محمد حماد يكتب: من إلياهو بن إليسار إلى بنيامين نتنياهو

ذات مصر

يوم 18 فبراير 1980 اشترك التليفزيون المصري مع التلفزة الإسرائيلية في بث الاحتفال برفع العلم الإسرائيلي على أول كيان دبلوماسي إسرائيلي بأرض عربية.

 يوم 26 فبراير 1980 توجه أنور السادات في كامل أناقته إلى قصر عابدين ليستقبل إلياهو بن إليسار أول سفير للكيان الصهيوني في مصر ليقدم أوراق اعتماده بموجب معاهدة السلام الموقعة عام 1979.

في نفس اليوم جهز سعد إدريس حلاوة شنطة سفر كبيرة تحتوي على مدفع رشاش ومسجل ومكبر صوت وتسجيلات للقرآن الكريم بصوت الشيخ عبد الباسط عبدالصمد، وخطب لجمال عبد الناصر، وأغان وطنية بصوت عبد الحليم حافظ، وتوجه من فوره إلى مبنى الوحدة المحلية لقرية أجهور (التابعة لمركز طوخ)، بصفتها الجهة الحكومية التي تمثل النظام في قريته، واحتجز اثنين من الموظفين في حجرة مطلة على فناء الوحدة المحلية.

**

استمع سعد إلى ما بثته الإذاعة المصرية عن تسلم السادات لأوراق اعتماد السفير الصهيوني في مصر فأطلق وابلًا من الرصاص من شرفة الوحدة المحلية وبعدها أسكت الراديو ووضع شريط كاسيت لعبد الحليم حافظ، ثم أعلن من خلال مكبر الصوت أنه لن يفك اعتصامه إلا بعد طرد السفير الإسرائيلي من مصر.

اشتاط السادات غضبًا، وأمر وزير داخليته النبوي إسماعيل بالتوجه فورًا بنفسه على رأس قوة أمنية لتصفية الموقف في هذه القرية.

استعان الوزير بأقرب الأقربين إلى سعد إدريس حلاوة، للتأثير عليه والعدول عن موقفه، فوضع السلاح في ظهر والدة سعد، التي طالبته بالعدول عما هو فيه، فرد عليها قائلًا: "ارجعي يا أمي وافتحي قبر والدي واعتبريني من الشهداء دفاعًا عن الوطن ضد الخونة"، ودخل إلى الحجرة ليكتب على جدرانها بدمه: "لا إله إلا الله تعيش مصر حرة"، وبعدها ألقوا عليه القنابل المسيلة للدموع، وتمت تصفية أول شهيد مصري ضد التطبيع. 

**

قبل مرور عام شاء حظي أن أحضر جلسة مسائية جمعت العديد من الكتاب والصحفيين والمثقفين كان ضيف الشرف فيها الدكتور كمال الإبراشي أستاذ طب الأسنان بجامعة القاهرة، والطبيب الشهير والبارع في مجاله، الأمر الذي جعل الرئيس السادات يختاره للإشراف على علاج أسنانه.

حكى لنا ليلتها الدكتور كمال الإبراشي القصة كاملة، ومختصرها أن السفير الإسرائيلي إليسار اشتكى إلى السادات أنه بات معزولًا في القاهرة، لا يُقبل أحد على قبول دعوته إلى اللقاء به، ولا يستقبله أحد في مكتبه، أو منزله، وأنه صار معزولًا بشكل كامل عن أي حياة اجتماعية، إلى درجة أنه يحتاج إلى طبيب أسنان فلا يجد من يثق في قدرته، وقبل ذلك فإنه لا يثق في أن أحدًا يقبل التعامل معه بروح ودية.

نصحه السادات بالتعامل مع الدكتور كمال الإبراشي منوهًا بقدراته العلمية وخبراته الواسعة، وذكر له أنه طبيبه الخاص.

**

ذات مساء فوجئ الدكتور الإبراشي بحضور السفير الإسرائيلي إلى عيادته بمنطقة وسط البلد في قلب القاهرة، بالقرب من تقاطع شارعي 26 يوليو وطلعت حرب.

