ماهر الشيال يكتب: فيلم "جولدا".. غلالات من الحقيقة لتسويق أكاذيب فجّة!

ذات مصر

 

استرعى انتباهي إبداء البعض إعجابهم بفيلم "جولدا" لدرجة وصفه بالموضوعية وعدم التحيز لوجهة النظر الصهيونية بشأن وقائع حرب أكتوبر المجيدة، والتي يتناول الفيلم أحداثها من خلال تحقيقات لجنة "أجرانات" التي تقصت الحقائق حول مدى تقصير مسئولي حكومة العدو، والذي أدى إلى الهزيمة المريرة.

وإذا كان لنا أن نضع عنوانا للفيلم فلاشك أنه سيكون متعلقا بمفهوم الخديعة على أكثر من جانب، بدءا بالجانب الفني الذي جاء فقيرا جدا دون مبررات كافية، فلا مشاهد حربية سينمائية ولا أرشيفية، اللهم إلا مشاهد نادرة مثل مشهد "موشيه ديان" وهو يتابع القتال على الجبهة السورية؛ ويصاب بالانهيار العصبي.. وقد بدا المشهد أقرب إلى الفيديو جيم، لعبة "بابچي" على وجه التحديد.. بينما ازدحم الفيلم بمشاهد  متابعة المعركة من داخل غرفة العمليات، مع أصوات الجنود الصهاينة وهم يصرخون هلعا، بينما قادتهم يبكون وقد أسقط في أيديهم.

أداء الممثلة هيلين ميرين لشخصية جولدا جاء سطحيا وباهتا لدرجة لا تليق بهيلين التي تًعدُّ من أفضل الممثلات على مستوى العالم حاليا.. لكن هذا الاستسهال في الأداء مع مكياج الشخصية وملابسها وبطء حركتها بسبب المرض والتقدم في السن- كان يتحول كثيرا إلى الافتعال المذري بالشخصية الحقيقية التي حاول الفيلم تصويرها في صورة ملائكية؛ غاضا الطرف عن تاريخ حافل بالجرائم في حق الإنسانية.

لم يتوقف الأمر عند هذا الحد من تقليل فرص هيلين ميرين في إيجاد أي عمق للشخصية يمكن البناء عليه إبداعيا، وسط هذا الكم المخيف من دخان السجائر الذي يبدو أنه كان يشير إلى حالة الاحتراق الكامل التي كانت تعانيها جولدا تحت ضغط المرض الخبيث ومسئوليات المنصب خلال وقائع الهزيمة التي مني بها جيش الدفاع- زاد مع عدم احترام المخرج لميرين بإقحام مشاهد أرشيفية تظهر فيها جولدا مائير؛ مع إن تنفيذ تلك المشاهد كان من السهل جدا.

مما يصعب تبريره دراميا أيضا أن جولدا المريضة التي تعاني من إصابة خطيرة بسرطان الغدد الليمفاوية.. كانت وهي في طريقها إلى غرفة تلقي العلاج في مستشفى هداسا- تمر وسط ثلاجة موتى.. يبدو أنها لجنود جيش الدفاع.. يعكس هذا المشهد المتكرر رؤية المخرج للشخصية المتألمة، يكشف ذلك نظرات العجوز التي تقطر ألما مع ازدياد عدد الجثث في كل مرة.. تحاول جولدا الهرب من آلامها الجسمانية والنفسية بالتًدخين بشراهة، حتى وهي على سرير الكشف.. إنها تحلم بالسلام وانتهاء الحرب.. هكذا يوحي لنا الفيلم الذي يُقدم لنا جولدا مائير التي دخلت التاريخ من باب الطغاة منذ مشاركتها الأولى في دعم قيام دولة على أرض الغير بعد عمليات إجرامية لاقتلاع وقتل مئات الآلاف من الفلسطينيين التي صرّحت فور توليها منصب رئيس الوزراء، بأنه "ما من شيء اسمه فلسطينيون".

يحاول صانعو الفيلم وعلى رأسهم مخرجه الصهيوني جاي ناتيف، ومؤلفه نيكولاس مارتن إيهام المشاهد بأن جولدا كانت شغوفة طوال الوقت بمراقبة العصافير والتطلع نحو السماء وهي تبتهل من أجل السلام؛ ولا تبغي سوى الاعتراف بدولتها؛ فهي تُصر على التأكد من أن الرئيس المصري عندما حادثه كيسنجر بشأن وقف إطلاق النار، كان يذكر إسرائيل بالاسم ولم يقل الكيان الصهيوني؛ مع إن الرئيس عبد الناصر صاحب اللاءات الثلاث (لا اعتراف- لا تفاوض- لا صلح) كان ينطق اسم إسرائيل كثيرا.

