ماهر الشيال يكتب: الطيب والشرس و"الشعفار".. وأرض مبنى الحزب الوطني!

ذات مصر

في مشهد النهاية لفيلم "سواق الأتوبيس"1982، للمخرج الراحل عاطف الطيب- ترك بطل الفيلم حسن سلطان مقعده، خلف مقود حافلة النقل العام التي يعمل عليها؛ ليطارد لصا سرق مال إحدى السيدات، واستطاع الهروب بالقفز من نافذة الحافلة.. لكن حسن -المثخن بجراح الغدر والخيانة والنكران- ينجح في الإمساك باللص؛ لتنهال لكمات البطل المكلوم على وجه فريسته بضراوة، وهو يصرخ "يا أولاد الكلب" بينما يظهر مبنى الحزب الوطني الديمقراطي بميدان التحرير في خلقية المشهد.. ربط البعض بين عناصر المشهد الذي وصفوه بـ "ماستر سين" الفيلم؛ ليخرجوا بتحليل مفاده أن المخرج عاطف الطيب كان صاحب نبوءة، أن هذا الحزب الذي أسسه أنور السادات في 31 يوليو عام 1978، وحُلَّ بحكم قضائي في 16 إبريل 2011، ـ سيكون أكبر تجمع في مصر للصوص والفاسدين؛ المحتمين بالسلطة الفاسدة التي حولت حياة المصريين إلى جحيم.. وقد استندت هذه الرؤية إلى أن الفيلم حمل إدانة واضحة لنظام السادات وسياساته التي أهدرت مكتسبات نصر أكتوبر العظيم، ودمرت المجتمع المصري على كل المستويات بالانفتاح الاستهلاكي وتداعياته البشعة على شكل الحياة ومضمونها في بر مصر.

ويعود تاريخ إنشاء المبنى الذي كان يقع في قلب القاهرة مطلا على نهر النيل بالقرب من مجمع التحرير ووزارة الخارجية وماسبيرو والعديد من السفارات والوزارات - إلى منتصف خمسينيات القرن الماضي على يد المهندس محمود رياض، وهو مصمم وباني مجمع التحرير أيضا في الفترة بين عامي 1951 و1952، حيث كان مقررا أن يكون المبنى مقرا لمحافظة القاهرة؛ لكنه استخدم مقرا للاتحاد الاشتراكي العربي، ليختاره السادات بعد ذلك مقرا لحزبه الذي سيستمر حزبا للحكومة خلال العقود الثلاثة التي حكم مبارك فيها مصر، والتي انتهت بالحراك الشعبي الواسع الذي بدأ في 25 يناير 2011، وامتد لثمانية عشر يوما؛ حتى تنحي الرئيس.. وقد شهد أحد تلك الأيام (جمعة الغضب 28 يناير) إحراق المبنى المذكور بوصفه رمزا للفساد والاستبداد خلال حقبة مبارك وسلفه.

لم تنته القصة بإحراق المبنى الذي كان يضم (24) جهة إدارية تابعة للدولة، وكانت ملكيته تعود لمجلس الشورى؛ فقد شهدت الأيام التالية، نزاعا بين عدة جهات حكومية تدّعي ملكية الأرض، منها محافظة القاهرة ووزارة الآثار؛ إذ كانت الأرض ملكا للمتحف المصري عند إنشائه عام 1901، لذلك أصدر مجلس الوزراء في مارس 2014، قرارا بأحقية وزارة الآثار في امتلاك الأرض، كما وافق المجلس على هدم المبنى في نفس العام، بعد صدور عدة تقارير هندسية أكدت أن المبنى لا يصلح للترميم، بسبب تأثير النيران على جدران المبنى وأسقفه؛ لتقرر محافظة القاهرة في 16 إبريل من عام 2015، السير في إجراءات هدم المبنى.

