محمد حماد يكتب: مات المثقف «اللي عنده دم»

ذات مصر

الواقعة رواها الشاعر أحمد عبد المعطي حجازي، وشهد بها الدكتور جابر عصفور، وتؤكدها زوجة الشاعر الكبير صلاح عبد الصبور، وتتعلق بملابسات وفاته المثيرة للجدل.

معلومٌ أن الموت واحد، وإن تعددت أسبابه، وصحيحٌ أنها آجال مكتوبة، لا تتقدم ولا تتأخر ساعة عن مواعيدها الموقوتة، وتجري مقاديرها بسبب وبدون سبب، ولكن تلك الواقعة تشهد بأن «كلمة» كانت هي السبب وراء موت شاعر بقيمة وقامة الراحل الكبير صلاح عبد الصبور.

وهو يكتب في مسرحيته الشعرية «محمد رسول الحرية» إن «الكلمة نور، وبعض الكلمات قبور»، لم يكن عبد الرحمن الشرقاوي يتصور أن تتحول كلمة إلى مقبرة لصديقة صلاح عبد الصبور الذي قال في قصيدته «مذكرات الصوفي بشر الحافي»: «اللفظ حجرْ.. اللفظ مَنيَّهْ..».

**

لم يستطع صلاح عبد الصبور الشاعر صادق البصيرة مرهف الحس مستيقظ الضمير، أن يتحمل كلمة، آذت كبرياءه، خاصة وأن البعض روى أنه تأثر جدًا أن يتحول مكتبه بمعرض الكتاب في غير وجوده إلى مقر للتحقيق الغير قانوني مع عدد من المقبوض عليهم من المتظاهرين اعتراضًا على مشاركة «إسرائيل» بالمعرض لأول مرة بعد معاهدة كامب ديفيد.

ظل هذا الوضع يضغط على أعصابه ويحرق قلبه، خاصة وأن المتوقع منه أن يعترض وهو المثقف الكبير والملتزم على مشاركة كيان العدو في معرض الكتاب الذي يترأسه بحكم منصبه رئيسًا للهيئة العامة للكتاب.

وكانت الحركة الثقافية قد انتقدت قبول صلاح عبد الصبور لمنصب رئيس مجلس إدارة هيئة الكتاب، في وقت توجهت إرادة الرئيس أنور السادات إلى السماح بوجود إسرائيل بالمعرض الدولي للكتاب.

**

قبل أن يمر بضعة شهور، وحسب رواية من حضروا تلك الأمسية التي سماها الدكتور جابر عصفور في كتابه «رؤيا حكيم محزون» بالسهرة المشؤومة التقى عبد الصبور في منزل الشاعر الكبير أحمد عبد المعطي حجازي كلًا من الشاعر الراحل أمل دنقل، والدكتور جابر عصفور، ورسام الكاريكاتير المبدع بهجت عثمان.

 في تلك الأمسية الحزينة استمع الساهرون في بلكونة الدور الخامس في شقة حجازي إلى تسجيل يحتوي قصائد عبد الرحمن الأبنودي الجديدة وقتها:

ما احناش في زمن الشعب

ما احناش جسد واحد

ولا احناش لون واحد

ولا موجهين بنادقنا الغلط في الكون

ولا بندخل صعب

أخطف وفر

بلا شعب بلا غيره

إن كان هو يقر إحنا نقر

وابقى واضح زي ابتسامة السر

عقَّب صلاح عبد الصبور على المقطع بأن الشعب يستحق ما يجرى له، ما دام يسكت على سارقيه، وما دام لصوصه مطمئنين إلى أنه لا يمكن أن يقر، أو يتمرد.

ولم يكد يفرغ من جملته حتى اندفع بهجت عثمان منفعلاً، موجهًا حديثه إليه: كيف يقر الشعب يا صلاح ومثقفوه خانوه وباعوه؟

 جاء الرد مباغتًا، وبدا كما لو كانت الجملة أثارت ما كان مكبوتاً داخل الشاعر الكبير.

بدا الغضب على وجه صلاح عبد الصبور وهو يسال صديقه القديم عما يقصده بالمثقفين الذين باعوا، فجاءت الطلقة القاتلة على لسان بهجت عثمان:

  ـ أقصد أمثالك يا صلاح، انت بعت ب 3 نكلة.

لم يخرج صلاح عبد الصبور من تلك الأمسية سليمًا، بدا عليه الإرهاق وتمكن منه الغضب وبدأت حالته تسوء فبادر حجازي وعصفور إلى نقله إلى مستشفى قريب، ولم يلبث كثيرًا حتى فارق الحياة داخل غرفة العناية المركزة.

**

كلمة عتاب قاسية، كانت القشة التي قصمت ظهر الشاعر الكبير، فمات المثقف «اللي عنده دم».

لو بعث عبد الصبور حيًا في زماننا هذا لمات ألف ألف مرة، ولعرف أن كلمة نجيب سرور الخالدة أن «المثقف مشروع خيانة حتى يموت»، هي الحكمة المصفاة، وأنها كما كانت صرخة نجيب الحكيمة في وجه كثير من رفاق الطريق، فهي في نفس الوقت بصقة في وجه الذين انتهى بهم الحال في أحضان السلطة التي كانوا في يوم من الأيام من أشد معارضيها.

رغم أن السقطات كانت فظيعة في أيامهم وبمقاييس ذلك الزمان، إلا أن أحدًا من هؤلاء، الذين صرخوا ضد السقوط، والذين سقطوا، لم يكن ليتخيل المدى الذي وصل إليه السقوط في أيام الناس هذه.

