هشام النجار يكتب: المهنة مراسل حربي... قصة: بقلم /هبة الله محمد حسن

ذات مصر

 

تحليل ورؤية نقدية لقصة المهنة مراسل حربي

 

الشقة مظلمة تقريبا كأنها تعكس ظلام روحه..الغثيان يتصاعد بصورة هائلة ويضيف إليه جحيمًا جديدًا..

مشي مترنحًا إلى الحمام عندما رآه واقفا هناك..الجسد المشوه المغطى بالدماء؛ الذراع اليمنى لم يعد لها وجود وثقب إحتل مكان عينه اليسرى.. تحامل على أعصابه وأقترب فاختفى الطيف على الفور..أفرغ ما في جوفه وعاد مرة أخرى مترنحًا إلى حجرة نومه..لابد وأن ينام..سيلقي بأي كم من الأقراص في جوفه..أي كم يكفي لجعله ينام حتى ولو كان نومًا أبديًا لكنه عندما اتجه إلى الفراش وجده راقدًا عليه..أقل بشاعة من الطيف الآخر..فقط ثقب في منتصف الجبهة وعينان لائمتان..لا يعرف إلى من توجهان لومهما بالضبط..هنا كاد ينهار تمامًا..أنقذه رنين الهاتف الذي إنطلق في تلك اللحظة..فأسرع إليه ورفع السماعة كأنه يتعلق بها:

-       آلو.

-       لماذا لم تأتِ حتى الآن؟

-       ولماذا آتي؟..لم انه إجازتي بعد.

-       يمكنك أن تعتبرها انتهت..جهز أشياءك بسرعة فستسافر اليوم.

-       اسمع..إن أعصابي متعبة تمامًا منذ المرة السابقة..أحتاج لبعض الراحة و................

-       يمكنك أن تقول هذا لرئيس القناة أما أنا فمهمتي إبلاغك فحسب..سلام.

وضع السماعة وتجاهل الطيف الجالس في ركن الردهة وقرر أن يجهز أشياءه..لابد وأن يرحل بعيدًا عن نفسه ..نعم سيرحل إلى أي مكان..حتى لو كان الجحيم الذي أتت منه تلك الأطياف.

***

اختبأ هو والمصور خلف بعض الأنقاض.. حبس أنفاسه والمصور يلتقط المشاهد القاسية بآلة تصويره.. قريبًا منهما وقف الجنديان وقد أمسك أحدهما بشاب بائس وأرقده على بطنه على الأرض.. حاول الشاب التملص لكنهما ثبتاه جيدا..انتفض جسده وهو يسمع صوت قرقعة العظام التي تتحطم وصرخات الفتى وهي تخترق السماء..شعر بآلة التصوير تهتز في يد زميله..أي لون من البشر هؤلاء و............................. قطع تفكيره فجأة عندما لمح ذلك الثعبان الزاحف على ذراعه.. تراجع بحركة لا إرادية  صارخًا وهو ينفض الثعبان بعيدًا..هنا التفت الجنديان إليهما..أشار أحدهما برأسه إلى الآخر فترك الجسد المحطم ليطوقهما من الجهة الأخرى..

مرت المشاهد أمام عينيه غريبة متقطعة.. الجندي يشير بيده للمصور أن يعطيه الكاميرا.. المصور يتشبث بها ويرفض التفريط فيها ودون أي اكتراث تنطلق الرصاصات من مدفع الجندي ليسقط جسد المصور على الأرض..الجندي يوجه مدفعه جهته..يميل بجسده لتخترق الرصاصات جسد الجندي الآخر وترديه قتيلا..في حنق شديد يرفع الجندي مدفعه من جديد بينما هو يتراجع بظهره ويتعثر في جسد الجندي الآخر المكوم على الأرض..مدفعه ملقى بجواره..يلتقط المدفع بسرعة بينما الجندي الآخر يستعد للإطلاق..بلا وعي يضغط هو الزناد لتخترق الطلقات جسد الجندي الباقي وتطيح به إلى الأرض..التقط آلة التصوير بسرعة وأخذ يعدو هاربًا من شيء لا يعرفه.

