ماهر الشيال يكتب: أشتري الحب بالعذاب.. أشتريه فمن يبيع؟!

ذات مصر


طفي قصيدته "عدت يا يوم مولدي" التي شدا بها الموسيقار فريد الأطرش- أغرق الشاعر كامل الشناوي في تعبيرات شديدة البؤس؛ لا تبعث إلا على الرثاء بعد أن وصف يوم مولده بـ "الشقي".. زاد من حدة الأمر أن لحن فريد وأداءه بَارَيَا الكلمات في استحضار أقسى درجات الحزن.. اللافت أن مختتم القصيدة كان عبارة عن عرضٍ بالغ الغرابة لشراء قدر من الحب -بات من الوضح ضرورته الآنية للشاعر- في مقابل شيء من العذاب، يمكن التفاوض على نوعيته ومقداره مع مقدم العرض.. وبعيدا عن جمال الصورة البيانية المُجسّدة لتلك المعاني؛ ربما يُسلمنا التأمل العميق للمعنى إلى حالة من الرفض المسبوق بشيء من العجب.. فهل من يقبل عرضا كهذا -على ما ينطوي عليه من قسوة مُفرطة- تصلح بضاعته من الحب للاستخدام الآدمي؟ أكبر ظني أن هذا الحب سيكون من نوعية بالغة الرداءة، لا يُستفاد منها على أي وجه. كما أن الثمن المدفوع لا يُغري إلا النفوس "السادية" وهي نفوس لا تعرف الحب ولا المودة ولا يصدر عنها إلا كل ما هو بغيض، ناهيك عن أن الشخص الذي يجعل من عذابه ثمنا للحب، هو شخص لا يتمتع بأدنى قدر من الحكمة، اللهم إلا إذا كان المقصود أن الحياة بغير حبٍ هي أقسى أنواع العذاب.
وإذا كان أعذب الشعر أكذبه كما قالوا قديما؛ إلا أن الأمر لا يجب أن يخلو طوال الوقت من شيء من المنطق؛ يحكم تعاملنا مع الأشياء والمعاني؛ ذلك لأن عقولنا لا تتصور أن يكون مقابل المال والجهد والمعاناة التي يضحي بها فئة من الناس، من أجل مستقبل زاهر يطمحون إليه أو حياة كريمة يملؤها الرخاء واليسر- أشياء من قبيل الثقة أو الراحة النفسية أو "جبران خاطر" شخص بعينه؛ على هذا النحو تُهدر العديد من الفرص السانحة للنجاح والتقدم، والمُضي قُدما نحو تحقيق النهضة الشاملة- على مذبح التبريرات الواهية، والأسباب التي لا تُقنع أحدا بأن الأهداف الحقيقية التي كان يُسعى إليها، إنما تتعلق بإيجاد حالة من النشوة العارمة لدى جموع المواطنين عندما يرون إنجازا مبهرا لا عائد له ولا مردود حقيقي لا في القريب ولا في البعيد.. فسرعان ما يتبدد ذلك الشعور الوقتي؛ لتواجه الجموع العائدة من إغفاءة المجد هذه- صدمة فداحة الثمن الذي دفعته في مقابل لحظات التماهي مع تلك العظمة المدّعاة.
وإذا كانت تلك المقايضات لا تصلح لأن تكون نهجا للتعامل بين الأفراد؛ لأنها ستعتبر دربا من الاحتيال أو الجنون على أقل تقدير- فالأكيد أنها لا تصلح لأن تكون سبيل معاملة بين كيانات كبيرة، كالدولة ممثلة في نظامها السياسي، والجماهير بوصفها صاحب المصلحة الأول في أن تدار الأمور على نحو واضح من المعقولية ومجانبة العبث.
فما يتعلق بمصائر الأمم والشعوب لا بد أن يتأسس على أمور شديدة الوضوح والتحديد، لا على جوانب عاطفية أو معنوية؛ فليس من شأن الدولة -أية دولة- أن تُغدق على مواطنيها مشاعر الحب والحنان، ولا أن توفر لهم كميات إضافية من الوله بها والانجذاب نحوها بمزيد من الشغف- إنما شأنها أن توجد لديهم حالة الرضاء العام القائمة على تلبية الاحتياجات وتغذية الأمل في غد أفضل ومستقبل أكثر سعادة.
"الشعب هو القائد وهو المًعلم" تلك العبارة التي قالها الرئيس عبد الناصر ذات يوم -ربما قبل أكثر من ستة عقود- ما زالت غير مفهومة، بل ومرفوضة من كثير من أهل الحكم في بلادنا.. ولو تأملنا العبارة لوجدنا أنها تصلح دليلا للمرحلة ولكل مرحلة، فالقائد الشعب هو المسئول عما يُتخذ بشأنه من قرارات، وهو من يدفع الثمن الفادح إذا جانبها الصواب؛ لذلك كان الاستئثار بالقرار دونه -في كل مرة- سبيلا للتراجع بل الانهيار.. فالشعب الرقم الأصعب في معادلة القوى؛ وأي محاولة للالتفاف على إرادته أو خداعه، مصيرها معروف وحقائق التاريخ لا تكذب أو تناور.. أما أنه الُمعلم.. فهي حقيقة لا وجه لإنكارها؛ ففي صبره حكمة، وفي سكونه نذير، وفي هبّته العِبرة لمن لا يعتبر.. ومن يظن أن سنوات من الإفقار والتجهيل والتعمية- قادرة على إفقاده تلك الميزة؛ فلا شك في خطله وغروره.. ولنتذكر أن نحوا من أربعة عقود من محاولات إزهاق روحه وتركيعه - نُفضت ذات صباح شتوي بالأمس القريب؛ كبعض ذرات من غبار أو هي أهون.
لتكن دعوة للوضوح والمُكاشفة.. فليس الأوان أوان تحايل أو إرجاء.. ولنكن جميعا على مستوى الحدث، وعلى قدر ما نحمل لهذا الوطن العظيم من تقدير واحترام.. ولهذا الشعب النبيل من تبجيل يليق به، وواقع سعيد هو أحق به، ومستقبل ينفتح على آفاق الازدهار، يرتجيه لأبنائه ولأجياله القادمة.. أما الحب الذي يُشترى بالعذاب الذي عرضه الشناوي، وروّج له الأطرش -رحمهما الله- فلا حاجة لأحد فيه الآن- فهي بضاعة كما وصفها السيد أحمد عبد الجواد في "بين القصرين" أتلفها الهوى ولم تعد تصلح لشيء.