 وبينما كانت هيلين ميرين ترسف تحت إكسسوار الشخصية، كانت أيضا تعاني تحت أغلال حصرها في الفترة الزمنية المزامنة لحرب أكتوبر، وحتى فاتها أواخر 1978، دون خلفية تاريخية - وهذا مفهوم سببه بالطبع- باستثناء إشارة عابرة لطفولتها في أوكرانيا، وقتل القوزاق لليهود خلال احتفالاتهم وهم سكارى، بلا مبالاة.. وكيف كان والدها يخفيها وإخوتها في مكان آمن تحت الأرض.

من الثغرات الفنية الواضحة في الفيلم أيضا تلك المشاهد التي جمعت جولدا مع قادة الأفرع العسكرية الذين كانوا يدخنون بشراهة طوال الوقت دون التحدث بعبارات مناسبة، وهم يتعاملون طوال الوقت بغطرسة - تجعلهم يسبقون رئيسة الوزراء بالجلوس- بينما نرى شخصية وزير الدفاع "موشيه ديان" وقد وصلت إلى درجة من الانهيار، تحوّلت معها الشخصية إلى شكل أقرب إلى الكوميديا.

وربما كان من الأمور القليلة الجيدة في الفيلم هو أداء الممثل الأميركي ليف شرايبر لدور وزير الخارجية الأميركي هنري كيسنجر، بالأخص ذلك المشهد الذي جمعه بجولدا في بيتها، حين قدّمت له العشاء، ومحاولته التنصل من أي وعود بالدعم المباشر لدويلة الكيان بقوله  "أنا أولا أميركي، ثانيا وزير خارجية، ثالثا يهودي" ليكون رد جولدا أننا "في هذا البلد، نقرأ من اليمين إلى اليسار" في إشارة إلى أنها تعتبره يهوديا في المقام الأول.

جوانب الضعف العديدة في الفيلم إذا وضعت في إطارها- سيتبين لنا أنها لم تكن بفعل قلة الإمكانات المادية أو العجلة أو عدم الاهتمام بالتفاصيل - بقدر ما تُشكّل في مجموعها الصورة النهائية التي أراد صُناع الفيلم إيصالها إلى المُتلقي؛ تكريسا للصورة المغلوطة عن  دولة تمارس يوميا جرائم التمييز والفصل العنصري وتنتهك القانون الدولي من خلال مخالفة أكثر من 12 اتفاقية وقرارًا ونصًا قانونيًا صادرًا عن أعلى هيئات أممية عالمية، ومُوقّع عليه من أكثر من 170 دولة، كما تمارس أكثر من ثلاثين فعلا على نحو اعتيادي ويومي؛ يرتقي غالبيتها لجرائم الحرب ضدَّ الفلسطينيين وحقِّهم في أرضهم ومقدساتهم في فلسطين المحتلة.

رسالة الفيلم لا تحمل من الوضوح إلا القليل فالهدف التشويش والتعمية وخلط الحقائق بالأكاذيب لخلق حالة من عدم اليقين بشأن دولة العدو، وما تحاول السعي إليه الآن من تطبيع تعددت أطرافه العربية المؤيدة على نحو مخجل، في حين تعاني  دولة الاحتلال من مشاكل مزمنة داخليا تهدد وجودها بالانقسام والتمزق حسب تصريحات الرئيس الصهيوني إتسحاق هرتزوج.

بقي أن أقول أنه عند الحديث عن فيلم مثل فيلم "جولدا" لا شك أن الكلام عن الفن سيتراجع قليلا لحساب تناول الفيلم من جوانب أخرى مثل السياسة والتاريخ.. ويبدو أن تلك النوعية من الأفلام ستظهر بكثافة خلال الفترة القادمة بعد إفراج العدو عن وثائق حرب يوم الغفران بمناسبة مرور نصف قرن على وقوعها.. ما يُلزمنا بالعمل على تكوين رؤية واضحة تحمل روايتنا للحدث الهام.. قبل أن يغيب كل شيء في رمال التعمية والتضليل والخداع الصهيوني.. والتي ربما يلتبس أمرها على البعض.