هشام النجار يكتب: الإسلاميون وعبقرية الخطة «السباعية»

ذات مصر

الآن ونحن في أمس الحاجة للوحدة والتضامن كأمة واحدة في مواجهة المُصاب الجلل يهاجم (الإسلاميون) ومن يُطلق عليهم (الجهاديون) مصر والدول العربية، ويزايدون عليها ويحرضون ضدها.

دعا كيان يطلق على نفسه «علماء المسلمين» إلى النفير العام وفتح الحدود بالقوة لما أطلقوا عليه (نفرة المجاهدين) واصفين الدول العربية بالتخاذل والتقاعس، مع آيات قرآنية تتحدث عن الكفار والمنافقين.

حرض قادة تنظيم «القاعدة» على استغلال الشحن الشعبي لقيادة انقلابات ضد الحكومات والأنظمة العربية، ودعا أحد قادة التنظيم لتعطيل الملاحة في قناة السويس والاستيلاء على سيناء، لجعلها عمقًا إستراتيجيًا لغزة كما فعل المجاهدون عندما جعلوا باكستان عمقًا لأفغانستان.

لن أناقش هنا دعوات وتحريضًا انفعاليًا عاطفيًا مدفوعًا بحالة الارتباك. ويعلم الجميع أن بث الفوضى في المنطقة العربية وخاصة بدول الطوق لا يفيد إلا خطط إسرائيل، لكن دعونا نسترجع الماضي والتاريخ ونسأل: لماذا وصل العرب ووصلت الأمة لما هي عليه الآن؛ حيث لا تقدر عشرات الدول على دولة مدسوسة ومزروعة وسط العرب والمسلمين؟

من الظاهرات الفاجعة في مسيرة (الإسلاميين)، أن البناء الفكري لا يتراكم طبقة فوق طبقة ومرحلة بعد أخرى ليعلو ويتكامل ويتماسك بحسب آلية البناء السليم، وصولًا إلى حركة ناضجة منتجة مليئة بالخبرات والتجارب ومحتفظة بهذا الزخم ممتدًا ومتواصلًا زمنيًا ومرحليًا ومستفيدة منه في تعاطيها مع الواقع.

بل ترى كل جيل يصاب بالخيبة في قناعات الجيل السابق، ويضطر إلى هدمها تمامًا والانقلاب عليها وإعادة التجربة بالكامل من نقطة الصفر.

كما أن فصائل التيار نفسه لا تتعلم ولا تستفيد من تجارب أقرانها في البلاد الأخرى كحالتي «إخوان مصر» و«إخوان سوريا»، فلا يلبث فصيل أن يفجع في قناعاته ذاتها فلا يسلم مشروعًا متكاملًا ومتماسكًا للجيل الذي يليه، إنما يعمد لتوريث مرارة وسلبيات وإخفاقات التجربة وكوارثها على مستوى التنظير والأداء والممارسة.

هذا حدث في مصر عندما لم تسلم «الإخوان» للجماعات الناشئة في السبعينات، ومنها خلاصة تجربتها والدروس المستفادة منها مع النظام الناصري، بل سلمتها حالة مجتزأة غير متوازنة بأنها واجهت (نظامًا استبداديًا خالصًا)، بحسب زعمهم.

عمدوا لعد مساوئ وسلبيات حكم عبد الناصر من دون إشارة واحدة لخطأ واحد وقعت فيه الجماعة، ومن دون إشارة واحدة لإيجابية قام بها النظام، ومن دون مراجعة فكرية حقيقية شاملة للطرح التكفيري المتشدد، كأرضية تتيح بدء تجربة أميل للإنصاف والتكامل، وأكثر تحريًا وحرصًا على عدم الوقوع في أخطاء المرحلة السابقة.

ولذلك بدأت الجماعات الإسلامية الخارجة من رحم «الإخوان» سواء في مصر أو في سوريا من نقطة الصفر، لتعيد الأخطاء نفسها تقريبًا لـ«الإخوان» في الخمسينات والستينات مع أنظمة الحكم في البلدين، وحتى قيام بعض الجماعات بمصر بمراجعة أفكارهم ومنهجهم ليخلصوا لما خلص إليه «الإخوان» مبكرًا من أهمية التكامل والاندماج في المشهد السياسي ونبذ العنف – كانت الحركة في غنى عن عقدين على الأقل من العمل في دائرة مفرغة لو تم هذا بمصداقية كاملة في الخمسينات والستينات، وورثته «الإخوان» بتجرد كامل لجميع أبناء الحركة في أنحاء العالم -.