بعد هدم المبنى.. سُلِّمَ الموقع للهيئة الهندسية، وفي سبتمبر 2020، ضمّت الحكومة المصرية الأرض التي تبلغ مساحتها نحوا من 16.5 ألف متر مربع، على نهر النيل مباشرة، إلى صندوق مصر السيادي.

وحسب موقع الشرق بلومبيرج.. فقد اقترب تحالف يضم مجموعة "الشعفار" الإماراتية والشركة "السعودية المصرية للتعمير" من اقتناص مشروع تطوير أرض مبنى الحزب الوطني "المنحل" في قلب العاصمة المصرية القاهرة، بالشراكة مع شركات تابعة لصندوق مصر السيادي، بهدف إنشاء مشروع سياحي فندقي بقيمة استثمارية تصل إلى 5 مليارات دولار. وأضاف الموقع إن تحالف "الشعفار" الإماراتية مع "السعودية المصرية للتعمير" المملوكة من قِبل البلدين، سيتولّى تطوير الأرض من خلال زيادة رأسمال شركتي "نايلوس للخدمات السكنية" و"نايلوس للخدمات الفندقية والتجارية" اللتين تأسستا من قِبل صندوق مصر السيادي، ونقلت ملكية الأرض إليهما في أغسطس الماضي. وأضاف الموقع أن مصدرا مطلعا قد أفاد بأن الإعلان عن التحالف الفائز سيكون خلال أسابيع قليلة. وأن التفاوض حاليا يجري على ارتفاع الأبراج الفندقية المزمع إنشاؤها؛ لتصل إلى 220 مترا بواقع 80 دورا لكل برج إلى جانب التفاوض على حصة الحكومة الدولارية من إيرادات المشروع.

وبحسب موقع مجموعة "الشعفار" الإمارتية للمقاولات العامة؛ فقد تأسست المجموعة عام 1989، وتعمل في مجال المقاولات العامة الشاملة لقطاعات رئيسية تشمل المشروعات السكنية والتجارية والرعاية الصحية والصناعية ومشروعات الضيافة والترفيه والبنية التحتية والنفط والغاز.. في حين تأسست الشركة "السعودية المصرية للتعمير" عام 1975، مناصفة بين حكومتي مصر والمملكة العربية السعودية.. أما صندوق مصر السيادي فقد أنشئ في فبراير 2019، للسيطرة على بعض أكثر الأصول الواعدة المملوكة للدولة في صناعات مثل الكهرباء، والعقارات، والبتروكيماويات، وجلب مستثمرين من القطاع الخاص لتطويرها.

من الواضح أن لا شيء قد تغيّر منذ أن وجّه الطيب صرخته في أوائل الثمانينات من القرن الماضي؛ فما زالت سفينة الوطن تُبحر في لُجة الأزمات المتلاحقة، وما زال المصريون - في غالبيتهم- يعانون آثار تلك الأزمات وتداعياتها، فمن خلال المتابعة الدقيقة لتصريحات المسئولين؛ يتبين أن لا أحد لديه حلول لتلك الأزمات المتفاقمة؛ وربما لا تتوفر الإرادة السياسية الجادة لطرح حلول واقعية وناجعة لها.. فليس إلا إعزاء الفشل إلى أسباب داخلية وخارجية؛ خارجة عن نطاق مسئولية الحكومة وسياساتها المتبعة التي أصبح من العسير جدا إخلاء مسئوليتها -على الأقل- من الخطأ في ترتيب أولويات برنامجها للإصلاح على نحوٍ افتقر كثيرا إلى الجانب العلمي، دون دراسات جدوى معمّقة؛ بسبب العجلة غير المبررة في التنفيذ؛ ليصل الحال إلى ما وصلنا إليه، دون كبير أمل في انفراجة قريبة، تُعيد إلى المصريين شيئا من بهجة الحياة التي أوشكوا أن ينسوها تحت وطأة الضغوط المعيشية الهائلة.