محمد حماد يكتب: تقاسيم على مقام «المسافة صفر»

ذات مصر

شاعت خلال ال 47 يومًا من عمر العدوان الإسرائيلي على غزة مفردات وذاعت أسماء، واكتسبت شخصيات شهرة وشعبية، وتوسعت جماهيرية البعض الآخر، وصار رمز «المثلّث الأحمر» مرادفًا لعلامة النصر، وكل يوم يتصاعد شوق الجماهير العربية إلى طلات «الملثم» وصار اسم «أبو عبيدة» علامة للجودة، ورمزًا لصلابة المقاومة، وعنوانًا للكرامة العربية.

المثلث الأحمر، وصورة الملثم، وعبارة «المسافة صفر»، بات كل واحد منها رمزًا موحيًا، يحمل إشارات شديدة الخصوصية، ويعطي دلالات مفعمة بالتفاصيل التي لا يمكن اختزالها خارج مجال تلك الرموز.

قبل ثوانٍ من إطلاق النيران على الهدف، (ناقلة جنود، دبابة ميركافا، جنود متحصنين ببناية) يظهر «المثلّث الأحمر» في الفيديوهات التي توثّق عمليات صيد آليات قوّات الاحتلال داخل غزة، وسرعان ما صار هذا المثلث المقلوب هو الرمز الأكثر تداولاً بين العرب والمصريين على مواقع التواصل الاجتماعي.

**

على مدار شهر ونصف ظلت الجماهير العربية تترقب ظهور الناطق باسم كتائب القسام، تحول في نظر الكثيرين إلى صاحب البشارات، حتى إن البعض يستعجل ظهوره بالقول: «النفسية محتاجة بشارات أبي عبيدة»، ذلك الملثم الذي نجح بإصبع واحد يتقن استخدامه في التأثير المعنوي السلبي على العدو، وبعينين نافذتين تحملان البشارات إلى أنصار المقاومة.

ليست أسماء المقاومين وحدهم هي التي تصدرت قوائم المتابعة والاهتمام العام، هناك أسماء مثل اللواء «فايز الدويري»، والإعلامي «وائل الدحدوح» صارت الأكثر تداولًا على ألسنة ملايين المشاهدين الذين اعتقلتهم الأحداث الجارية على أرض فلسطين أمام الشاشات على مدار الليل والنهار.

أسماء تعبر عن بطولات، وعبارات موجزة، معجزة في بلاغتها على مستوى اللغة، ومعجزة في طزاجتها على مستوى الموقف، باتت تتردد على الألسنة العربية، على رأسها عبارة «المسافة صفر» التي تصلح عنوانًا موحيًا، لرواية طويلة عن التغريبة الفلسطينية منذ انطلقت ثورة 1936 حتى اليوم الذي تدفق فيه «طوفان الأقصى». 

**

يفرقون بين ظرفي الزمان المكان، يُذكَر الأول لبيان زمان وقوع الفعل، ويُذكَر الثاني لبيان مكانه، وحدها «المسافة صفر» تخلط بين الظرفين، تختصرهما في تركيبة خاصة جدًا، فهي ظرف الزمان المحدود، وهي المكان الموعود، مقدار الوقت فيها مُعيَّنٍ، ومكان الفعل مجهل.

وحدها «المسافة صفر» تدمج بين ظرف المكان وبين ظرف الزمان حيث لا يدل ظرف منهما على أي شيء، لا مكان، ولا زمان، هو زمن مبهم، ومكان مفاجئ، في «المسافة صفر» ينفصل الزمان عن المكان، يصير الزمان كله لحظة، ويصبح المكان كله انفجار، في «المسافة صفر» تندمج الحركة في المسافة حتى الصفر، ولن تعرف في «المسافة صفر» الزمن الذي استغرقه الفعل، تنكمش المسافة قد ويندمج الزمان في المكان فتتجلى شجاعة المقاتل المقاوم في مواجهة جبن المعتدي المتحصن في جوف الميركافا المتمترس خلف غطرسته المهدرة. 

**

(هَذي الحياةُ مَسافةٌ فاصْبِرْ لها​) كما يقول أبو العلاء المعري، شطرة البيت هذه تجد صداها في غزة كما لا تجده في مكان غيرها اليوم.

في كتاب المواقف، وفي «موقف القُرب» يقول النفري:

أوقفني في القرب، وقال لي: ما مني شيء أبعد من شيء، ولا مني شيء أقرب من شيء، إلا حكم إثباتي له في القرب والبعد. وقال لي: أنا القريب لا كقرب الشيء، وأنا البعيد لا كبعد الشيء من الشيء. وقال لي القرب الذي تعرفه مسافة، والبعد الذي تعرفه مسافة، وأنا القريب البعيد بلا مسافة. 