الناتج النهائي من تلك الحالة المرتبكة غير الممنهجة هو إفشال هذا لذاك وإفشال ذاك لهذا، وبقاء الوضع على ما هو عليه، واستمرار «الإخوان» والجماعات الأخرى على النهج نفسه، وأساليب التعاطي نفسها مع الأزمات، ومع الآخر المخالف. وفي حال التمكين وفي حال الهزيمة السياسية بالإخفاقات والفشل المتكرر.

لم تتطور الأساليب ولم تتغير وظلت مسارات التحالفات كما هي من عشرينات القرن الماضي إلى اليوم مع اختلافات طفيفة، فالجيش الوطني والدولة الوطنية هما العدو الأول، والطرف الإقليمي والدولي الذي يدعم ويمول هو الصديق وهو الحليف.

(موفق مصطفى السباعي) هو نجل القيادي الإخواني السوري الراحل الكبير الدكتور مصطفى السباعي الذي تولى مسؤولية «الإخوان» في سوريا في الستينات، وكان مراقب «الإخوان» في سوريا، أرسل موفق للدكتور محمد مرسي القيادي بـ«الإخوان» الذي عزل من منصب رئاسة الجمهورية بعد غضبة وثورة شعبية عارمة في 30 يونيو 2013م، يحذره من حضور قمة دول عدم الانحياز، واصفًا الزعيم الراحل عبد الناصر بقوله (المقبور المجرم جمال عبد الناصر الذي أذاق إخوانك في مصر وسوريا أثناء الوحدة المشؤومة التي لم تعاصرها أنت أشد العذاب..)!!!

لو كان السباعي الأب -رحمه الله- حياً لوهب حياته لإعادة صياغة عقل وأفكار نجله الغض وتصويبها، ولكف «الإخوان» عما يرتكبونه من جرم فادح في حق أوطانهم، ودلهم على النهج القويم بعيدًا عن الخيارات الحادة الأحادية المهلكة، سواء لـ«الإخوان» أو للأوطان.

يضع محمد سعيد رمضان البوطي الدكتور مصطفى السباعي بوصفه واحدًا (من أبرز رجالات سوريا)، ويراه (داعية ذا قلب متحرق إلى الإسلام الحق، البعيد عن جهالة التقاليد، المحصن بالعلم والمعتز بالدراية والوعي)، وأثنى البوطي على السباعي حين أعلن بنفسه (حل «الإخوان») في سوريا دعمًا للوحدة التي قامت بين سوريا ومصر، وأولى كل اهتمامه لكلية الشريعة في جامعة دمشق، ووهب نفسه للفكر والدعوة والتعليم ونشر المقالات وإصدار المؤلفات.

صفات مصطفى السباعي ومؤهلاته الشخصية هذه هي التي مكنته من الإقدام على عمل بهذه الضخامة وبتلك الأهمية، فقد وصفه البوطي قائلًا: (إنما كان واحدًا من كبار العلماء الربانيين الذين طهرت قلوبهم بل نفوسهم أيضًا من عكر الأهواء والعصبيات والسعي إلى المغانم الدنيوية باسم الدين وتحت ستاره).

شخصية بتلك الصفات هي المؤهلة لعمل كهذا العمل المبدع الوطني حيث يؤخر مصلحة تنظيمات لحساب مصالح الأوطان العليا، وعندما يصبح تنظيم ما عقبة في طريق وحدة عربية تصون الإسلام والحضارة والمقدسات وتلاحم العرب بتنوعاتهم الدينية والفكرية والمذهبية، فلا قيمة ولا مصلحة وراء بقاء ذلك التنظيم حينئذ.

أثنى على الرئيس جمال عبد الناصر كثيرون من قادة «الإخوان» في مصر مثل فريد عبد الخالق ومحمود عبد الحليم وأحمد رائف وغيرهم، لكن قليلون من استجابوا لدعم مشروعه والإسهام في إنجاح تجربته، ومن هؤلاء القليلين مراقب «الإخوان» بسوريا وقتها العالم الجليل مصطفى السباعي صاحب الخطة التكاملية الملهمة بين الخط العروبي والفكر الإسلامي، وبين الدولة والدعوة، وبين العلماء والرؤساء، فهؤلاء يقومون بالتربية والتثقيف والتنوير وإيقاظ الوعى والإسهام بفكرهم وإسهاماتهم الثقافية في حل مشكلات المجتمع، وأولئك يقومون بدورهم في الحكم وحماية أمن البلاد وسياسة الرعية وحماية الحقوق وحفظ الأوطان.

سعى عبد الناصر لتحالف وشراكة متوازنة مع الإسلاميين، وأفرج عن المعتقلين من «الإخوان» ومن المحكوم عليهم في قضايا التفجيرات ومقتل النقراشي، وحاكم قتلة البنا، ولم يرفض الحكم بالقرآن صراحة وخطب على قبر البنا، وكان الأمر سيختلف لو وجد من ينظر إليه من زوايا إمكانية التعاون معه والتحالف والانطلاق لتحقيق أهداف مشتركة، وليس فقط من زاوية الصدام والقطيعة.

