علي الصاوي يكتب: الذين دخلوا التاريخ من مؤخرته

ذات مصر

ربما يحتاج بعض المتخاذلين حظا مثل حظ تشرشل الذي رغم إجرامه إلا أنه قال: "التاريخ سيكون لطيفا معي لأنني أنوي أن أكتبه بيدي" وبالفعل ذكره التاريخ كقائد منتصر أنقذ بلاده من الهزيمة، وحصل على جائزة نوبل في الأدب لكلام فارغ كان يكتبه، أفلت تشرشل من جلد التاريخ المكتوب لأنه كان مجرما منتصرا، لكن ماذا يفعل المهزوم العاجز والخائن الجبان من موقف التاريخ منه لاحقا حين يذكره؟

يبدوا أن الجاهلية الأولى لم تكن حقبة زمنية قبل الإسلام بقدر ما هى روح ووجدان متجذرة في أعماق النفس البشرية، وما تلبث حتى تعود في شكل آخر متجسدة في سلوك الأجيال الجديدة، تلك التى قتلها الترف وبلّد أحساسها التخمة والشعور بالآخر، فباتت أرواحهم كالبهائم بل أضل، يرون الدماء تراق والمقدسات تُنتهك فلا تراهم إلا يهزون أردافهم في موسم الرقاص، يعزفون على أوتار خيبتهم لحن غدر وخيانة حتى أصبحوا مسخرة الأمم.

كلما مرّت الأمة بمحنة شديدة تأكدت أن ذرية عبد الله بن سلول رأس المنافقين في الجاهلية لم تنقطع بعد، بل ما زالت تتمدد في شبة الجزيرة الأمريكية تُخذّل وتُثبط وتُشكّك وتُخوّن كل من ينبري للذود عن عرض الأمة والدفاع عن مقدساتها، يقومون بدور المنافقين في غزوة الأحزاب ويقولون للصامدين على الثغر: ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا، ويقولون: لا مُقام لكم فارجعوا، ويقولون: لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده، أولئك الذين تسري في دمائهم جينات شر الناس في كل عصر، فيظاهرون الباطل وينصرون أهله وإن أظهروا عكس ذلك دفعا لغضب الناس وتخديرهم بتصريحات باهتة.

باتت شبه الجزيرة الأمريكية خطرا على الأمة، انحل عقدها ونقضت ميثاقها وتمدد شرها نحو بلدان كبرى فأضعفتها وأفسدتها بأموالها عبر شراء الذمم لتحل مكانها سياسيا واقتصاديا ومن ثم تفرض رؤيتها في كثير من القضايا المصيرية فتُعطلها وتقتل عدالتها لصالح العدو وتكون عونا له على إخوانهم من بني جلدتهم، وما ذاك إلا إمعانا في العمالة والهوان الذي ينخر في عظم قيادتها حتى النخاج، يعيشون أزمة هوية بعد أن تنصلوا من جوهر هويتهم وأخذوا منها اسمها ورسمها ودمروا روحها تحت مقصلة التغريب ورؤى مستوردة تكشف عن نقص نفسي وعجز وتقليد أعمى حتى صار الحق مُثقلا بهم.

"ناس بترقص وناس بتموت، وأعلى صوت في الحفلة صوت السكوت" هكذا عبّر أحد المطربين عن واقع أليم نعيشه كل يوم، نرى من يشتركون معنا في الدين واللغة والجغرافيا يُقتلون ويُهجرون من وطنهم التاريخي لصالح عصابة مجرمة من قطاع الطرق، لُقطاء من كل حدب وصوب جاءوا بهم وأعطوهم ما لا يملكون على مرأى ومسمع، وما زاد الطين بلة هو التآمر القريب من دول تدعى العروبة والإسلام، يعيش بعضها أخلاق الجاهلية الأولى بصورة عصرية، وليتهم سكتوا بل ينفثون ذبابهم على قارعة الغرف الإلكترونية يكيلون الشتائم لمن ينتقد صمتهم وتخاذلهم ويُهوّنوا من شجاعة المقاومة، فهذا أحد البغال المعروفين بسماجته وقلبه الأسود خرج يتهم المقاومة بأنها السبب في الدماء التي تراق ولم يذكر العدو المغتصب بكلمة، يهاجم المجنى عليه منذ ثمانين عاما ولا يرى الجاني، أصابه المال الأمريكي بالحول السياسي والسقوط الأخلاقي، ثم خرجت علينا أخرى بحجاب ملفوف وملامح شاحبة متوترة فأوحى لها شيطان المال الصهيوني بكلام ربما لو لم تسمعه أذني بنفسي ما صدقت أن يخرج من امرأة مسلمة عربية في لحظة فارقة في حياة الأمة بلغت فيها القلوب الحناجر، خرجت تُدين المقاومة وتُمجد في الاحتلال وتغدق عليه بأوصاف بطولية رغم ما يعانيه من إسهال مزمن على يد المقاومة منذ السابع من أكتوبر، نفوس هشة ورخيصة لها ثمن في سوق الخيانة، مواقف تكشف عن علل نفسية وفقر وحرمان وكراهية للدين وللعروبة متأصلة في نفوسهم، فهذه هى الأخرى تمثل امتداد لجوقة المنافقين والكذابين في الجاهلية الأولى.

لو كان هؤلاء حقا عربا لما باتوا على الضيم أبدا، فالعربي الأصيل أبيّ لا ينام إلا بعد أن يأخذ بثأره وينصر أخاه ويعمل بقول القائل:

لا يسألون أخاهم حين يندبهم
في النائبات على ما قال برهانا.

أمّا هؤلاء لا تعرف نفوسهم طريقا للكرامة فقد انتُهكت منذ زمن بعيد، والعين المكسورة لا تستطيع أن ترفع صوتها بكلمة، نعلم أن الاستبسال الفلسطيني يغيظكم ويُذكركم بما أنتم عليه من ضعف وهوان وتطبيع رخيص، فالقبيحة تريد كل من حولها أن يكونوا أقبح منها كى تداري قبحها، والمقاومة في غزة لا زالت تحرجكم وتمزق لحم وجوهكم من الخجل، لو كان فيكم حقا ذرة نخوة لأخذتم موقفا حاسما وحازما إزراء العدوان الجبان ضد أهلنا في غزة، ولولا معرفة الصهاينة حقيقتكم جيدا لما تجرأت أيديهم الآثمة على ضربهم وإبادتهم، لماذا تُصرون على أن تدخلوا التاريخ من مؤخرته العفنة؟ لماذا تريدون أن تكونوا ابن العلقمي بدلا من أن تكونوا صلاح الدين أو قطز أو غيرهما ممن سطر التاريخ بشجاعتهم قصصا بطولية؟ ما الذي ينقصكم؟ لديكم كل شيء من أموال وسلاح وعدد وأوراق ضغط كثيرة، لكن القوة ليست بالعدد والعُدة بل بالشجاعة والبطولة النفسية والتربية الإيمانية، ولله در القائل:

وعادة السيف أن يزهى بجوهره
وليس يعمل إلا في يد بطلِ.

يا أهل فلسطين من كان الله معه لن يضره خذلان من حوله وإن اجتمع عليه مَن بأقطارها، جهزوا مفاتيحكم ربما اقترب الوعد الحق، الانهيار لا يأتي مرة واحدة بل يمر بمراحل التصديع ثم التشقق ومن بعدهما يحدث الانهيار، والكيان المحتل يعيش حالة تشقق وانقسام فاصبروا ولا يخدعنكم أحدا فالنصر لمن يتحمل الضربات لا لمن يضرب.