هشام النجار يكتب: رؤية نقدية لقصة الأديب الغزاوي رائد أحمد محمد محمد (دُميـَة)

ذات مصر

كم عمر الوقت المنقضي الآن؟

ست ساعات ؟!...كن كافيات لهزيمة الجيوش العربية بأكملها.

لم تشفع صدمة اليوم الأول أن تكسر المقاومة في غزة حتى اليوم السادس الآن!

ستة أيام لم نذق النوم إلا قليلا، اعتدنا منذ بدء العدوان ألا ننام إلا مجتمعين، لأننا أحببنا أن نضمن موتنا الجماعي إن قدر لبيتنا أن ينضم إلى قائمة البيوت المقصوفة، كنا نخشى أن يشرب أحد حسرة أحد، لهذا آثرنا الموت أو الحياة، لكن...

معًا!

ليلة البارحة بالذات، تعمدنا أن نحشر أنفسنا في بطانية واحدة، أنا وزوجتي وابنتي الصغيرة، لأن قافلة البيوت المقصوفة كانت تزحف نحونا سراعًا.

كَفّنّا أنفسنا جيداً تحت البطانية، واستعددنا للرحيل نائمين، لم نستيقظ إلا على صوت البيت وهو ينفجر، ولم أفطن إلى أن البيت المنفجر ليس بيتنا إلا عندما تأكدت من استمرارية حاسة السمع عندي، واستمرار تمييزي للأصوات، ومن ثم فقد بدا واضحًا لي أن شبابيك وأبواب بيتي المخلوعة كانت بسبب القصف الذي طال أحد بيوت الجيران الذي يبعد عنا نصف كيلومتر تقريبا! نجحت في إطفاء بكاء الصغيرة بعد جهد جهيد.

ولكي أضمن مغادرتنا الجماعية التي تقترب وتقترب، فقد شددت رباط الكفن، وتعمدت أن أعصر الصبية بين جوانحي.

كان شعورًا مزدوجًا، رغبة في الموت الجماعي، وتمني وابتهال لسلامة الصغيرة.

لم ينقطع الصوت حتى الصباح، وهذا يعني أنني لا زلت ممتلكاً لحاسة السمع، وبالتالي لا زلت حيًا.

استفقنا جميعًا، أنا وزوجتي والصغيرة، كان استيقاظنا في نفس اللحظة، كأن كل واحد منا أراد أن يبرهن للآخر بقاءه على العهد، إما الموت أو الحياة... لكن.

معاً!

المذاق اللزج للماء، لم يمنعنا من التفكير في فنجان الشاي الصباحي، وفرمل استمرارية التفكير نضوب جرة الغاز المنزلية، وتعذر الحصول على خشب للنار، والرغبة في توفير لتر الغاز العزيز، وعليه فتكدر المزاج المتتالي لا يتحمل مسئوليته استمرارية انقطاع الكهرباء، ولا المذاق اللزج للماء، ولا أصوات الطائرات، ولا بيت الجيران المقصوف، بل تعذر إمكانية ارتشاف فنجان من الشاي الذي ارتقى ليكون جزء من الهوية الاجتماعية لنا كفلسطينيين، وما زاد الطين "بلة"، هو صراخ الطفلة المتعالي، وبكائها المتتالي الذي لا ينقطع، هذا ما أجبرني لأن أصرخ في زوجتي:

- ما بال الصبية؟ ...أسكتيها، هل هذا وقت البكاء!!!!!!!

وحينما أخبرتني زوجتي أن الصبية تبكي لأنها لمحت دمية صغيرة على بعد خمسين متراً من البيت، كانت ترغب في اللعب بها، حمدت الله، لأنني شعرت برجولتي فبإمكاني الآن أن أحقق إحدى رغبات ابنتي الكثيرة والصغيرة

لكن... المستعصي تحقيقها!