في غزة تحس بهذا القرب الذي يلغي المسافة، حتى تصير صفرًا، ويعرج بالزمن إلى منتهاه، ويبارك كل الأماكن لحظة ينادي المقاوم «الله أكبر» وهو يوجه «الياسين» صوب الميركافا وناقلة الجنود نمر.

**

اختار النظام الرسمي العربي تبني سياسة «مسافة واحدة» من المعتدي ومن الضحايا، سياسة تعترف بأن كل القتلى سواء، جعلت كلُّ الرؤوس سواءٌ، قلب الغريب كقلب أخيهم، عيناه كعيني أخيهم، تساوت عندهم يدٌ تقاوم، بيدٍ سيفها يحصد المجازر، حيث لا تكاد تمر ساعة في غزة طوال أكثر من 45 يومًا من دون مجزرة يشيب لها الأطفال.

«مسافة واحدة» هي السياسة التي جعلت بلدًا عربيًا يساعد إسرائيل في العلن وفي الخفاء، وجعلت بلدانًا أخرى ترفض استخدام أيًا من مفاعيل القوة والتأثير لإجبار إسرائيل ومن ورائها على إيقاف العدوان، وتضع حدًا لتلك الهمجية الغير مسبوقة في حروب التاريخ كله.

سياسة المسافة الواحدة من الأخوة والأعداء هي سياسة النظام العربي الرسمي الذي تهاوت سمعته الدولية حتى بين حلفائه وأنصاره في الغرب الذين لا يمكن لهم أن يحترموا قادة وحكامًا يخلعون جلودهم العربية ويرتدون بدلًا منها جلودًا صُنعت في إسرائيل.

**

في المقابل اختارت المقاومة، وانحاز المقاومون إلى سياسة «المسافة صفر». 

فرضت المقاومة معادلة المسافة الصفرية، وأجبر المقاومون عدوهم على القتال وجهًا لوجه، حيث الياسين يواجه الميركافا، ويقطع أشلاء ناقلة الجند المسماة نمر.

أخمن أن «محمود درويش» لو كان بيننا اليوم لكتب قصيدته الجديدة تحت هذا الاسم «المسافة صفر» الأسماء والعناوين لها رونقها، وتحمل كلماتها دلالتها المخبئة في كل حرف منها، وبعض العناوين تملك ألقها المشع، وتستحوذ على تفردها العبقري الذي يستبعد كل عنوان آخر، حيث لا يغني اسم آخر للقصيدة عنه.

دمعتي في الحلق، يا أخت، وفي عينيَّ نار، وتحررتُ من الشكوى على باب الخليفه.

كل من ماتوا، ومن سوف يموتون على باب النهار، عانقوني، صنعوا مني قذيفة.

**

تقرأ في المشاهد التي يبثها الإعلام العسكري للمقاومة نداءات «درويش» كأنه يؤازر كل حركة يقومون بها وهو يهتف بصمت واعتزاز: 

حاصر حصارك لا مفر، اضرب عدوك لا مفر، سقطت ذراعك فالتقطها، وسقطتُ قربك فالتقطني، واضرب عدوك بي، فأنت الآن حرٌّ، وحرٌّ، وحرّ.

قتلاك أو جرحاك فيك ذخيرة، فاضرب بها، اضرب بها عدوك. فأنت الآن حرٌّ.. وحرٌّ.. وحر.

ثم وهو يريد أن يتقمص الأسوار يقول:

قد كذب النخيل عليه. أشهد أنه وجد الرصاصة. أنه أخفى الرصاصة. وأشهد أنه قطع المسافة بين مدخل جرحه والانفجار.

**

«المسافة صفر» تعبير يحمل شحنات مركبة من البطولة والإقدام، أبطالها ليس لهم إلا خيارين الشهادة أو النصر، لا يملكون خيارات أخرى لأنهم باعوا أنفسهم لله وللوطن ولحياة أجيالهم القادمة.

«المسافة صفر» تعني فيما تعني: «جئناكم برجال يحبون الموت كما تحبون الحياة»، هي الرد المقاوم على تلك الحماقة المطلقة، من المتآمرين والمتواطئين، وهي رسالة الصامدين في وجه هذا الجنون المطبق، الذي حمل لواءه الغرب الاستعماري، بالمسافة صفر آلت المقاومة على نفسها أن تحسم تلك المواجهة، وتكسر شوكة تلك البربرية.