***

بعد حصوله على الفيلم الهام الذي أثار زوبعة هائلة عند عرضه..زوبعة أخرى سرعان ما ستهدأ مثل غيرها..عندها قرر رئيس القناة انه بالفعل يستحق إجازة ليريح فيها أعصابه..قرر أن يقضي معظم وقته يتجول في الشوارع أو يجلس على احد المقاهي..بعدما أنهى إحدى جولاته اتجه صاعدًا إلى شقته عندما قابل الصغير..ابن جيرانه في الشقة المقابلة..كان الفتى الصغير يحمل كيسًا صغيرًا ممتلئاً بالعصافير فسأله:

-       ما هذا؟

-       لقد كنت أصطاد العصافير

لا يعرف ما سر ولع الصغار باصطياد هذا الكائنات الرقيقة التي لا تسمن ولا تغني من جوع..هم بمتابعة صعوده عندما استوقفه الفتى..قال بلهجة خطرة ليعطي إيحاءًا بأهمية ما لديه من معلومات:

-       هل علمت بما حدث لكلب طنط شيرين؟

-       ماذا حدث؟

-       لقد وجد مقتولًا وممزقا بطريقة بشعة.

-       يا الهي..ألم يعرفوا من فعل به هذا؟

هز الصغير كتفيه قائلا:

-       إن الشرطة ليس لديها وقت للاهتمام بأمور الحيوانات.

-       فعلا إن الشرطة ليس لديها وقت للبشر ليكون لديها وقت للحيوانات.

نظر إليه الفتى في استغراب متسائلًا لكنه لم يضف شيئًا وواصل طريقه صاعدًا الدرج عندما قابلته تلك القطة المتسللة..تراجعت بظهرها وهي تنظر إليه  في تحفز..في ثوان كان قد قفز عليها وحملها أسفل ذراعه..أخذت القطة تحاول التملص وهي تخمشه بأظافرها لكنه احكم قبضته عليها..

-آسف يا صغيرتي ولكنني أحتاجك الليلة.

قالها مخاطبا القطة ثم دلف إلى شقته..أغلق الباب واتجه إلى المطبخ..أحضر السكين والقطة ما زالت تحاول التملص بجنون..بهدوء مر بنصل السكين على عنقها ثم وضعها على الأرض..لثوان ظلت القطة ترقص رقصة الموت الأخيرة قبل أن تسقط جثة هامدة..ركع على الأرض بجوارها وغمس يده في الدماء وباستمتاع غريب أخذ يرسم مربعات مشوشة على الحائط..بعد قليل نهض وغسل يديه واتجه إلى فراشه وارتمى عليه وانخرط في البكاء..لا يعرف ماذا حدث له؟..لماذا أصبح شرهًا لرؤية الدماء هكذا..أي شيطانٍ احتل جسده وسيطر عليه..أخيرًا نام والدموع لا تزال على وجنتيه..عند منتصف الليل استيقظ وعيناه تشعان ببريق غريب.. دماء.. دماء..يشعر بحاجة إلى دماء الآن..بحث بجنون في الشقة لم يجد مصدرًا لها..لذا فقد أحضر السكين الحاد وقطع شرايينه وأخذ يرقب المشهد الممتع.

 

رؤية نقدية 

 

تحليل موضوعى:

 (المهنة مراسل حربى ) قصة مليئة بالحلول لعقد شتى ، وليس فقط حلا واحدا لعقدة واحدة!

ليس مهمًا هنا أن نتعرف على اسم البطل وملامح وجهه؛ فما يهم فقط هو فضح تلك الروح القلقة المشوشة المتلبسة بتلك الشخصية والساكنة فى أغوارها المحطمة.

قد نتعاطف معه فى البداية متوهمين أنه يعانى صراعًا نفسيًا بسبب طيف الجثة التي تلاحقه فى غرفة نومه وحمامه وفوق فراشه.

تلك الجثة التى ربما رآها مع جثث أخرى وهو يقوم بالتغطية الصحفية في ساحة احدى المعارك، ولفرط  رومانسيته وانسانيته فهو يتعذب ويعانى، لكن سرعان ما ينتابنا الشك تجاهه هو.

أمام عينى طيف الجثة اللائمتين اللتين (لا يعرف الى من توجهان لومهما بالضبط)!