طلبت من زوجتي أن تحدد لي مكان الدمية، أشارت إليها، أمعنت النظر في الاتجاه المطلوب، لمحت دمية بلاستيكية طولها ثلاثون سنتيمتر تقريبًا.

وجدتني مستغربًا كيف لمحت طفلتي الدمية من هذه المسافة، كيف لمحتها خاصة وأن الدمية كانت مغطاة بالرمال، ساورني شك أن الصبية ترى أكثر مني ومن والدتها، وهذا ما أكد لي أن العطل المفاجئ الذي طال حاسة الرؤية عندنا ليس سببه الكهرباء المقطوعة ولا دخان المنازل المحترقة، بقدر ما أن سببه هو الحالة النفسية المتأزمة المهيمنة، وهذا ما لا تشعر به الفتاة فيؤهلها لأن تبصر بصورة أدق وأكبر!

أبصرت الدمية من فوهة الباب..

تحينت اللحظة المناسبة لالتقاطها...

طمأنت فتاتي الصغيرة... لكني يبدو أنني لم أبدُ مقنعاً لها، لهذا استمرت في البكاء والصراخ، ووجدتني في ورطة كبيرة، كيف أفهم الصغيرة أن الخروج من البيت مسافة خمسين مترًا ليس بالأمر الهين! ولا بالأمر المستساغ.

شعرت أن نهايتي مقصوفًا بسبب دمية صغيرة لابنتي، لن تكون قصة مستساغة تلوكها أفواه الناس المنتظرين.

لكن طالما أن المسألة لم تعد مسألة جلبي للدمية لإسعاد الصغيرة بقدر ما هي محاولة لإثبات رجولتي! فقد قررت المغامرة متجشمًا كل الممكنات واللاممكنات!

ودعت زوجتي بابتسامة، وكذا الصغيرة، حاذيت بين المنازل، سرت على وجل، تعمدت ألا أسير في منتصف الشارع، بل "حافًا" في بيوت الجيران المتتالية، كان هدير "الزنانة" يبعث في نفسي شعوراً باللاصوت!

لكن هذا لم يمنعني من التقدم... والتقدم.

أول خمسة أمتار كن الأصعب، وآخر خمسة أمتار منحتني شعورًا بسراب يبتعد ويبتعد، لكن هذا لم يمنعني من التقدم أيضًا.

ولما لامست الدمية لأعود.

شعرت بانقطاع الصوت.

شعرت بالموت.

لأن الدمية استحالت فجأة لتبدو جثة لطفلة لم تتجاوز الأيام الأولى!

تيقنت أنها جثة لرضيعة طارت من أحد البيوت المقصوفة.

وبدا لي أن لهيب القصف لم يشفِ غليله منها، فلامسها دونما اختراق أو احتراق، وهذا ما منحها ملمسًا بلاستيكيًا رائعًا!

عدت بالدمية، ليس إلى بيتي المعمور، بل إلى أكثر الأماكن عمرانًا وأمانًا هذه الأيام.

عدت إلى المقبرة.

تمت

رؤية نقدية.. تحليل موضوعي:

قصة الأديب الغزاوي رائد غنيم "دمية" تقترب بكاميرا مكبرة من الواقع الذي نتابعه عبر شاشات الفضائيات حيث تنقل على الهواء مباشرة الحرب الإجرامية والعدوان الهمجي الأثيم على غزة.

كنا نتابع الحدث من أعلى بعمومه عبر صورة كلية نقلت المشهد من الفضاء، ورائد هنا ينزل بنا على الأرض لنعيش معه أجواء قصة من آلاف القصص التي تشهدها شوارع غزة وبيوتها أثناء الحرب.. وكل حرب.

هو كمن يكتب مذكراته، فلا تشعر بأن الراوي شخص آخر غير البطل، وهذا التوحد وبراعة التقمص سر من أسرار روعة القصة التي جاءت متماسكة ومحكمة، خاصة في حبكتها التي أشاعت الحزن في النفس بعد اكتشافنا أن "الدمية" التي كان الهدف من السعي إليها هو الرغبة في إثبات الوجود والتمسك بالحياة، فإذا بنا أمام "موت" آخر أصابنا – مع الراوي وزوجته وابنته – بالعجز واليأس وضاعف من مأساوية المشهد ودمويته ولا إنسانيته.

