هشام النجار يكتب: محمود درويش.. يا دامى العينين والكفين إن الليل زائل

ذات مصر

عندما مات محمود درويش.. قلت إن القلب لم يعد يحتمل، ذلك القلب الذي طالما أنهكته المحن، وصادقته الأحزان، وسكنته الآلام، وسرى في أوردته الغضب.

الزنبقات السود في قلبي 
وفي شفتي اللهب 
من أي غاب جئتني 
يا كل صلبان الغضب 
بايعت أحزاني       
وصافحت التشرد والسغب 
غضب يدي.. غضب فمي 
ودماء أوردتي عصير من غضب 
يا قارئي لا ترج منى الهمس 
لا ترج الطرب 
هذا عذابي 
ضربة في الرمل طائشة وأخرى في السحب 
حسبي بأني غاضب والنار أولها غضب 
لقد مات الشاعر الغاضب بعد أن:
وضعوا على فمه السلاسل 
ربطوا يديه بصخرة الموتى
وقالوا أنت قاتل 
أخذوا طعامه والملابس والبيارق 
ورموه في زنزانة الموتى وقالوا:
أنت سارق 
طردوه من كل المرافئ 
أخذوا حبيبته الصغيرة 
ثم قالوا أنت لاجئ 

يومها منذ زمن أعلنوا موت الشاعر الذي رفض الانتحار وأبى الاستسلام واستعصى على الذوبان واستمسك بالهوية وصرخ منذ بداية القضية:
سجل أنا عربي 
ورقم بطاقتي خمسون ألف 
وأطفالي ثمانية 
وتاسعهم سيأتي بعد صيف 
فهل تغضب؟ 
سجل أنا عربي 
وأعمل مع رفاق الكدح في محجر 
وأطفالي ثمانية 
أرسل لهم رغيف الخبز 
والأثواب والدفتر .. من الصخر 
ولا أتوسل الصدقات من بابك.. ولا أصغر 
أمام بلاط أعتابك 
فهل تغضب؟ 
سجل أنا عربي 
أنا اسم بلا لقب 
صبور في بلاد كل ما فيها 
يعيش بفورة الغضب 
جذوري قبل الميلاد رست 
وقبل تفتح الحقب 
وقبل السرو والزيتون 
وقبل ترعرع العشب 

أبى من أسرة المحراث.. لا من سادة نجب وجدي كان فلاحًا .. بلا حسب ولا نسب 
يعلمني شموخ الشمس قبل قراءة الكتب 
وبيتي كوخ ناطور من الأعواد والقصب 
فهل ترضيك منزلتي؟ 
أنا اسم بلا لقب 
سجل أنا عربي 
ولون الشعر..  فحمى 
ولون العين..  بنى 
وميزاتي:على رأسي عقال فوق كوفية 
وكفى صلبة كالصخر 
تخمش من يلامسها 
وعنواني:أنا من قرية عزلاء.. منسية 
شوارعها بلا أسماء 
وكل رجالها في الحقل والمحجر 
فهل تغضب؟ 
سجل أنا عربي 
سلبت كروم أجدادي وأرض كنت أفلحها 
أنا وجميع أولادي 
فهل ستأخذها حكومتكم.. كما قيلا؟ 
إذن سجل 
برأس الصفحة الأولى:
أنا لا أكره الناس 
ولا أسطو على أحد 
ولكنى إذا ما جعت 
آكل لحم مغتصبي 
حذار.. حذار 
من جوعى ومن غضبى 
كان هذا هو الخبر:فقد مات الشاعر الذي هزت قصيدته العدو وأثارت ذعره، وجعلته قلقا على حاضره ومستقبله في أرض كل ما فيها يلفظه وينبذه:
أيها المارون بين الكلمات العابرة 
احملوا أسماءكم وانصرفوا 
واسحبوا ساعاتكم من وقتنا وانصرفوا 
واسرقوا ما شئتم من زرقة البحر ورمل الذاكرة 
وخذوا ما شئتم من صور، كي تعرفوا 
أنكم لن تعرفوا،
كيف يبنى حجر من أرضنا سقف السماء ..؟ 
أيها المارون بين الكلمات العابرة 
منكم السيف – ومنا دمنا 
منكم الفولاذ والنار – ومنا حجر 
منكم قنبلة الغاز – ومنا المطر 
وعلينا ما عليكم من سماء وهواء 
فخذوا حصتكم من دمنا .. وانصرفوا 
وأدخلوا حفل عشاء راقص .. وانصرفوا 
وعلينا، نحن، أن نحرس ورد الشهداء 
وعلينا، نحن، أن نحيا كما نشاء 
أيها المارون بين الكلمات العابرة 
كالغبار المر، مروا أينما شئتم ولكن 
لا تمروا بيننا كالحشرات الطائرة 
فلنا في أرضنا ما نعمل 
ولنا قمح نربيه ونسقيه ندى أجسادنا 
ولنا ما ليس يرضيكم هنا:
حجر.. أو حجل 
فخذوا الماضي، إذا شئتم – الى سوق التحف 
وأعيدوا الهيكل العظمى للهدهد، إن شئتم، 
على صحن خزف 
فلنا ما ليس يرضيكملنا المستقبل 
ولنا في أرضنا ما نعمل 
أيها المارون بين الكلمات العابرة 
آن أن تنصرفوا 
آن أن تنصرفوا 
ولتموتوا أينما شئتم، ولكن لا تموتوا بيننا 
فلنا في أرضنا ما نعمل 
ولنا الماضي هنا 
ولنا صوت الحياة الأول 
ولنا الحاضر، والحاضر، والمستقبل 
ولنا الدنيا هنا.. والآخرة 
فاخرجوا من أرضنا 
من برنا.. من بحرنا 
من قمحنا.. من ملحنا.. من جرحنا 
من كل شيء واخرجوا 
من ذكريات الذاكرة 
أيها المارون بين الكلمات العابرة. 
كان هذا هو الخبر:فهل حقا مات درويش؟ 
وان مات محمود درويش، فان القضية لم تمت، وفلسطين لن تموت وإن غزة سوف تعيش.. 
يا دامي العينين والكفين 
إن الليل زائل 
لا غرفة التوقيف باقية 
ولا زرد السلاسل 
نيرون مات، ولم تمت روما 
بعينيها تقاتل 
وحبوب سنبلة تموت 
ستملأ الوادي سنابل..