لم يكن الدكتور الإبراشي أستاذًا جامعيًا مرموقًا فقط، ولا مجرد طبيب أسنان شاطر وناجح ومعروف لدى الطبقة العليا في المجتمع، وفي أوساط المثقفين، بل كان رجلًا صاحب مواقف، وكان قارئًا محترفًا، يلتهم أهم ما تنتجه المطابع بالعربية أو بالإنجليزية من كل جديد في عالم الفكر وفروع العلوم الإنسانية المختلفة، لن تقابله ولو مصادفة إلا ويحدثك عن أحدث الكتب التي صدرت في مصر والعالم.

حين وجد السفير الإسرائيلي في عيادته، لم يكن أمامه غير التعامل بما تمليه عليه التقاليد والأصول المهنية من واجب علاج أي إنسان يلجأ إليه حتى لو كان إلياهو بن إليسار.

**

حين انتهى الدكتور كمال من الفحص أكد للسفير الإسرائيلي أن علاجه ممكن، ولكن التكلفة ستكون باهظة طبقًا للمعمول به في عيادته الخاصة، ثم أشار عليه أن يبحث عن العلاج في مكان آخر بتكاليف ربما تكون أقل كثيرًا، ويمكنه أن يتقبلها.

اشتط غيظ بن إليسار وقد فهم إشارة الإبراشي إلى المشهور عن اليهود من بخل وشح مشهورين بهما، فقال له وهو يتحدى: أنا مستعد لدفع التكاليف المطلوبة مهما كانت باهظة، وأخرج دفتر الشيكات وسأله عن المبلغ الذي يريد أن يدونه في الشيك.

**

بكل هدوء طلب الدكتور الإبراشي مبلغ 25 ألف دولار.

مباشرة أخرج السفير قلمه وسجل المبلغ على الشيك، ثم سأله عن الاسم الكامل لمن يخوله بصرف الشيك.

مرة أخرى وبكل هدوء وثبات قال الدكتور الإبراشي من فضلك اكتبه لصالح: PLO.

بوغت السفير الإسرائيلي أن يتجرأ أحد على أن يجبره على كتابة شيك لصالح منظمة التحرير الفلسطينية، وقام من فوره وخرج من عيادة الإبراشي مذهولاً، ليتصل بالرئيس السادات ويبلغه بما حدث من طبيبه الخاص.

**

لم يمض عام على وجوده في مصر حتى شعر إلياهو بن إليسار أنه لم يعد له مكان فيها وسط كل هذا العداء الواضح لوجوده بعاصمة العرب، وحمل متاعه ورحل عن القاهرة.

لم يتكلم السادات مع طبيبه الذي رفض "التطبيع" بصورة عملية، وأحرجه شخصيًا مع أصدقائه في إسرائيل، لكنه لم يفوتها له.

يوم السبت 5 سبتمبر 1981 أمر السادات باعتقال الآلاف من المنتسبين لتيار الإسلام السياسي، بالإضافة إلى المئات من الرموز الوطنية من كافة الاتجاهات السياسية والفكرية، من أقصى اليمين إلى أدنى اليسار، مسلمين وأقباط، وشيوخ وشبان، ودس اسم الدكتور كمال الإبراشي ضمن قائمة المعتقلين.

**

في تجليات جمال الغيطاني كان التجلي الأول لجمال عبد الناصر في منطقة الدقي إشارة (إلى أول مكان وضعت فيه أول سفارة لإسرائيل بمصر)، كتب الغيطاني عن هذا التجلي:

 رأيته بلا حرس، بلا مصورين، بلا ضجيج، الناس حوله ماضون، لا ينتبه أحد، لا يتلفت أحد، اندفعت تجاهه، رأي إقبالي، تحول بعينيه ناحيتي، سألني كيف حالك؟، مالك؟ هل تعرفني؟، قلت: ومن لا يعرف من لا يُعرَّف.

قال إذن أنا في مصر، ولكني أرى ما لا يجب أن يُرى.

سألني: هل اخترق الإسرائيليون الجبهة؟، قلت: لا، قال: هل وصلت جيوشهم إلى القاهرة؟، قلت لا. قال: ماذا أرى إذن؟ فسر لي، أليست هذه أعلامهم؟ أليس هؤلاء سياحهم؟، أليست هذه كتبهم وصحفهم؟

قلت: هذا حقيقي، إنني ضد ذلك، لكني لا أجاهر خوفًا وتقية. 