فدمية الصبية التي رغبت فيها وسط الحصار والقصف ما هي إلا صبية مقتولة، والرغبة في اللعب تجهض بالموت والقتل وما تبقى من بهجة وأمل في إضفاء بعض السعادة على طفلة يُقبر في حفرة الموت التي صارت أوسع وأنشط من ساحات الحياة .

تجديد إبداعي:

البلاستيك المصنوع للعب والبهجة كان قطعة لحم مدفونة في الرمال، والحياة المبثوثة في جسد طفل تحولها القاذفات الحارقة إلى قطعة بلاستيك ميتة ستدفن أيضا في الرمال - "فلامسها دونما اختراق أو احتراق، وهذا ما منحها ملمسًا بلاستيكيًا رائعًا!".

إنها الرمال إذًا! ستحتضن الصبية "الدمية"، والدمية "الصبية" معًا وقد صارا شيئا واحدًا.

إنها أرض غزة التي دفنت إسرائيل في أرضها البهجة والفرحة والبراءة..

والتي طغى فيها الموت على الحياة وطغى القتل والدم والحزن على اللعب والحركة والبهجة، وكان المشهد القصير الأخير في القصة كفيلًا باختصار المأساة..

فالبطل بدلًا من الرجوع لابنته باللعبة "الدمية" تجبره آلة الحرب والدمار على الذهاب بجثة "الدمية" الى المقبرة..

ولعله أدرك سر بكاء الصغيرة المتواصل وهي تشير الى ما حسبناه وظنه الزوجان دمية، لعل شيئًا ما بداخلها، غريزة ما كانت ترى بها ما لم نره، فهي لم تبك رغبة في اللعب أو الحصول على بعض المتع الصغيرة، كانت ترى الجسد المطمور تحت الرمال، فتبكى عن بصيرة، أن جسدًا مثل جسدها الغض قد سرق منه العدو الحياة وحانت إراحته تمامًا من التعب، وكأنها تطلب لرفيقتها الغوث، أو لعلها تنعاها، أو تنعى مصيرها المرتقب، أو كأنها تطلب من أبيها الإسراع في الذهاب بتلك البراءة بعيدًا عن هذا العبث الجنوني فوق الأرض.

التصوير الفني:

المشهد يرسم الموت ويغطى به كل شيء؛ يغطى به البيوت، حيث يجمع الأب نفسه وزوجته وابنته الصغيرة في كفن واحد، فقد تعاهدوا على الموت معًا.

ويغطي به المكان كله، حيث صارت المقبرة "أكثر الأماكن عمرانًا وأمانًا"!

ويغطى به براءة الطفولة ورغبتها في الحياة واللعب والحركة والبهجة؛ حيث استحالت "الدمية" الى جثة طفلة.

القصة وإن افتقرت في معظم مشاهدها الى التصوير الفني الجزئي، إلا أن هذه الصورة الفنية الكلية كانت في غاية الروعة والاحترافية والإبداع، حيث صورت غزة كمكان وساحة للموت والخوف والحزن والألم اللامتناهي، لا مكان فيها ولا مجال للراحة واللعب والبهجة والحياة.

تمنيت أن تكون القفلة عند قوله "ملمسًا بلاستيكيًا رائعًا"..

فهي أوقع وأكثر إثارة وإحكاما من الإضافة إليها بالجملتين التاليتين الأخيرتين، وهما: "عدت بالدمية، ليس إلى بيتي المعمور، بل إلى أكثر الأماكن عمرانًا وأمانًا هذه الأيام، عدت إلى المقبرة"، اللتين اعتبرهما زائدتين مما حرم هذه القصة الرائعة من قفلة محكمة تليق بها