ونتساءل أمام هذه العقدة: عينا الجثة .. إلى من توجهان لومهما بالضبط  ؟

 وقد نتعاطف معه مرة أخرى عندما نجده يلح على طلب إراحة أعصابه، لدرجة نتمنى معه أن يسمح له مدير القناة بإجازة طويلة تعفيه من معايشة هذه الوحشية والدموية والقساوة، لكننا بعدها ندرك أن الإجازة غير ذات قيمة وأن أعصابه لن تهدأ ولن تعرف الراحة بعد أن تحولت حياته كلها الى ميدان حرب وصراع مرير مدمر وأنه هو نفسه يعيش على لذة القتل ويشتهى الدماء.

نعود – رغم كل الشكوك والظنون – فنرق له وقد رق قلبه لمشهد العصافير الرقيقة التى صادها ابن الجيران، ولا ينتابنا شك فيه ونتساءل معه عمن قتل ( كلب طنط شيرين) بهذه الوحشية!

وتلك عقدة أخرى تبحث عن حل؛ فمن قتل الكلب بتلك القسوة؟

(شكوكنا لا تتجه ناحيته إلا بعد رؤيتنا لمشهد القطة والسكين على عنقها)..  

وأمام هذه العقد المكثفة والتساؤلات الغامضة :

 هل نتعاطف مع تلك الشخصية أم نعتب عليها أم نلومها ونتهمها؟

هل هو ضحية طبيعة عمله القاسية، حيث حولت تلك المشاهد الوحشية حياته جحيمًا؟

أم أنه قاتل لا يتورع عن بناء مجده الشخصى ونجاحه المهنى على حساب قتل الآخرين وسفك دمائهم.

وأيضا: من قتل الكلب؟

و كما لم نعرف مصير الكلب إلا ونحن نشاهد النهاية المأساوية للقطة.

فعقد القصة كلها وتساؤلاتنا الحائرة وأعصابنا المشدودة لم تهدأ وتستريح إلا مع الحل غير المريح الذى جاءت به النهاية المفجعة.

لكن تبقى إشكالية الرمز قائمة حتى بعد مشهد النهاية الذى فضح ازدواجية الشخصية الرئيسية فى القصة وكشف شذوذها ومرضها المقيت.

فلمن توجه القاصة ادانتها؟

من هم أولئك الذين يتلذذون بالدماء ويشتهون القتل؟

من هم أولئك الذين يبنون مجدهم المهنى على حساب سفك الدماء البريئة وازهاق الأرواح؟

من هم أولئك الذين يظهرون الشفقة بالعصافير، وداخلهم وحوش شريرة نهمة للقتل ورؤية الدم الغزير؟

من هم أولئك الذين يختبئون خلف أهداف زائفة ومهام انسانية مزيفة ليرتكبوا جرائم  لم يعد باستطاعتهم التوقف عن ارتكابها؛ لأنهم لم يعد بمقدورهم العيش بدون دماء وقتل، وان لم يجدوا من يقتلونه (انسان – حيوان – كلب أو قطة) ليتشبعوا بدمه قتلوا أنفسهم؟

ومن هم أولئك الذين يسيرون فى طريق مرصوف بالدماء والأشلاء، نهايته الانتحار؟

القصة ذاخرة بالأفكار والقضايا المكثفة التائهة فى أعماق بطلها الموحشة، القابعة الى جوار نهايته البئيسة والتى تبحث عن حل.

 

تجديد ابداعى:

 

 طريقة عرض مميزة وقدرة على وصف الأحداث الكبيرة والمشاهد الطويلة بعبارات موجزة قصيرة معبرة عن كل شئ ناقلة كل التفاصيل، هذه أصول كتابة القصة، وهذا هو ما برعت فيه القاصة .

فنراها على سبيل المثال فى البداية تنقلنا الى مكان القصة وتعرفنا على طبيعته من حيث الإضاءة والصوت (ظلام وصوت غثيان البطل) وأيضًا تعرفنا على طبيعة بطل القصة..  كل ذلك فى سطر واحد أو سطر ونصف (الشقة مظلمة تقريبًا كأنها تعكس ظلام روحه ...).