قال متعجبًا: ماذا جرى؟ هل انقلبت الآيات؟

**

في التجلي الثاني بدا عبد الناصر غاضبًا لكنه يفعل، أمر بتنكيس أعلام الأعداء، وإزالتها من فضاء القاهرة، أمر بإلقاء القبض على جميع المتواجدين في الديار، من سفير وأعضاء سفارة، ومندوبين وممثلي هيئات، وجواسيس، ورسم باعتبارهم أسري حرب، أمر وأمر، لم يمتلك قلمًا وشعارًا يوقع به، إنما طاف بالميادين يزعق، الوسائل معدومة، والحيلة واهية، والقدرة قصية، والوجوه غريبة، والسِحَن غير معهودة، والأيام غير الأيام، والزمن خلاف الزمن.

تجلى عبد الناصر في الميدان الكبير، رآه الناس، ولى بعضهم فرارًا، وامتلأوا منه رعبًا، وتعلق به آخرون، اعتقدوا فيه، مشوا خلفه.

**

يتوسع الغيطاني بذكر تفاصيل ما جرى بسبب التجلي في الميدان الكبير، الذي تناقلته وكالات الأنباء، وما وقع من اضطراب في الأسواق العالمية، واستنفار الناتو والساتو، وأعلن حكام إسرائيل إنها الحرب، ثم يُنهي مشهد التجلي بقوله:

من الحواري خرجت النسوة حاسرات، مصفقات، ضارعات، شاكيات، وخرج جمع من هنا وجمع من هناك، وأحجم قادة الشرطة عن اتخاذ أي قرار انتظارًا لما تُسفر عنه الأحوال، وارتجفت صدور، وأينعت قلوب، وفجأة خرج جندٌ كثيف أعمارهم نحو العشرين يقودهم ضابط يرتدي رداء أسود غطيس، حلة غريبة مليئة بالجيوب والطلقات، أشهر خنجرًا، دفع عبد الناصر في صدره، وأومأ فتدافع الجند، اقتادوه، فتفرق الخلق، نزل صمت بغيض، ثقيل، فأينعت الهموم، وتدفقت مياه جديدة في أنهار البلوى.

**

أذكرني ساعة كنت أقرأ التجليات أول ما نشرت وقد فاضت دموعي، لم أستطع المكوث خلف المكتب حيث كنت أقرأ، وخرجت أمشي بالليل على غير هدى، قطعت شارع الزيات حتى وصلت إلى شارع محي الدين أبو العز، قبل أن أصل إلى الفيلا التي اتخذها الصهاينة مقرًا لسفارتهم الأولى في مصر، أوقفني ضابط شاب يرتدي ذات الثياب التي وصفها الغيطاني، لونها أسود غطيس مليئة بالجيوب، ومدججة بالطلقات، يحمل في يده اليمنى رشاشًا، وفي اليد الأخرى جهازًا يتواصل به مع قادته، سألني عن بطاقتي، كنت أحمل كارنيه الكلية، سألني: رايح فين؟، أخبرته أني في طريقي إلى المدينة الجامعية التي لا تبتعد عن المكان أكثر من كيلومتر، نظر إلى وجهي متفحصًا، ثم تركني محذرًا من المشي ليلًا في مثل هذا المكان مرة أخرى. 

**

من أول أيام التطبيع الأسود بين مصر وإسرائيل ظهرت ثم تصاعدت حركة مقاومة جسورة جعلت من السلام بين حكومات البلدين سلامًا كما يصفه الأعداء والأصدقاء باردًا.

 وعلى مر الأيام كان هناك أبطال لمقاومة التطبيع على كافة الجبهات الثقافية والمدنية والسياسية، وسوف تظل أسماء هؤلاء جميعًا تشرق في صفحات التاريخ المصري الحديث، من أول سعد إدريس حلاوة، مرورًا بكمال الإبراشي، ولطيفة الزيات، وسليمان خاطر، وأيمن حسن، ومحمد صلاح، وغيرهم كثيرون.

 سيأتي وقت يفصح فيه التاريخ الحقيقي عن أسماء كل هؤلاء الأبطال ويكشف أدوارهم التي لن تنسى، ولا شك أن قيمة ما جرى يوم السابع من أكتوبر المجيد تجعلنا نقول بكل اليقين أنه لن يطول انتظار هذا الزمان.