ولعل القدر كان رحيمًا بهم أن رحلوا قبل أن يروا هؤلاء الذين يحتالون علينا بما يحملونه على ظهورهم من تاريخ وطني ونضالي سابق، ويسوِّقون مواقعهم الجديدة الدافئة في أحضان السلطة اعتمادًا على مواقفهم القديمة التي صارت باليه تباع في أسواق البالة السياسية.

**

التراجع بالطمع أو بالخوف أو بالنفاق هو "الأستيكة" التي يمحو بها كل متراجع تاريخه، ولو كان ملء المجلدات، يمحو بها كل مواقفه القديمة، لينضم إلى زمرة "الطبالين" التي لا يشرف أحدًا أن يكون منها.

نجيب سرور الذي عانى أشد المعاناة وهو يرى تساقط رفاق الأمس تحت الاغراء أو خوف التهديد، أطلق صرخته أو حكمته الباقية على مر الزمان: "المثقف مشروع خيانة حتى يموت"، وهي قبل أن تكون إدانة لأحد بعينه، هي دعوة إلى عدم السقوط أمام مغارم السلطة ومغانمها، وهي صرخة في مواجهة الذين تغريهم جزرة السلطان أو ترهبهم عصاه، وهي أمل في أن يبقى المثقف صامداً في مواجهة المنافقين والطبالين والمرتزقة الساعين إلى دنانير السلطان وكنفه.

لم يكن نجيب سرور يتوقع وربما لم يتخيل حجم السقوط الذي جرى من بعده، ولا تعدد الخيانات التي ارتكبها مثقفون كانوا رموزاً للنضال ثم صاروا نماذج مخزية على درب خيانة المثقفين، بعضهم يسقط ثم يستخدم مواهبه لتحسين مواقعه الجديدة في أحضان الأمن أو في زرائب السلطة، وبعضهم تحول إلى خلايا النظام النائمة في الأحزاب، أو على الشاشات، وكثير منهم يتخفى في أردية معارضة سرعان ما تسقط عنهم أوراق التوت التي تداري عورتهم المكشوفة.

خيانة المثقف ليست كأي خيانة، وهي ليست مجرد ردة عما كان يؤمن به وتَقَدمٌ إلى معتقداتٍ أخرى بدت له صحتها، بل هي خيانة على الطرفين، خيانة مزدوجة لتاريخه ومعتقداته، وفى الوقت نفسه إقبال وانحياز إلى كل ما كان بالأمس القريب ضده، وهو إذ يفعل ذلك بإتقان وتفانٍ، يستخدم فيه ألاعيب لا يقدر عليها أصحاب الموقع الذي انتقل إليه، فيبدو أصحاب الموقع القديم أقل شأناً منه وهو الجديد عليهم.

**

لا يخون المثقف مواقعه القديمة وحدها، ولكنه يخون أول ما يخون دوره المعارض والمعترض والناقد والمنتقد، فإذا به ينتقل من حالة النقد والاعتراض إلى حالة التبرير والتفسير، وما يتبقى له من قدرة على النقد يستخدمها في نقد الجماعة التي كان ينتمي إليها، والأفكار التي ظل يدافع عنها زمنه الأول، فإذا به يستقيل بالكلية من أي عملية نقد تنير الطريق إلى المستقبل، ليتفرغ للنقد المجاني الذي لا يؤدى إلى شيء.

خيانة المثقف أشـد ضرراً على الوطن من خيانة السياسي أو حتى خيانة المقاتل، فخيانة هؤلاء من الممكن تصحيح آثارها بقليل من الجهد ولو بعد حين، ولكن خيانة المثقف فمفاسدها أشد خطراً على الوطن، وآثارها أشد وطئاً على عملية التقدم فيه، فهي تنخر في وعى الأمة، وتبقيه في القاع لا يقدر إلا على العويل.

المثقف الذي يقدم مصلحته الشخصية على مصالح أبناء بلده هو خائن لنفسه قبل أن يكون خائناً لوطنه، والمثقف الذي يغريه المنصب وتغريه الأموال أو يغريه جاه السلطة وفضائياتها يبيع نفسه لقاء دراهم معدودة لا قيمة لها في الحساب الختامي.

 المثقف الذي يضع مواهبه في خدمة هذا الطرف أو ذاك يعلم أنه يتحول إلى "بلياتشو" يتلون وجهه كل يوم باللون المطلوب، أو هو في أفضل الأحوال يصبح مجرد "أراجوز" تحركه الأيادي التي تستعمله ولا تحترمه.

ويصدق فيه قول الشاعر أحمد فؤاد نجم وهو يفضحه ويفضح ألاعيبه: (يا واد يا يويو، يا مبرراتي، يا جبنة حادقة على فول حراتي، استيك لسانك، فارد وضامم، حسب الأبيج يا مهلباتي).

**

خيانة المثقف ملة واحدة، لكن أسوأ أنواع الخيانة تلك التي يقترفها المثقف في قضايا أمته الكبرى التي تمس شرف الوطن أو أرضه أو تكوينه الوطني الجامع، فتجده يوالي أعداء أمته التاريخيين تقرباً وزلفى من رعاته المحليين، فتجد الواحد من هؤلاء وقد نفض من قلبه وعقله كل ما تعلمه وعَلِمه باليقين حول أعداء الوطن، وهذه ليست خيانة لدور المثقف ووظيفته فقط، بل هي في الصميم خيانة للوطن الذي يتغنى به ليل نهار.

اقرأوا التاريخ سيكشف لكم كيف قامت الديكتاتوريات على خيانة المثقفين، وكيف استبدت برقاب العباد فوق ركامٍ من صمت المثقفين وسخامٍ من خنوعهم، وما بين مثقف خائن، وبين مثقف صامت تضيع من بين أيدينا القدرة على صناعة المستقبل.