لفتة فنية أخرى وهى براعة القاصة فى الوصف؛ فقد استطاعت أن تنقل لنا المشهد (فى ساحة الحرب وفى المنزل) بكل عناصره من حركة وصوت وضوء ورائحة.

وما أعجبنى حقا هو أن القاصة فى الأساس تريد الغوص فى أعماق بطلها وفضح نفسيته المريضة الشاذة؛ أى أنها تصف هنا شيئا معنويا غير مرئى ، ورغم ذلك ضجت القصة بالحركة وذخرت بالأفعال المحسوسة (مشى – أفرغ – اختبأ – انتفض – تتحطم – يزحف – تنطلق – يسقط – يرفع – يتعثر – تطيح – ترقص – غمس – قطع .. الخ) .

هنا برعت القاصة فى وصف حالة نفسية مضطربة مشوشة شاذة بدون عبارات وأوصاف باردة جامدة مفصلة على مقاس هذه الحالة ، انما بأفعال محسوسة وحركات ملموسة وأحداث ومشاهد نابضة بالوحشية والشذوذ .. تفوح منها رائحة الدم .

تصوير فنى:

القصة لم تذخر بالصور الفنية الجزئية، لكن صورتها الفنية الكلية عوضت هذا النقص وجعلت المتلقى فى انشغال من نهايتها الى بدايتها فى توضيب عناصر هذه الصورة الكلية فى خياله، بما أنساه التساؤل والبحث عن فنيات وصور جزئية.

الصورة الكلية هنا مدهشة بالفعل وهى سر تميز القصة الحقيقى الى جانب روعة

السرد وسلاسة اللغة؛ حيث نقلت القاصة مشاهد الصراع السياسى والانسانى الساخن

فى الشوارع والميادين الى داخل البيت، بل إلى داخل النفس البشرية القلقة المشوشة، ومن يظن أن الجناة والقساة هم فقط من تنقل الشاشات والصحف أنباء وصور جرائمهم وتجاوزاتهم، سيعيد التفتيش داخل نفسه، حيث انتقلت عدوى الوحشية والقساوة والشذوذ الدموى لناقلى الصورة ومتلقيها.

فلم يعد هناك من يشمئز ويستنكر ويعترض ويرفض مظاهر العنف والقسوة، انما هناك تبن شبه كامل لمنهج الدم والقتل ليس فقط من ناقلى الصورة والخبر، بل من الجمهور من مختلف الأطراف.

لا تسأل عن سر ولع الصغار باصطياد العصافير وخنق حريتها فى كيس بلاستيك صغير، ولا عن تحول الصحفى لقاتل شرير فى واقع سمح للقتل أن يمتد ليسكن كل زواياه وبيوته ومنتدياته وساحات حواره ومقاهيه ونواديه ومؤسساته، بدلًا من أن يحاصره فى ميادينه ويجفف منابعه ويصده بالعدل ويمنع تسربه وانتشاره بالانصاف والشفافية والاعلام المسئول وايقاظ الوعى.

لا تسأل عن القتل والدم والشذوذ واشتهاء الافناء، وهناك من يشتهى إذلال عقول البشر بتغييب الحقائق أو تزييفها وامتطاء الزعامة والقداسة والنجومية والشهرة على حساب براءة المشاهد وعواطفه الحماسية تجاه فكرة ما.

لم يعد الصراع الدموى والقتل الوحشى محصورًا فى ساحة القتل، منبوذًا من المجتمع، إنما امتد لساحات حياتنا، فان لم يقتل أحدنا الآخر المختلف معه بوحشية وقسوة تمنى ذلك على الأقل، حتى صارت حياتنا ذاتها منبوذة لا تطاق.

لماذا المراسل هنا من دون عامة الناس ؟

لأنه المدان الأول والمطلع الأول على القتل والدم دون إدانة وكشف للحقائق، ودون رفض للظلم أو انحياز للعدل أو اعتراف بالحقيقة وتبصير للناس.

والقصة هنا بتفاصيلها ونهايتها توصيف دقيق وتصوير فنى كلى لواقع ينتحر ويخطط ويتآمر على ذاته وينفذ بنفسه خطة الانتحار.