ويبكي القطب الإخواني الكبير فريد عبد الخالق لموت عبد الناصر وهو في السجن ويصفه بالرجل الشريف طاهر الذمة، وقال عنه في كتابه (الإخوان في ميزان الحق): (هدفه الإسلام كأساس للتغيير المنشود، لكن عبد الناصر رأى أن من المصلحة عدم المجاهرة بذلك في بادئ الأمر ولكن تؤخذ الأمور تدريجيًا حتى لا يحارب أعداء الإسلام الحركة في أول عهدها ".

بعد أن قص عليه قصته مع «الإخوان» في مصر – خلال زيارته التاريخية لسوريا -  استجاب السباعي الأب لدعوة عبد الناصر بعد أن تخلى عنه صديقه المنظر الإسلامي المصري سيد قطب الذي بدأ يكتب ويتحرك في الاتجاه المناهض لعبد الناصر والثورة بجانب إخوان مصر بعد أن خذله عبد الناصر في طلبه الخاص بتولي وزارة المعارف وأسندها لكمال الدين حسين.

مصطفى السباعي رحمه الله يقول: (إن الوحدة العربية هي عودة الروح للإسلام فهي وحدها إذا خلصت النوايا عين الإسلام)، وأكد لإخوان مصر أنه إذا ضاع عبد الناصر فلن تعوضه الحركة الإسلامية وأن خلافهم مع عبد الناصر لا مبرر له، خاصة أن كل ما يقوم به يصب في إطار الشريعة ولا يخرج عنها وأنه من غير المقبول والمعقول أن يكون «الإخوان» مع الصهاينة والغرب والشيوعيين في صف واحد ضد عبد الناصر وضد الوحدة بحجة أن القومية العربية نقيض الإسلام وأن الوحدة العربية نقيض الوحدة الإسلامية.

أدرك مصطفى السباعي رحمه خطورة خسارة «الإخوان» لرجل كهذا وأدرك فداحة خسارة فرصة غالية تتحالف فيها الدعوة مع الدولة لتحقيق مقاصد الشريعة من عدالة اجتماعية ومساواة ووحدة عربية وتحقيق مصالح الأمة ونهضتها الحقيقية، ولم يكتف بدعوة «الإخوان» للتراجع عن إعاقة عبد الناصر والصدام معه ومن ثم مؤازرته والتحالف معه، بل بادر وأعطى نموذجًا عمليًا بإصدار كتابه الشهير (اشتراكية الإسلام) عام 1959م.

وفي هذا الكتاب أسس المرجعية الشرعية لما قام به عبد الناصر من إصلاحات اجتماعية واقتصادية، في الوقت الذي كان يشن فيه إخوان مصر وكتابها ورموزها وقادتها حربًا شعواء ضدها باعتبارها ليست من الدين وعلى رأسها قانون الإصلاح الزراعي وسياسة التأميم والاشتراكية.

أتساءل وأنا أنظر لحال أمة ممزقة يتم الاستفراد بساحاتها الواحدة تلو الأخرى من قبل المستكبرين الطغاة من أميركان وصهاينة؛ لو كان الإسلاميون فطنوا لضرورة وأهمية الخطة (السباعية) التي وضعها الراحل القدير المخلص مصطفى السباعي للتكامل مع عبد الناصر، أي تكامل الإسلام مع العروبة.

فهل كانت ستحصل هزيمة ونكسة 1967م، وفي نظري كان سببها عدم استكمال الخط الحداثي وامتلاك أسرار النهضة والتقدم العلمي والاقتصادي، بجانب ضرب المشروعين العروبي القومي والإسلامي بعضهما ببعض.

وهل كانت ستحصل نكبات وكوارث في الساحة الفلسطينية على وقع تشكيل محور إقليمي مناهض للمحور العربي، وهل كان سيحدث شق لصف المقاومة الفلسطينية تستفيد منه إسرائيل؟

لو كان تحقق هذا التحالف المنشود في الاتجاه الذي نصح به مصطفى السباعي رحمه الله، ذلك (الإسلامي الهوى ناصري المزاج عربي الانتماء)، إذن لتحقق ما قال القرضاوي في أحد مقالاته القديمة: (أنه لو كان البنا مكان الهضيبي في الأزمة مع عبد الناصر لكان لـ«الإخوان» فيها شأن آخر).

نعم لكان لـ«الإخوان» وليس للأوطان فحسب شأن آخر، ولكن أكثر الناس لا يعقلون.