لوقت طويل ولأمد غير معلوم؛ مُسيدا أحكامه على كل تفاصيل حياتنا؛ في ظل بؤس كل المحاولات الفردية الرامية إلى ترويضه أو التفاهم معه أو إيجاد أي صيغة للتعايش؛ بسبب ما يتمتع به من نهم وحشي يقضي على الأخضر واليابس.. من دخول متدنية ورواتب بائسة؛ كانت تكفي بالكاد قبل جموحه، المتطلبات الأساسية.

ولأن التضخم متعدد الأسباب وأسبابه إما خارجية ناتجة عن سياسات تُكرّس للتبعية، وتدمن استيراد كل شيء، ولا تعتمد على أسس اقتصاد وطني قوي، أو داخلية تنتج عن زيادة كبيرة في عدد السكان، مع سيادة أنماط استهلاك غير ملائمة، كما يُرجع الاقتصاديون النقديون أسباب حدوث التضخم إلى الإفراط في إصدار النقود، أي طباعة النقود مع عدم وجود غطاء ذهبي أو نقدي من العملات الأجنبية؛ دون وجود إنتاج حقيقي داخل المجتمع. بالإضافة إلى ذلك توجد أسباب أخرى تتعلق بالإجراءات والقرارات الحكومية التي لا تراعي البعد الاجتماعي؛ ولا تنظر إلى وخيم العواقب؛ امتثالا ورضوخا لشروط المؤسسات المالية الدولية المانحة للقروض.

وكثيرا ما تؤدي تلك الممارسات الخاطئة إلى اضطرار السلطة لاتخاذ تدابير تتعلق بزيادة الرواتب، أو رفع بعض الأعباء -شكليا- عن المواطنين الأكثر تضررا؛ لكن ذلك في الغالب لا يؤدي إلى انخفاض التضخم؛ لذلك يذهب كثير من المحللين الاقتصاديين إلى أن تلك الإجراءات تستثير سرطان التضخم، وتصيبه بالجنون.. كما في بعض حالات علاج الأورام التي لا يكون التدخل الجراحي فيها هو الخيار الأمثل.

وغالبا ما تكون تلك القرارات غير ذي أثر إيجابي؛ فهي إما نقطة في بحر، أو خطوة في الاتجاه المعاكس؛ ذلك لأن هناك عدد من الإجراءات لا بد أن تسبقها؛ حتى تحقق بعضا من الأثر المرجو.. أهمها مراجعة أسعار كافة الخدمات التي تقدمها الدولة لمواطنيها، وإعادة تسعيرها بشكل عادل دون مغالاة، مع التشديد على كل مقدمي الخدمة بعدم المخالفة.. ثم يأتي بعد ذلك إحكام السيطرة على الأسواق، والذي يبدأ بإلزام المنتجين بوضع مسار السعر على منتجاتهم، مرورا بالرقابة الصارمة على كبار التجار، وعدم السماح بالممارسات الاحتكارية؛ ثم متابعة حركة البيع في منافذ التوزيع والمحال وغيرها.

من البديهي أيضا أن أي زيادة في الرواتب لن تحقق أي أثر محمود في ظل انهيار سعر العملة المحلية، وعدم قدرة الدولة على توفير احتياجاتها من العملة الصعبة؛ في ظل التباين الكبير بين سعرها الرسمي، وفي السوق الموازي.

تسارع وتيرة التضخم على النحو الذي نراه، والذي يتوقع المحللون أن يبلغ ذروته الشهر القادم، مع احتمالية خفض جديد في قيمة العملة المحلية، قد يصل بها رسميا إلى 37 جنيه للدولار الواحد، نهاية العام الحالي- سيفاقم من حدة الأزمة وتداعيتها على محدودي الدخل، الذين سيكونون -فعليا- قد وصلوا إلى آخر الشوط في القدرة على الصمود.. وستكون الأمور قد وصلت إلى طريق مسدود.

يستلزم الخروج من تلك الأزمات دائما- حلولا من خارج الصندوق تتسم بقدرتها على إنتاج آثار إيجابية سريعة.. وبلادنا لم تعدم أبدا العقول النيرة التي يسهل عليها فعل ذلك؛ بشرط أن تغير السلطة الحالية رؤيتها القائمة على التنصل من كافة أسباب الأزمة، وأن تفتح المجال لأهل الاختصاص ليتسنى لهم اتخاذ كافة التدابير لترويض حصان التضخم الجامح، قبل أن يحدث الانفجار الذي لا يرجو المخلصون وقوعه؛ بينما يتعامل البعض مع الأزمة -على خطورتها- دون اكتراث؛ وكأن هذا الهم الثقيل أصبح من طبائع الأمور التي علينا قبولها والتعامل معها برحابة صدر، وبما لا يمنعنا من توجيه الشكر وإلقاء التحية.. لنقول جميعا بابتهاج صباح الخير أيها التضخم!